تمثل المقولةُ الشعبية: "لَقَا زِحِفِهْ، عَرَّضَهْ" واحدةً من مكونات التراث الشفاهي المتداول في اليمن، وهي هنا في صورتها الصوتية التي جاء عليها انتشارُها في جغرافية المديريتين: "ماوية" من محافظة تعز، و"الحشا" من محافظة الضالع، مع امتدادٍ نسبيٍّ متفاوتٍ إلى أجزاءٍ من المديريات المجاورة لهاتين المديريتين، بما في ذلك مديريات تابعة لمحافظة "إب".
وفي هذه الجغرافية التداولية فاعليةٌ لنسقها اللغوي الذي استقامت عليه شِفاهِيَّةُ تداولِ هذه المقولة. وأول خاصيةٍ من خصائص هذا النسق، تظهر في اللفظ "لَقَاْ"، الذي يمثل أداةً محكيةً بحتةً، تحمل الدلالتين الظرفيتين: الزمانية والمكانية (حينما/أينما).
ومن تلك الخصائص، خاصيةُ العدول عن قاعدة الفصحى في حركية الإعراب على أواخر الكلمات، العدول عن ذلك إلى (السكون)، وهو ما يبدو على الصوتين الأخيرين من اللفظين: "زِحِفِهْ/عَرَّضَهْ".
كما أن لهذه الخاصية -في هذين اللفظين- قوةً تحويرية لآخر صوتٍ من كلٍّ منهما، وهو صوتُ (الهاء) الذي اشترك فيه اللفظان، وآل إليه ضميرُ الفاعلة المؤنثة (التاء)، من ماهيته (تاءً مفتوحة)، في صياغته الفصحى "زحفتْ/عرّضتْ". حيث كان للمحكية هيمنةٌ واضحةٌ في إرساء خاصية (السكون) على أواخر الكلمات، وبمستوىً تفصيليٍّ مغايرٍ لبعضٍ مما يمكن أن تشترك فيه المحكية مع الفصحى في هذه الخاصية (سكون أواخر الكلمات)؛ وفي ذلك يتضح أن المحكية قد غايرت الفصحى، وهو المُلاحَظُ في التخفيف المستهدِفِ صوتَ التاء (الفاعلة المؤنثة)، تخفيفًا مستمرَّ الفاعليةِ حدَّ التجاوزِ لماهية (التاء) الصوتية، تجاوزًا فيه ضمنية الاستئناس بصوت (الهاء) -الفاعلة- إحالةً على (تأنيثها)، فقد اكتفت المحكية للدلالة على الفاعل، وجنسه (الأنثى) بحركة (الكسرة) في صوت (الهاء)، مستثمرةً ما في هذا الصوت من خيطٍ دلاليٍّ على الفاعل المؤنث.
وتظهر خاصيةٌ أخرى من خصائص هذا النسق اللغوي، في حركة (الكسرة) على أول صوتٍ من الفعل الماضي "زِحِفهْ"، حيث انسحب تأثير هذه الحركة على الصوت الثاني من الفعل، فظهرت عليه حركة (الكسر)، وبذلك، أضفتْ تناسبًا صوتيًّا على حركة الصوتين المتتابعين: (ز/ح). وهي خاصيةٌ مطردةٌ في كثيرٍ من الأفعال الماضية في جغرافية التداول لهذه المقولة، فيقال مثلًا: "ذِهِبْ، ورِجِعْ، وغِضِبْ،..."، في حين لا تظهر هذه الخاصية المحكية على أفعالٍ ماضية أخرى، فيقالُ مثلًا: "غَرَسَ، وسَكَبَ، وقَلَعَ..."، وهو ما كانت عليه الحال في ثاني الأفعال من هذه المقولة "عَرّضَهْ". كما لا تظهر هذه الخاصية باطرادٍ على الأفعال ذاتها، في كثيرٍ من الجغرافيا اليمنية، كما هي الحال في جغرافية التداول المشار إليها.
"زِحِفِهْ/زحفتْ" من الزَّحْفة، وفي المحكية اليمنية، الزحفة "هي: إعياءُ القدمين وكلالُ الركبتين تعبًا لطول مشي، أو ضعفًا لمرض أو طول عمر. والزّاحِف والزاحفة هما: من كان بهما ذلك. يقال: سار فلانٌ حتى زحف، أو تعمّر حتى زحِفَت ركبتاه...، والمسن من الحيوانات يزحف..."[1].
تنحدر دلالةُ "الزحفة" هذه من المعجم الفصيح، فالإعياء فيه، مما تحيل عليه مادة (زحف): "زحَفَ البعيرُ وغيرُه: أَعيا. (أَزْحَفَ): أَعيا. و- القومُ: صاروا زَحْفًا. و- السَّفَرُ فلانًا: أَعْياه"[2].
ومن المعجم الفصيح ذاته جاءت دلالةُ "عَرَّضَهْ/عَرّضتْ"، ومن جزئيةٍ من دلالات هذه المادة فيه، هي دلالة "العَرْض" خلاف الطول[3]. و"العارْضِةْ" في المحكية هي الطريق الأفقي الذي تختطُّهُ الأقدام في منتصف السفح، خلافًا للطريق الرأسي المتجه إلى أعلى السفح، حيث تتموضعُ ربوةٌ مستويةٌ غالبًا ما تكون مأهولةً بعدد من المنازل.
المعنى الذي تحيل عليه المقولة، هو: أن الحيوية والطاقة والنشاط حينما يُداهمُها فتورٌ وإعياءٌ وإنهاكٌ، يكون البحث عن طريقٍ أسهل، وإن لم يكن موصلًا إلى الهدف.
يؤدي الحيوان مهمته بأقصى ما لديه من طاقة، وحينما يصيبه الإعياء، وهو في طريقه صاعدًا السفح، فإنه يتخذ من السير في طريقٍ أفقي في السفح مسارًا له، ويَتَفَهّمُ صاحبُه سبب تغيير مساره
لقد اتخذ الإنسان من الحيوان وسيلةَ نقلٍ، يحمل عليها أغراضه واحتياجاته، ورافقتْه هذه الوسيلة على امتداد تكوينه الحضاري في سيرورة التاريخ، حتى استطاع ابتكار بدائله، في آليات النقل المتنوعة.
في كثيرٍ من أصقاع الدنيا، لم تعد هذه الوسيلة سوى تراثٍ تاريخي مرويٍّ للأجيال الحديثة، أما في حياة الإنسان اليمني، فما زال أمامها أزمنةٌ غيرُ معلومةٍ حتى تصبح من تراثه التاريخي. لم يستطع اليمني الاستغناءَ عنها، لا شك أنه كغيره من إنسان العصر قد شملتْه الطفرةُ الصناعية؛ فحلَّتْ آلياتُ النقل الحديثة محلَّ هذه الوسيلة، لكن -مع ذلك- لم تستطع هذه الطفرة أن تصل به إلى الاستغناء عن هذه الوسيلة، لا سيما في أريافه وقراه النائية، حيث الوهاد والطرق الجبلية، والمسالك الوعرة. كما أن هذه الطفرة قد خذلت الإنسان اليمني في أحدثِ لحظةٍ من تاريخه حينما لاذ بالحيوان وسيلةَ نقلٍ؛ حتى يواجه عذاباته المعاصرة التي تأتي في مقدمتها معاناته اختفاءَ المشتقات النفطية بين الحين والآخر.
من هذا السياق جاءت هذه المقولة، وفيه تنامى حضورها وتداولها، سياقُ استعانةِ الإنسان اليمني بالحيوان -حميرًا أو جِمالًا- في نقل أغراضه واحتياجاته.
يؤدي الحيوان مهمته بأقصى ما لديه من طاقة، وحينما يصيبه الإعياء، وهو في طريقه صاعدًا السفح، فإنه يتخذ من السير في طريقٍ أفقي في السفح مسارًا له، ويَتَفَهّمُ صاحبُه سبب تغيير مساره.
تقلّصت إحالاتُ المقولة على هذا السياق بتدرجٍ متنامٍ مع تنامي الطفرة الصناعية، لكن لم يتقلص تداولها الشفاهي، بل استمر بحيويةٍ إحاليةٍ متجددةٍ، فاستوعب المستجدات التي تسري فيها إمكاناتُ الإحالةِ به عليها. واستجد في هذا التداول الإحالةُ بالمقولة على الإنسان، بل يمكن القول إن الإنسان قد صار هو المحورية الإحالية في ترديد المقولة، وليس كل إنسان مشمولًا بهذه المحورية الإحالية، وإنما الإحالة على إنسانٍ ذي مواصفاتٍ معينة، هو الإنسان الذي يحاول مغافلة إعيائه بالبحث عن مسلكٍ أسهل من المسلك الذي شعر بعدم استطاعته مواصلةَ السير فيه.
وهنا يحضر الاتساق بين البيئة الأولى للمقولة وبين ما آلت إليه من إحالةٍ على الإنسان، الاتساق في مكوناتها الموضوعية ودلالاتها، أي تداولها في موقفٍ يكون للإعياء والإنهاك دورٌ رئيس في استحضارها الشفاهي فيه.
حظيت هذه المقولة -لحيويتها الإحالية- بالتطور الدلالي، ومن أشكال هذا التطور اكتنازها بالإحالة على موقفٍ لا فاعليةَ فيه لإعياءٍ أو إنهاكٍ يمتطيه الشخص الباحث عن مسارٍ أسهل عوضًا عما هو في صدد السير فيه، وإنما انطلاقًا من سماتٍ شخصيةٍ تتواشج فيها المخادعة والمواربة؛ فيكون البحث عن مسارٍ أسهل تلبيةً لهذه السمات، ومخاتلةً لمن تُهمه استمراريةُ المسار على صعوباته، لا العدول عنه إلى الأيسر منه.
ومثل ذلك إحالةُ المقولةِ على موقفٍ يُعايشُ فيه شخصٌ ما الظلمَ أو الإهانةَ أو التعسفَ، ممن هو أقوى منه، فلا يبدي المظلوم في موقفٍ كهذا أدنى مواجهةٍ أو انتصارٍ لذاته. وعوضًا عن ذلك، يخادع نفسه بالبحث عمن هو أضعف منه؛ فالأضعف منه سيكون بمقدوره النيلُ منه دون تبعات، فيصب على رأسه حممَ غيضه وضغينته، يُخادِع حقيقة انهزاميته بتفريغ شحنة انفعاله ورغبته الانتقامية في الأضعف منه، فيتراتب الظلمُ بتراتب القوة والنفوذ، ويعيش كثيرون ازدواجية (الظالم/المظلوم)، ازدواجيةٌ يكون صاحبها مظلومًا ممن هو أعلى منه، وفي الوقت نفسه ظالمًا لِمَنْ هو أقلّ منه نفوذًا وقوة.
هوامش:
[1] مطهر علي الإرياني، "المعجم اليمني (أ) في اللغة والتراث، حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية"، دار الفكر، ط1، دمشق، 1417هـ/ 1996م، ص: (383).
[2] مجمع اللغة العربية، "المعجم الوسيط"، مكتبة الشروق الدولية، ط4، القاهرة، 1425هـ/ 2004م. ص: (390).
[3] نفسه، ص: (594).