نشأ محمد في قرية نائية ذات طبيعة جبلية صعبة في مديرية مزهر- محافظة ريمة، وفي أسرةٍ فقيرة عاش حياةِ طفولةٍ منقوصة، حتى أيام الأعياد التي كان يستقبلها وهو فاقد الشغف بها، كان يرى صباح العيد باهتًا كلَون بدلته.
لقد كانت أعوام طفولته شاحبةً كوجهِ أبيه الذي عاش عاملًا بالأجر اليومي في حقول أهالي القرية، فلم يكن يملك من الأرض سوى قطعةٍ صغيرة لا تُطعمه من جوعٍ، ولا تعصمه من فقر.
كان والده أقلّ الناس أملاكًا في القرية، لكنه كان يملك نفسًا عفيفة، وكفًّا عاش بها عيشة الكَفاف، لم يمدّها مستجديًا حاجة، أو طالبًا من عَوَز، لا يصافحها الكثير، لكنها كانت كثيرة المصافحة للفأس والمنجل، وبفضلها كان يحصد محمد المراكز الأولى في المدرسة، وكان من بين فكي الفقر والحرمان ينتزعُ الصدارة.
في لحظةٍ فارقة في حياته العلمية، وقبل حوالي شهرٍ من موعد امتحانات شهادة الثانوية العامة التي كان يستعد لخوض غمارها، رحلَ والده المكافح إثر حُمى ألمّت به وهو يزحف نحو الستين عامًا، ربما كانت طوق نجاته من الموت حقنة طبية أو قرص دواء، لكن القرية التي كان يعيش فيها هذا الأب تفتقد أيّ خدمة طبية ولو بسيطة.
رغم ألم الفقد الذي أصاب محمد، فإنّ الكف التي رعته منذ طفولته لم ترحل إلّا وقد اقتبس منها الصلابة، وتعلّم منها الإصرار، فحصد النجاح بنسبة (91.5) في المئة، أهّلته للتقدّم لامتحان القَبول في كلية الطب والذي تجاوزه بنجاح أيضًا.
كانت أمنية محمد أن يصبح مهندسًا معماريًّا، لكن كثيرًا ما تغير الأحداث من الأهداف، وقد غيّر رحيل والده متأثرًا بالمرض هدفَه، فقرّر أن يكون في المستقبل طبيبًا، ولم تقف الظروف المالية عائقًا أمامه، فقد كان يقسم يومه نصفين؛ علم وعمل، يلبس معطفه الأبيض صباحًا، ويخلعه مساءً ليعمل بائعًا متجوّلًا في شوارع العاصمة، فيوفّر مصاريف الدراسة واحتياجات المعيشة لأمّه وأخواته الثلاث.
أحبَّ محمدٌ ابنةَ عمّه، وتقدّم لخطبتها حرصًا، وبعد فترة من رفض والدها له، تمت خطوبتهما بمباركة الأب بعد أن رأى إصرار محمد ورغبة ابنته أيضًا بالزواج من ابن عمّها العصاميّ، لكن الفتاة التي توقفت عن التعليم في الصف السادس الابتدائي وانشغلت في جلب المياه الصالحة للشرب إلى منزلها من مناطق بعيدة، انزلقت أثناء عودتها من عين الماء في طريق وعرة، أصيبت الفتاة بنزيف داخلي حادّ فارقت على إثره الحياة ومحمد.
لم يستطيع محمد تحمُّل الصدمة، وعاد إلى القرية فاقد الشغف في مواصلة التعليم والوصول إلى الهدف، وأخذ منه الاكتئاب الذي عاشه في تلك الفترة، اهتمامَه حتى بما يسدّ رمق أمه وأخواته الثلاث، فملأن الفراغ وعملن في جلب الأعلاف وبيعها.
بعد مرور عامٍ ونصف وكفاح والدته الخمسينية لم يتوقف، كدعواتها له بالهداية والخروج من تلك الأزمة النفسية، قرّر محمد أن يسلك، لطلب الرزق، الطريقَ التي يسلكها الكثير من أبناء منطقته، فغادر القرية متوجِّهًا إلى منطقة الرقو بمديرية منبّه- محافظة صعدة، وهي منطقة حدودية مع المملكة العربية السعودية، يذهب إليها من ضاقت بهم سُبل الحياة والعيش، لطلب الرزق من خلال تهريب القات إلى مناطق في السعودية، إلّا أنّ قذيفة أطلقتها قوات حرس الحدود السعودي لم تمهله للحصول على قيمة ما يحمله في محاولته الأولى، في مساء الخميس الثامن من أبريل/ نيسان 2021، فارقَ الحياة وهو في السابعة والعشرين من عمره.
بالتعاون مع مواطنة