تبدأ التراجيديا في سطور رواية "جزيرة البكاء الطويل"، للروائي المغربي عبدالرحيم الخصار، الصادرة مؤخرًا عن منشورات "المتوسط"، من الأثر البالغ الذي تتركه الجملة السردية الأولى والملمومة بتقشف رصين، وحيث تأخذ الرؤية على كاهل الخطاب وبنية المروي على لسان البطل/ الراوي/ بضمير المتكلم، محيلة إلى منطقة غائرة في التاريخ من وجهة نظر السارد في متخيل السياق المتمثل بسطوة أسطول وكتائب ملك البرتغال، وإغارته على شواطئ "أزمور"، يتجاور الأسلوب الفذّ، في طريقة السرد بلغة حذرة، وإن بدا أنّها تجترح بلاغة الشعر في سمات من المتن السردي، إلّا أنّ صرامة الراوي في الامتثال لقواعد وطبيعة السرد ومسايرة المخبوء في جراب المتخيل الروائي، قد أضفى أبعادًا جمالية، نَحَتْ بالرواية عن لغة الشعر وتأثيراته الاستعارية.
ولا يكاد أسلوب الراوي يترك من فرصة لاحتمالات التفسير للأحداث، إلّا ويُشرك قارئَه في خضمها، عبر القراءة النصية الفاعلة والمتفاعلة بتأويلاتها المتعددة، لينفذ تحت جلد الرواية سابرًا غور رموزها وشخصياتها بدالٍّ سرديّ يحقّق أسلوب الكاتب في طراوة اللغة وصفائها، واقتصادها الأدائي.
وإنّني لأتساءل: "أليس جديرًا بنا الوقوفُ هنا على ساحل الأسلوب، إذ يبسط أمامنا الروائي الخصار عبارة تُعجز متلقيها ليكتشف مع بطلها، في الآن ذاته: عوالم ومعلومات تُحايِث واقعًا متخيلًا بحقائق حصلت أو مفترض حدوثها، زمنًا وأمكنة، وشخوصًا، وأحيازًا تتعدّد مجالاتها بين مغلقة ومفتوحة، أو مستغلقة وَفقًا لعوامل سياقها، ومنظومته المهيمنة.
نلفي أمامنا أنّه كلّما اتسع أفق السرد وساد الوصف الحكيم حينًا، ينحو حينًا بجنوح المغامرة والكشف، لنجدنا بإزاء نصٍّ روائي يفرض نفسه، عليك كقارئ، مدللًا بكثافته، وقدرة سارده التي قد يبدو من الصعب إدراك سماتها وتجليها إن لم يتم تفكيك الدلالة التي يفصح عبرها الخصار عن نضال سنوات من الكتابة وإجادة الرواية بأفقها الإنساني وتقنياتها، قبل أن يخوض غمار هذا العصف، ليجاوز نمط حضوره كشاعر متحقّق، مفاجِئًا الجميعَ بتميز في القفز، واللحاق بركب الساردين الأفذاذ، ملامح نجدها كثيرًا تضيء ما يتوجّب على الناقد الرصين لهذا العمل أو ذاك موضعة تعالقات النصّ وراويه أو المروي عنه، وشخصياته بعيدًا عن كل ضيق أو هشاشة.
يستهل الفصل الأول المعنون بـ"إستيفانيكو"، وهو البطل، بجملة كثيفة لافتة إلى أهبة حسية ومقتضبة: "وقفت على الساحل".
استهلالٌ معقول وانتباهيّ لعقد بصيص علاقة بين أوليات الرواية ومرموزاتها، فلا تظهر في البدء ملامح بطلها، بقدر ما تبسط أمام قارئها الافتراضي، شغفًا لتلقي مشهدية فصول الرواية المضغوطة والأقرب إلى نوفيلا صغيرة، عميقة، تنزع إلى الحكاية عبر تخييل التاريخ، كما تحيل عباراتها الكثيفة، بأسلوب يكشف القناع عن شخصيات وأمكنة، وأحداث، وبطل من الهامش ضالع في الاكتشاف.
"أنا ابن هذه المدينة الصغيرة، وُلِدت فيها قبل سبعة عشر أو ثمانية عشر عامًا، في ليلة خريف بكوخ، على ضفة وينسافن، وفعلت كل شيء يمكن أن يفعله فتى فقير، يعيش مع إخوته، وأقرانه، وجيرانه، الفقراء"، (ص 10).
يشير السارد في هذا المقطف من الرواية في الفصل الأولى، إلى بنية المكان الأول، "وينسافن" كمكان متخيل أو واقعيّ، لينطلق عبره الخطاب الروائي من أحداث لها دلالاتها في طبيعة السرد والأمكنة، مخفورًا بزمن وفنّ السرد، وبسط عناصره عبر وظائف شتى وإشارات وتلميحات، من الطبيعي أن تؤخذ في اعتبارات النقد والتلقي، للرواية، وجملها الرشيقة، وغير المقحمة.
من الصفحة الحادية عشرة، يبدأ السارد في التوسّع في خيوط الحكاية، فترد شخصية "يحيى" صديق الراوي، وتبدأ الأمكنة والوصف في إثراء شغف القارئ لتتبع الأثر الممتع لكل عبارة، تضيف مزيدًا من الألفة وطبيعة المحكي، تصل ما بعدها بتشويق له طابع التنقيب عن مآلات كثيرة، وشواهد وأحداث تترى من "أزمور"، التي اجتاحها البرتغاليون، ومشهد الأسطول الفاجع الذي ترك الأهالي أمامه مذهولين، يتكبّدون الأهوال وترتعد مخيلاتهم وإرادتهم التي لم تُبقِ خيار الحرية سوى من ضمن دائرة التضييق، لأحلامها المرابطة في وجعها وعيشها الكئيب، ليطال التنكيل والعقاب كلَّ من لا يرضخ، وليس من أولئك الذي أرسلوا بالهدايا لملك البرتغال قبل أن تصل سواعد أسطوله الغازي إلى ساحل "أزمور"!
"مرت ست سنوات على هذه الحال، كان الناس يرغبون فقط في البقاء على قيد الحياة، أمّا الحرية فكانت حلمًا، بعيد المنال، لقد مرغوا أنوفنا جميعًا في الوحل"، (ص12).
هنا يبرز الخطاب كعبارة على لسان الراوي، مختزلًا سطوة وجبروت البرتغاليين في قسر الأهالي في أزمور، على كلِّ ما من شأنه إبقاؤهم صاغرين، نزولًا عند رغبة ملكهم بأسطوله الذي ينيف على ما يقرب من مئتي قارب أو مركب كبير، ويخت يُقِلّ كتائب مدجّجة من الجنود، وجباة ضرائب في غشمة قوةٍ سَمْتها العسف، وغايتها فرض أطماع واحتلال أرض وبلد لا يقع في نطاق جغرافيتها، بقدر ما يشير أصبع الملك من قصره في "لشبونة".