"على أسوار بولندا" وفي غاباتها

الهجرة غير الشرعية حين تصير حبل النجاة الأخير!
كمال اليماني
September 27, 2024

"على أسوار بولندا" وفي غاباتها

الهجرة غير الشرعية حين تصير حبل النجاة الأخير!
كمال اليماني
September 27, 2024
.

الكاتب خالد باعزب قدّم للمكتبة اليمنية والعربية روايتين؛ الأولى بعنوان (عدن 2016)، والثانية -وهي التي أنا بصدد الحديث عنها- بعنوان (على أسوار بولندا)، وهي من إصدارات العام 2023 عن دار عناوين في القاهرة، وجاءت في 151 صفحة من المقاس المتوسط. ظهرت على الغلاف عبارة (قصة الموت على الحدود)، بما يعني أنّ هذا الكتاب يحوي رواية، لكن الرواية حوت سيرة ذاتية للمؤلف، وقد عرّف الناقد الفرنسي فيليب لوجون السيرة الذاتية بأنها: "حكيٌ استعاديّ نثريّ يقوم به شخص حقيقيّ عن وجوده الخاصّ، عندما يركز أساسًا على حياته الفردية، ولا سيّما على تاريخ شخصيته"، والمؤلف خالد باعزب، وإن كان قد سرد مرحلة قصيرة من عمره هي فترة خروجه من اليمن في رحلة للهجرة غير الشرعية، إلا أنه كان هو السارد وهو المؤلف في الوقت ذاته؛ بما يعني -حسب ميثاق السيرة الذاتية الذي وضعه الناقد الفرنسي ذاته- أنّ هذا المنتوج الإبداعي هو سيرة ذاتية، أو فلْنقُل إنه رواية سيرذاتية. 

والحق أنّ الثيمة الأساس، بل الثيمة الوحيدة في هذه الرواية، هي الهجرة غير الشرعية ومتاعبها ومآلاتها، فخالد باعزب يصف بشكل تفصيلي ما دفعه للهجرة، وما آلت إليه محاولته هذه، وكيف سارت أيامه ولياليه في رحلة الشقاء تلك.

تناول ثيمة الهجرة غير الشرعية عددٌ كبير من أدباء العالم العربي، لا سيما أولئك الذين عاشت بلدانهم ثورات الربيع العربي، وعانت إثر الانقلاب على هذه الثورات الكثير من التردي الاقتصادي والاجتماعي والأمني في تلكم البلدان، الأمر الذي ضيّق على الشباب معيشتهم، وقلّل فرص العمل أمامهم.

عن المعضلة

أبسط تعريف للهجرة: "الانتقال بشكل فردي أو جماعي من موقع إلى آخر، بحثًا عن وضع أفضل اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو دينيًّا أو سياسيًّا، وتكون غير شرعية حين يتم هذا الانتقال وعبور حدود البلدان دون موافقة البلدين المُهاجَر منها وإليها".

ولقد تناول ثيمة الهجرة غير الشرعية عددٌ كبير من أدباء العالم العربي، لا سيما أولئك الذين عاشت بلدانهم ثورات الربيع العربي، وعانت إثر الانقلاب على هذه الثورات الكثيرَ من التردي الاقتصادي والاجتماعي والأمني في تلكم البلدان؛ الأمر الذي ضيّق على الشباب معيشتهم، وقلّل فرص العمل أمامهم، وسدّ أبواب الرزق في وجوههم، ممّا دفعهم إلى بيع ما يملكونه وما يملكه أهاليهم لتحقيق حلم الهجرة والوصول إلى أوروبا، باحثين عن أمل يراودهم، وحلم يناديهم لتحقيقه هناك. 

ولأنّ الهجرة غير الشرعية هي أقل تكلفة، فهم يلجؤون إليها مضطرين لضيق ذات اليد، مما يوقعهم في مخاطر جمة لا حصر لها، بل إنّ كثيرًا منهم يفقد حياته أثناء رحلته تلك.

تجارب عربية

الروائي المصري حمدي أبو خليل، له رواية بعنوان (قيام وانهيار الصاد شين)، والصاد شين هما حرفان يرمزان إلى البدو المصريين والليبيين في زمن معمر القذافي الذي سعى لدمجهم. وقد صدرت الرواية بعد ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية عن دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بعنوان (رجال يبتلعون الشمس)، وليس خافيًا التناص بين هذا العنوان، وعنوان رواية الشهيد الفلسطيني غسان كنفاني (رجال في الشمس)، والرواية تحكي قصة رجلين حاولا الهجرة إلى أوروبا بطريقة غير شرعية، فأفلح أحدهما وأخفق الآخر. 

ورواية أخرى للروائي معاذ الحمري من ليبيا، بعنوان (ما بعد الغرق)، تتحدث عن الهجرة غير الشرعية عبر قارب ينقل بطل الرواية وآخرين عبر البحر الأبيض المتوسط. 

والروائية السورية سوسن جميل حسن، هي أيضًا، لها رواية بعنوان (خانات الريح 2018)، تصف فيها المهاجرين، بقولها: "أفراد هائمون وبحار لا تنتهي إلا بموت محكم. أجسادهم منفوخة طافية تنهشها الأسماك المفترسة، وأرواحهم تشكّل غيمة مترعة بالبكاء".

كثيرة هي الروايات التي تحدثت عن الهجرة غير الشرعية ومآسيها، ورواية خالد باعزب تصطف إلى جانب كل تلك الروايات متحدثة -من وحي تجربته الشخصية- عن هذا النوع من الهجرات.

الممر الموسكوفي

تبدأ رحلة السارد من القاهرة التي سافر إليها من عدن، بهدف الدخول إلى تركيا باحثًا عن فرصة دراسية تمكّنه من الدخول إليها، ليهيئ نفسه للولوج إلى أوروبا بعد ذلك، غير أنه لم يوفق في الحصول على فيزا للدخول إلى تركيا رغم محاولته الحثيثة؛ مما يدفعه للسفر إلى موسكو، فالسفارة الروسية تسهّل دخول الأجانب إليها، وفي ذهنه أنّ موسكو ستكون ممرًّا آمنًا للوصول إلى مينسك عاصمة بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، ومنها إلى ألمانيا عبر الدخول إلى بولندا. 

يصل السارد إلى مينسك، وهناك عبر تواصله مع أحد المهربين، استطاع الوصول إلى الحدود الفاصلة بين البلدين، وبين السياجات البيلاروسية، والسياجات البولندية، يتعرض السارد وثلة من مهاجرين يمنيين من مناطق شتى، من (عدن، تعز، ردفان، يافع، ومناطق أخرى)، وآخرين عرب من (سوريا، فلسطين، العراق، الجزائر، مصر)، ومهاجرين من إفريقيا، يتعرضون جميعهم لأنواع لا حصر لها من العذابات التي أبدع السارد في وصفها، حتى لكأنك تعيش معهم، ومعه، لحظة بلحظة. تحس بآلامهم، وأوجاعهم، بظمئهم وجوعهم، بإحساسهم بالبرد القارس، ويأسهم الذي تغلغل في صدورهم من كثرة محاولات النفاذ إلى الحدود البولندية دون طائل، فالراوي ذاته قد شرب من ماء المستنقعات بعد أن نفد الماء الذي بحوزته، وأكل أوراق الشجر من الجوع، وتاه في غابة ممتدة لا يعرف كيف يخرج منها، وراح يلاحقه فيها ضبع يتحيّن لحظة أن يضعف فيسقط ليكون وجبة سائغة له، ومن شدة البرد والجوع والتعب، كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لولا أن تعهده الله برحمة منه، فقيّض له من ينقذه، وفي الغاب اشتمّ رائحة منتنة تبيّن أنها جثة أحد المهاجرين الذي قضوا جوعًا وظمأً وبردًا.

الرواية سارت في خط أفقي متسلسل، حيث لا استرجاعات فيها، واعتمد الراوي فيها عنصر تسريع الزمن عبر لجوئه إلى الجمل: "انتظرنا ساعتين، بعد يومين، ظهر ضوء الفجر، مضت ثماني ساعات"، وهكذا، كما أنه إمعانًا منه في تسريع الزمن، ابتعد عن الحوار في الرواية بشكل مطلق.

اعتمد الراوي لغةً فصيحة هي أقرب إلى لغة الصحافة، في السرد وفي الوصف. 

وكانت حبكة الرواية مسبوكة، وأحداثها متضافرة بعضها إلى بعض، فلا تكاد تصل إلى نهاية حدث حتى يربطك بحدث تالٍ متشابك معه. 

ولأنّ الرواية متعدّدة الأحداث والأماكن والأوقات، عمد الراوي إلى تقديمها متفرعة في أقسام، وكان السارد بطلها المحوري، أما باقي الشخصيات فكانت أقل من ثانوية. 

لكل شخص قصة مختلفة تستحق أن تُروى. لكن قصص الفشل والمعاناة هي التي لا يستمع إليها الناس، ما يتذكرونه فقط هو قصص الوصول بنجاح، رغم الكم الهائل من قصص فشل محاولات الدخول للكثير من الذين تعرفت عليهم، فمعظم من يتوقون للهجرة غير الشرعية يفكرون بأن أوروبا ستستقبلهم بالأحضان.

مقتبسات نصية

"رأيت الضوء خلفي يقترب بسرعة، فقررت الاستسلام ورفعت يديّ للأعلى. لم أعلم ما حدث لي بعد ذلك بالضبط، فالضرب انهال عليّ من عدة نواحي بأعقاب البنادق، وداستني أقدام الجنود بوحشية على الرغم من استسلامي المبكر". 

"كنا نختلس النظر من الستار عندما اتجه أحد الجنود نحو الغابة ممسكًا بحبلين لكلبين بوليسيين، قد انطلقا كالرصاصة يقتفيان أثر الجزائري. لم يمر وقت طويل حتى لاح لنا الجزائري راكضًا نحونا، والكلاب تجري في إثره. صعد الشاحنة بصعوبة وهو يئن. كان ينزف دمًا من ذراعيه وقدميه. قال إنه سقط عدة مرات وهو يعدو فنهشه الكلبان. لم يلبث إلا برهة حتى رأيناه يبكي من الألم". 

"صدمت حين رأيت نفسي في مرآة الفندق، فقد كان شكلي مخيفًا جدًّا، وقد خسرت ما يزيد على عشرين كيلو جرامًا من وزني وأنا النحيل قبل ذاك".

"كنت أخشى فقط الموت في الغابة وأدفن في وطن غير وطنني".

ما يتذكره الناس

في الخاتمة، يوضح لنا الروائي الهدفَ من تسجيله كلَّ هذه الأحداث التي مر بها في رحلته التي لم يجد وصفًا لها خيرًا من (قصة الموت على الحدود)، إذ يقول: "لكل شخص التقيت به في الغابة، قصة مختلفة تستحق أن تُروى. لكن قصص الفشل والمعاناة هي التي لا يستمع إليها الناس. ما يتذكرونه فقط هو قصص الوصول إلى أوروبا بنجاح، رغم الكم الهائل من قصص فشل محاولات الدخول إلى أوروبا للكثير من الذين تعرفت عليهم، فمعظم من يتوقون للهجرة غير الشرعية يفكرون بأن أوروبا ستستقبلهم بالأحضان، وسيجدون الإنسانية التي يدّعونها لهم في الإعلام".

محاولات عدة خاضها السارد للنفاذ إلى بولندا والوصول عبرها إلى ألمانيا، فهل تراه قد أفلح في محاولته الأخيرة في النفاذ والوصول؟

سؤال ستجد إجابته ساطعة في نهاية رحلته التي ستعيش معها –ولا شك- أمتع اللحظات، وستحبس أنفاسك خلال قراءتك أحداثَها؛ داعيًا له في كل محاولة أن ينجح ليتخلص من عذاباته التي شهدها.

•••
كمال اليماني

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English