لكل مجتمع بشري تراتبيته الخاصة التي تنشأ بفعل جملة من العوامل الديموغرافية والجيوسياسية، كما أنّ له تقسيماته المائزة عن بقية المجتمعات الإنسانية الأخرى التي تتكون وفق متراكمة اجتماعية/ ثقافية تتعلق بالدين والعادات والأعراف، إلخ.
والمجتمع اليمني، بطبيعة الحال، ليس استثناء في سياق اجتماعي/ عالمي واحد يتفاعل مع محيطه وبيئته الخاصة، فثمة تقسيمات وتراتبية في بنيته الاجتماعية/ الثقافية، نشأت منذ القدم، بحيث صارت بالتقادم، ثابتة من ثوابت مكوناته، ولازمة شبه طبيعية لأهم خصائصه، قد لا يستطيع التخلص منها أو تغييرها بسهولة.
هذه التراتبية تشكّلت على أسس عرفية – قبَلية قوامها الحرفة ابتداء، ثم الانتماء تاليًا، حتى غدت بمثابة مسلمات وثوابت اجتماعية تقليدية بفعل العادة، التي ربما لم يستطع حتى الدين أو أية أيديولوجيا طمسها أو تبديلها بشكل جذري كامل، وإن كانت ثمة إزاحات هنا وهناك، كانت على شكل محاولات تهذيبية، واستساغات اجتماعية إلى حدٍّ ما، تدعيها مثاليات الأيديولوجيا، وقيمية الأخلاق، وربما مجادلات السياسة.
وقبل الخوض في تفاصيل هذه الظاهرة ومعرفة كيفية تشكل مجتمع الهامش في اليمن، وكيف يعيش، لا بد من التنويه إلى أن المجتمع اليمني عمومًا لا يعرف الطبقية بشكلها الحرفي الأوروبي، وإنما ثمة تقسيمات وتراتبية على أساس فئوي، شرائحي، حرفي، ... إلخ، فرضه ربما نمط الإنتاج أو الطبيعة العلائقية السائدة في المجتمع اليمني.
فهناك بعض الاتجاهات الفكرية تنزع نحو نظرية التقسيم الطبقي والتعميمات والتفسيرات الجاهزة للتراتبية الاجتماعية في اليمن، على غرار مثيلاتها في المجتمعات الأوروبية، معتمدة على أفكار كارل ماركس وماكس فيبر في تقسيم طبقات البرجوازية والبروليتاريا والعبيد، وإسقاطها على المجتمع اليمني، وهذا نوع من الاعتساف والتعميم غير المنطقي، بل والمماثلة غير الموفقة وغير العادلة.
فعلى سبيل المثال، هناك من يرى أن الفئات الاجتماعية الدنيا، كالجزارين، والقشامين (العاملون في زراعة الخضروات)، والحمَّامين (العاملون في الحمامات التقليدية)، والدواشين (يعملون في الأعراس والخدمة)، والأخدام، يمثلون طبقات أو شرائح اجتماعية قائمة بحد ذاتها، وهي، في حقيقة الأمر، تمثل طوائف أو فئات اجتماعية مغلقة؛ لأنها تشكّل جماعات هامشية في بنية المجتمع اليمني، ودورها في الحياة السياسية ضئيل أو يكاد أن يكون معدومًا إذا ما استثنينا الدواشين، (كما يقول الدكتور عبدالعزيز المسعودي).
أما فئة الحرفيين، فإنها تأتي في الدرجة الثالثة من حيث مستواها الاجتماعي، وكانت محتقرة من قبل الفئات الأخرى. وفي أسفل السلم الاجتماعي، ومن ضمنها فئة المهمشين (العبيد)، إذا لم يكن أفرادها أحرارًا، ولم يكن لهم حق الاندماج الاجتماعي بأي شكل من الأشكال، وكان أفراد هذه الفئة، تاريخيًّا، "إما عبيدًا منزليين، أو تابعين للمعبد، أو تابعين للأرض، كما كان الحال في بعض المناطق الساحلية المحاذية للشاطئ الأفريقي، وفي بعض مناطق السهل الساحلي الغربي والجنوبي" (نظرة في تطور المجتمع اليمني، سلطان أحمد عمر، ص ٢٨).
ويذكر البعض أنّ هذا الانقسام الفئوي قد اتخذ في الزمن القديم شكلًا هرميًّا وطائفيًّا، داخل إطار الطبقتين العليا والدنيا، وفي إطار القبيلة، واتخذ طابعًا وراثيًّا، إذ كان وضع الفرد محددًا سلفًا بمقتضى الأنظمة والعادات والتقاليد والأعراف القائمة، فالفرد يرث من عائلته وضعه الاجتماعي، وتواصل هذا التقليد العرفي إلى العصر الحديث وربما إلى الراهن.
وكان من غير المألوف انتقال شخص من فئة إلى أخرى، أو من طبقة إلى طبقة إلا في ظروف استثنائية كظروف الحرب (سلطان أحمد عمر، ص ٢٩).
كما أن هناك فئات أخرى في المجتمع، من غير الأخدام (المهمشين)، كفئة الحرفيين اليدويين وذوي المهن الأخرى، ما يزالون محتقرين من وجهة نظر المجتمع، وتزداد درجة الاحتقار لأصحاب بعض الحرف، كالحلاقين والجزارين وبائعي القات والخضروات.
أما فئة (الأخدام) فإنها تعتبر في أسفل السلم الاجتماعي، وهي لا تكون في الغالب تجمعًا كبيرًا، باستثناء سكنها في أحياء طرفية أو حارات على هامش المدن أو بعض المناطق الريفية، وأفرادها يظلون في حكم المنبوذين اجتماعيًّا؛ حيث إنهم لا يملكون أرضًا ولا مسكنًا، وبعضهم يعيش حياة ترحال من منطقة إلى أخرى، ويعيشون حياة شبيهة بحياة (الغجر)، أما مصدر دخلهم اليومي فهو ما يتحصلون عليه من حسنات الناس من القوت الضروري، كما أنّ بعضهم يحترف مهنة الرقص والغناء لإطراب الناس، فضلًا عن الأعمال الدنيا، كالنظافة والشحاتة، إلخ.
ثمة برامج دمج للمهمشين اتبعتها الحكومات المتعاقبة، شمالًا وجنوبًا، إلّا أن تلك البرامج فشلت في الغالب، لا سيما في شمال اليمن، على عكس ما حدث في الجنوب زمن الحزب الاشتراكي اليمني، الذي حاول تذويب الفوارق الاجتماعية وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية إلى حدٍّ ما، وقد حقّق هذا التوجه نوعًا من الاندماج المؤقت، قبل أن يتبدد بفعل الارتدادات السياسية اللاحقة.
وتذهب بعض المصادر التاريخية إلى اعتبار هذه الفئة من بقايا الأحباش الذين استعمروا اليمن قبل الإسلام، وتعزى تلك النظرة غير الإنسانية لهذه الفئة إلى أسباب الاستعمار الحبشي الذي ارتكب أفظع المجازر ضد الشعب اليمني في القرن السادس للميلاد، كما يعيد بعض المؤرخين مصدر هذه الفئة إلى العبيد المحررين بفعل تأثير الدعوة الإسلامية، وهناك من يعتبر المهمشون غير يمنيين. لكن الدراسات الأنثروبولوجية تثبت أنهم يمنيون منذ الأزل، وقد حكموا اليمن في عهد الزياديين والنجاحيين، وهم ضحية التصنيف الاجتماعي الظالم، وبعد الثورة السبتمبرية عام 1962، نالوا قسطًا من الحقوق المدنية، وإن كانت غير المأمول، لظروف ذاتية ربما أكثر منها موضوعية.
وتشير بعض المصادر التاريخية أن الدولة النجاحية جلبت ما يسمى بالعبيد أو المهمشين من القرن الإفريقي، كما أن الهجرات عبر التاريخ قد سمحت لهؤلاء بالوصول إلى اليمن واندمجوا مع المجتمع اليمني، وصاروا من نسيجه، وأصبح الحديث عن النقاء العنصري ضربًا من ضروب الخيال؛ لأن النقاء العنصري في المجتمع اليمني غير وارد ألبتة؛ بفعل الاندماج والانصهار المجتمعي الكامل في كل بناه ومختلف مستوياته، سواء العمودية أو الأفقية.
وفي القرن العشرين، دخلت هذه الفئة ميدان العمل، ولكن في نطاق أعمال تنظيف المدن من الأوساخ نظير أجور زهيدة جدًّا، إلا أنّ ذلك لم يغير من حياة هذه الفئة، فما زالت تعيش في وضع اقتصادي واجتماعي مزرٍ جدًّا، وما زالت تشكّل مجتمعًا مغلقًا خاصًّا بها (سلطان أحمد عمر، ص ١٠٧).
يتضح مما سبق أنّ المهمش هو مصطلح اجتماعي تقليدي، فيه انتقاص واضح لشريحة مِن المجتمع تعيش الهامش وتمتهن الأعمال الدنيا في الحياة اليومية، وتنزع ثقافتها غالبًا نحو التسفل والرضا بالدونية. وما حصل راهنًا من محاولة تلطيف هذا المصطلح بمسمى "أحفاد بلال"، فيه أيضًا نوعٌ من الانتقاص، وممارسة عنصرية، بطريقة أو بأخرى، والمهمشون يعتبرون فئة مغلقة منكفِئة على نفسها تقتصر على اللون وأحيانًا الانتماء المكاني، وليسوا (مزاينة) بالمفهوم التراتبي القبَلي، وقد لا يصِلون تراتبيًّا إلى مستويات اجتماعية عليا مقارنة ببقية الشرائح الاجتماعية الأخرى، لا سيما الحرفيين.
ويتفق الجميع على أن مصطلح المهمش أطلق على فئة "الأخدام" حصرًا باعتبارها فئة اجتماعية تعيش الهامش، إما رغبة أو قسرًا؛ ففي شمال اليمن تهمشت هذه الفئة إما بسبب اللون، وهو الغالب، أو بسبب ارتباطهم بعادات وتقاليد يستهجنها المجتمع المحلي في شمال اليمن.
يختلف المهمشون عن بقية الفئات الاجتماعية في مسألة الارتقاء الوظيفي/ الإداري، حيث لم تسجل أي حالة للصعود الوظيفي/ الإداري العام باستثناءات نادرة لا حكم لها. وبرغم أن ثمة برامج دمج للمهمشين اتبعتها الحكومات المتعاقبة شمالًا وجنوبًا، فإن تلك البرامج فشلت في الغالب، لا سيما في شمال اليمن، على عكس ما حدث في الجنوب زمن الحزب الاشتراكي اليمني، الذي حاول تذويب الفوارق الاجتماعية وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية إلى حد ما، وقد حقق هذا التوجه نوعًا من الاندماج المؤقت، قبل أن يتبدد بفعل الارتدادات السياسية اللاحقة. وهو ما يجعل الكثير من المحللين الاجتماعيين يعتبر مجتمع المهمشين مجتمعًا جامدًا، مغلقًا، يظل دومًا في حالة ثابتة (استاتيكية) دنيا، وفقًا لما أطلق عليه (لينين): مجتمع "الرثاثة".
قد يختلف مجتمع من المهمشين من منطقة إلى أخرى؛ مثلًا المهمشون القاطنون في منطقة آنس، محافظة ذمار، يعيشون في تجمعات مغلقة هامشية – طرفية، ينحصر عملهم غالبًا في أعمال النظافة والأعمال الدنيا الجسدية (تحميل، نقل، تنظيف، إلخ)، ومستواهم التعليمي متدنٍّ جدًّا، ويكاد يكون منعدمًا، أما المهمشون القاطنون في مدينة ذمار وهم من أصول تهامية، فيكونون أكثر انفتاحًا على المجتمعات الأخرى، ونسبة التعليم مرتفعة في أوساطهم نسبيًّا مقارنة بالمهمشين الآخرين، حيث تشهد بعض المدارس الحكومية بعض الإقبال وتسجيل أبنائهم، وربما بعض الكليات، وإن كانت حالات نادرة وقليلة، ويرجع الكثير ذلك التطور النسبي أو الاندماج الفردي إلى طبيعة ونتيجة سفر بعضهم إلى دول الخليج، تحديدًا السعودية، حيث استفادوا من التعليم، وبدَؤُوا ينخرطون تدريجيًّا في التعليم والحياة العامة، ولكنها حالة نادرة لا حكم لها.
_____________
المراجع:
2- معالم تاريخ اليمن المعاصر؛ القوى الاجتماعية لحركة المعارضة اليمنية، عبدالعزيز قائد المسعودي (١٩٠٥-١٩٤٨)، مكتبة السنحاني، صنعاء، الطبعة الأولى ١٤١٣هـ/١٩٩٢م.