يتصور معظم الناس أن مهنة الطبيب والمعالج النفسي تنحصر في الاستماع لشكوى المريض، ومن ثَم إعطائه النصائح والإرشادات أو العقاقير الطبية، إن استدعى الأمر ذلك. هذا التصور القاصر يظهر لنا وظيفة العاملين في مجال الصحة النفسية بالسهلة واليسيرة، فيما تغيب عنا تفاصيل كثيرة يعيشها الطبيب والمعالج النفسي عند وقوفه إلى جانب المريض، في رحلة علاجه التي قد تستغرق وقتًا طويلاً.
في تبادل للأدوار تتيح خيوط للعاملين في الصحة النفسية الحديث عن مشكلاتهم والتحديات التي يواجهونها، وأيضًا المخاطر التي قد يتعرضون لها أثناء عملهم، بصفتهم أطباء ومعالجين نفسيين، في بلد يبدو فيه العلاج النفسي وظيفة هامشية وربما مرذولة.
تعاني العديد من المرافق الصحية في اليمن من نقص في الموارد، وهشاشة في البنية التحتية، ما يؤثر على جودة الرعاية الصحية عمومًا، وفي مقدمتها مجال الصحة النفسية.
التأثر بحالات المرضى
يلتقي الطبيب والمعالج النفسي كل يوم بعدد من المرضى المصابين بندبات نفسية، من مختلف الخلفيات الثقافية والاجتماعية، والذين يلقون حملهم على الطبيب. هذا الأمر وبحسب الأخصائية النفسية إيمان البريهي له تأثيره على الطبيب. تقول البريهي لخيوط: "يتأثر الطبيب أو المعالج النفسي بمشكلات المرضى، حتى لو كانت نسبة التأثير بسيطة، لأن العمل في مجال الصحة النفسية يتطلب قدرة عالية على التعاطف، وفهم مشاعر الآخرين، ما يعني أن المعالج قد يشعر بعبء المشاعر السلبية أو التوتر الناتج عن قصص ومتابعة المرضى."
"ولكي يتمكن الطبيب والمعالج من الحفاظ على التوازن النفسي، يتم تدريب الأطباء والمعالجين النفسيين على كيفية إدارة هذه المشاعر، والتعامل معها بطريقة مهنية. إذ يمكن أن يؤثر ذلك على صحتهم النفسية، إذا لم يتمكنوا من التعامل مع الضغوط بشكل صحيح، ما يجعل من الضروري أن يعتنوا بأنفسهم ويبحثوا عن الدعم عند الحاجة،" تضيف البريهي.
تعاني العديد من المرافق الصحية في اليمن من نقص في الموارد وهشاشة في البنية التحتية، ما يؤثر على جودة الرعاية الصحية عمومًا، وفي مقدمتها مجال الصحة النفسية. تتابع البريهي:"قد يتعرض الأطباء، والمعالجون النفسيون، لضغوط نفسية كبيرة، بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية في البلاد، ما يؤثر على قدرتهم على تقديم الرعاية الجيدة. وقد يكون هناك نقص في فرص التعليم المستمر والتدريب، ما يحد من تطوير المهارات، واللحاق بآخر مستجدات التطورات العلمية في هذا المجال."
يحتفل العالم في العاشر من أكتوبر/تشرين أول بيوم الصحة النفسية، وقد اتخذت منظمة الصحة العالمية من شعار "جعل الصحة العقلية والرفاهية للجميع أولوية عالمية" شعارًا لها لهذا العام.
علاج عبر الهاتف!
الطب النفسي حديث الولادة في اليمن، أو أنه غير معروف شعبيًا إلا بوصفه طب المجانين، وهو ما يعكس جهل كثير من الناس طبيعة عمل الطبيب والمعالج النفسي.
تتعجب عضو الجمعية اليمنية للطب النفسي، فاطمة عدلان، مما يطلبه البعض منها أثناء تعاملاتها مع الناس. تقول لخيوط: "قد يطلب أحدهم أن أعالج قريبه عبر الهاتف، وهذا الأمر صعب وغير مقبول. إذ لا يمكن معالجة شخص مريض في خمس دقائق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، دون الإلمام بتفاصيل الحالة ووضعها النفسي والاجتماعي. فالمريض لا بد أن يأتي بنفسه، بكامل إرادته وقناعته. أما طلب التداوي عبر الهاتف، أو عبر لقاء خاطف، فغير مجدٍ بالنسبة للمريض، وأمر مرهق بالنسبة للمعالج النفسي. وهو أمر يعاني منه معظم الأطباء النفسيين، سواء الجدد في المهنة أو القدامى."
ليس هذا فقط ما يُطلب من الطبيب النفسي. تضيف عدلان: "أحيانًا يطلب من الطبيب أن يوجد في كل الأوقات، دون أن يراعي طالب الخدمة أن هذا الطبيب له حياته الخاصة، وله مشكلاته وقضاياه الاجتماعية والعاطفية والنفسية. بعض المرضى لا يتقبل هذه الفكرة، ويتوقع من الطبيب أن يوجد دائمًا وبكل الأوقات."
المردود المادي للعاملين في الصحة النفسية ليس بالمستوى الذي يليق بالجهد الذي يُبذل، والوقت الذي يُنفق، والحضور الوجداني الذي يبذلونه.
التفهم لم يزل محدودًا
يعتقد الكثير من الناس أن الطبيب والمعالج النفسي لديه حل لكل المشكلات، بما فيها الاجتماعية، الأسرية، والعاطفية.
تتابع الطبيبة فاطمة عدلان: "ما زال الناس ينظرون الى الطبيب والمعالج النفسي على أن لديه عصا سحرية. يأتي المريض ويرمي بثقله على الطبيب، منتظرًا منه أن يحل جميع المشكلات التي عاشها منذ أن ولد إلى أن وصل إليه، ثم يتبرم إذا لم يجد الطبيب العلاج لهذه المشكلة، لأن الأطباء النفسيين قد يعتذرون عن حل بعض المشكلات الأسرية والاجتماعية." وتضيف عدلان: "لكن المريض يشعر أنه ما دام دفع قيمة الكشف، فلا بد أن يجد له الطبيب النفسي الحل لكل مشكلاته."
المردود المادي للعاملين في الصحة النفسية ليس بالمستوى الذي يليق بالجهد الذي يُبذل، والوقت الذي يُنفق، إلى جانب الحضور النفسي والوجداني الذي يبذله الطبيب.
تقول طبيبة فضلت عدم ذكر اسمها لخيوط: "أجور الأطباء والمعالجين النفسيين في اليمن غالبًا منخفضة، وقد يلجأ البعض منهم للعمل في العيادات الخاصة، لكن هذا يتوقف على قدرة الناس على تحمل تكاليف العلاج. الكثير من المرضى يتذمرون من قيمة الكشف رغم أنها ليست مرتفعة. لكنهم ينظرون للطب النفسي بوصفه مجرد طب شعبي، وفي أحسن الأحوال مجرد استشارة."
تفهم الناس لطبيعة العلاج النفسي ما تزال محدودة، وهذه إحدى الإشكاليات التي يواجهها الطبيب أو المعالج النفسي. تضيف الطبيبة: "في بعض الحالات نطلب من المريض إجراء فحوصات معينة، لكن المريض يستنكر هذا الأمر، ويشعر أن في هذا الطلب استنزافاً مادياً بلا طائل، في الوقت الذي نكون، باعتبارنا أطباء، بحاجة لنتائج الفحوصات هذه، للتأكد من عدم أو وجود تداخلات جسدية معينة لنتمكن من كتابة العلاج الصحيح."
تعرض بعض الأطباء لأنواع شتى من الاعتداءات والضغوطات، ليس ردةَ فعل من مريض نفسي وحسب، بل حتى من أقارب ومحيطين بالمريض.
الطبيب غير محمٍ
رحلة العلاج النفسي والوصول إلى مرحلة التعافي تتطلب تجاوب المريض مع المعالج والعلاج، لكن اتكالية المريض على الطبيب تعد واحدة من أكبر مشكلات العلاج النفسي، تقول الأخصائية النفسية منيرة النمر، لخيوط: "يعتقد المريض أن المعالج النفسي سوف يغير نمط حياته، ويحل كل مشكلاته، لكن الواقع أن المعالج هو مجرد وسيلة لوصول المريض للتعافي، فيما يتوقف التعافي على المجهود الذي يبذله المريض لاستعادة حياته الطبيعية، ومدى تطبيقاته لإرشادات المعالج، أحيانًا نصل الى إحباط في حالات كثيرة، لأننا نحاول أن نساعد المريض لكنه غير متعاون، ويقاوم التقنيات العلاجية."
من بين التحديات التي يواجهها العاملون في الصحة النفسية هو رفض وعدم تقبل المجتمع لهم. تصف النمر ردة فعل الناس عندما تخبرهم بوظيفتها: "مجرد القول إنك أخصائي نفسي يجعل الحاضرين يوجهون إليك نظرة ريبة، كأنك شخص غريب الأطوار.." تفسر النمر هذه النظرة أنها ناتجة عن استنكار الناس لقيام المعالج النفسي بعلاج أشياء روحية غير ملموسة، والتعامل مع مشاعر وتعقيدات نفسية، وليس مع أشياء مادية كالأدوية."
"مثل بقية الأطباء، وربما نحن أسوأ، نتعرض لتهديدات من بعض المرضى،" يقول طبيب نفسى تحفظ عن ذكر اسمه. ويضيف في حديث لخيوط: "بحكم حساسية مجالنا وتدخله في حياة الأسر، نواجه ردات فعل خطرة من بعض المرضى. فعليًا الطبيب النفسي في اليمن غير محمٍ قانونيًا، وقد يُعتدى عليه بسبب موت المريض أو دخوله في مضاعفات، وأحيانًا عندما يتعرض لانتكاسة تكون لديه توهمات تسوقه إلى الطبيب الذي عالجه، فيهدده ويعتدي عليه."
يستذكر الطبيب ما حدث لزملائه، قائلاً: "تعرَّض بعض الأطباء لأنواع شتى من الاعتداءات والضغوطات، ليس ردةَ فعل من مريض نفسي وحسب، بل حتى من أقارب ومحيطين بالمريض، وتعرضوا لمشكلات لم يخرجوا منها إلا بعد تقديم أموال طائلة، ولأجل هذا يجب أن تحفظ للطبيب النفسي كرامته وأمنه."