عندما نكتب عن محمد عبدالولي علينا أن نستحضر معه المرحلة التي عاشها، والهمّ الذي شغل جيله، وزمنه، أو على الأصح الفكر الذي تأثر فيه، وبالتالي قراءة أعماله وفق تلك المرحلة.
يعد الأديب محمد عبدالولي أحد الذين احترقوا بأتون الثورة، حيث كانت آراؤه وأفكاره الوطنية لا تلقى ترحيبًا في الأوساط السياسية التقليدية، لكنه مضى يتقدمه ضمير المثقف الثائر، مضى حاملًا أحلامه النبيلة، ولم يلتفت إلى الخلف مطلقًا.
جاء محمد عبدالولي (1939– 1973) والأدباء اليمنيون المرابطون عند تخوم الثورة، لا يعرفون من فنون المقاومة السلمية سوى الشعر، وبحسه المرهف، وبمواهبه الخارقة وجد أن الشعر ليس كافيًا لتلك المهمة، ورأى بأن هناك تطورات يشهدها العالم، وأن على اليمنيين، كثوّار، ومثقفين، وقادة رأي وفكر، أن يصعّدوا من درجة المقاومة، وأن عليهم تُلقى الكثير من المهام الوطنية؛ فاختار هو القصةَ والرواية والكلمة المعبرة؛ لتكون السلاح الذي يحارب به الظلم والاستبداد، كأداة جديدة للمقاومة، خاصة إذا عرفنا أن شخصية الصنعاني في رواية صنعاء مدينة مفتوحة، ليست سوى إحدى شخصيات ثورة 48، التي عرف عبدالولي رموزها عن كثب، ولعلنا نعرف جميعًا أن "الإبداع الأدبي لا بد أن ينبثق من صفوف الجماهير، وأن يكون له مغزى اجتماعي؛ لأن الكاتب هو بالدرجة الأولى نتاج وسطه الاجتماعي، الذي لقنه دروس الحياة الأولى، فالشاعر أو الكاتب ليس نبتًا شيطانيًّا يولد في غابة عذراء، بل هو فرد في مجتمع"(1).
لم يكن عبدالولي يترك أي مفتاح للقارئ، مثل المقدمات، والإشارات، والتوضيحات؛ فقد كان يؤمن بأن الأدب نصٌّ وكفى، وأن على القارئ الغوص إلى الأعمق.
وهو في كل أعماله يعلن فكره ويساريته، التي يجدها حلًّا لمشكلات مجتمعه، حلًّا للخروج من أزمات الجهل والفقر والمرض، الذي قامت الثورة للقضاء عليهم. لا نجد بين أبطال عبدالولي برجوازيين أو إقطاعيين أو شيوخ قبائل أو ذوي نفوذ وجاه وسلطان. كل أبطاله من الفقراء والطبقة العمالية والمغتربين خارج الوطن وداخله؛ من أصحاب الوطنية البسيطة، على حد تعبير لويس عوض، الذي قصد بهم أصحاب الوطنية "الصافية القائمة على حب الوطن والدفاع عنه في الملمات، دون قيد أو شرط، ودون نظر لعقيدة اجتماعية معينة تنص على أن الوطن لا يكون وطنًا إذا سادته الأرستقراطية أو البرجوازية أو البروليتاريا"(2)، كل هؤلاء نجدهم في مجموعة ريحانة، للقاص محمد عبدالولي، ولنا أن نتساءل مع الدكتور وهب رومية: إلى أي مدى استطاع محمد عبدالولي أن ينهض برسالة الأدب، على النحو الذي نرتضيه"(3)، ونضيف إلى ذلك إلى أي مدى عبر محمد عبدالولي عن الثورة؟
بين أيدينا مجموعة ريحانة الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين - 2005، التي تتكون من خمسة عشر قصة قصيرة، وتكاد تكون جميعها صرخات متوالية للتعبير عن الثورة والحلم، ولكن بنسب متفاوتة؛ فالقصص التي تعالج موضوع الثورة على نحو مباشر هي: "كيس القمح"، "رجل من الشمال"، "هربوا جاء الليل"، "إضراب"، "ريحانة".
نشر عبدالولي قصتي "رجل من الشمال" و"كيس القمح" عام 1959، وهما أول قصتين ينشرهما تقريبًا، إذ كان متأثرًا يومها بمدرسة الواقعية الاشتراكية، التي تتصف بالبطل الإيجابي، والصفات السامية التي يمتلكها البطل، وهذا النوع من البطولة يتأثر الآخرون بأقوالها وأفعالها، وليس بالأقوال فقط، وهو ما يتبين في قصة "كيس القمح"، حيث تتضح البؤرة الفنية في اختيار العنوان، الذي يضع أمامنا تساؤلًا عريضًا، وهو: لماذا يثور الناس، ولماذا يتقاتلون؟ أليس من أجل كيس القمح!
تنمو القصة بديناميكية مختزلة، داخل ثلاثة مسارات: شخصية البطل الإيجابي الثائر، وشخصية البطل السلبي الذي غرق في البحر، وشخصيات المجتمع بقسوتها من جانب وضعفها من جانب آخر، بفقرها وغناها. يذهب البطل إلى البحر، وهناك يرى أمامه كل شيء: أنوار المدينة البعيدة، وجثة صديقه التي تتوارى الآن في أعماق الأرض، وليس بجانبها أحد سوى محترفي الدفن. كانت صورة صديقه تظهر ثم تغيب أمامه، لكنها في وسط ذلك الليل، الذي يغمر كل شيء، وعلى صفحات مياه البحر الزرقاء، التي تبدو من وراء ظهره واختفاء القمر وتلألؤ النجوم، كانت تنطبع أكثر.
يبدأ القاص بتذكر صديقه الذي انتحر بالأمس، أو على الأصح الذي مات جوعًا. البطل الآن يفكر بالساعات الأخيرة لصديقه المقتول، إن جاز لنا توصيف ذلك الأمر، وكيف مزقه الجوع أثناء حمله لكيس القمح؛ مما أدى إلى سقوطه في الماء ليفارق الحياة في نفس المكان الذي يعمل فيه، وبنفس الأداة التي حلم بها هو وأسرته "كيس القمح"، وبدلًا من التنقيب عن الأسباب التي أدت إلى وفاة الرجل، ذهب المحيطون به إلى تفسير ذلك بأنه انتحار، ما عدا البطل الذي يعرفه جيدًا، فقد أدرك سبب سقوطه في ماء البحر. لقد كان جائعًا ولم يستطع جسده الواهن حمل كيس القمح، حيث إن الخبز الذي كان مقررًا له، فضّل أن يطعمه أطفاله: "كل ما حوله الآن يذكّره بصديقه، وبالحقيقة المرة التي يعرفها هو وحده. إن صديقه لم ينتحر، ولكنه مات جوعًا. مات بعد أن ترك أطفاله يقضمون آخر كسرة من "الكدم" الرخيص بالأمس، مساء الأمس فقط، كان صديقه يهمس له بأن يأخذ كيسًا من ذلك القمح المرصوص فوق الميناء المهدم، ولكنه خاف" (4).
في القصة تكثيف لغربة الإنسان داخل مجتمعه، مدعّمة بعفة النفس والقيم العالية، التي منعت الشخصية الثانية –أيضًا - من السطو على كيس القمح، الذي كان بإمكانه الحصول عليه بسهولة. لكن السؤال الذي تطرحه الشخصية المحورية هو ما ذهب إليه أبو ذر الغفاري حين قال: "عجبت ممن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه"، وهو ما قام به البطل حين أخذ كيس القمح، وذهب إلى أولاد المنتحر؛ كي لا تتكرر مأساة أبيهم. حدث ذلك بعد أن ارتفع صوت الحزن في دواخله، وتألم ضميره: "نعم لقد ترك صديقه وحده، لقد خاف. أما صديقه ربّ الأسرة والأطفال، فلم يخَف، كان صراخ الأطفال الجياع وأنين الأم الحامل المريضة، والجوع، والضعف في جسمه هو ما يدفعه أكثر وأكثر"(5).
ولعلنا ندرك هنا أن اليقظة ضرورية من أجل القيام بفعل الثورة، وأخذ الحقوق. وشيئًا فشيئًا يتضح الرمز ليست العائلة سوى الشعب الفقير، الذي ينتظر المنقذ، فإذا غاب ضمير المنقذ مات الشعب؛ لذا فإنه على الرجال القادرين على فعل الثورة أن يهبّوا لأنه عليهم تقع المسؤولية، يقول: "بدأ البحر يثور، وغاب القمر وسط سحابة كبيرة سوداء، وهبّت رياح باردة، وثار غبار من الرمل، بينما الرجل الطويل يحث خطاه نحو الميناء المهدم"(6).
كتب عبدالولي قصة "رجل من الشمال" في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، في صحيفة الطليعة. تدور القصة حول رجل يصل مدينة صغيرة تقع تحت الاستعمار الإنجليزي، لكنها مدينة غير مستلبة؛ لذلك فهي تتعرض دائمًا للقصف الجوي
لتكن ثورة على الأغنياء الذين يكدّسون أكياس القمح، ثورة على جمود المجتمع وخنوعه، ثورة على ضعف المقاومة: "إن كل شيء يساعده الآن على أخذ كيسٍ من القمح لإحدى العائلات الفقيرة الجائعة، التي مات عليها حاميها منذ يوم فقط. مات لأنه أراد إن يعيش وتعيش عائلته" (7).
أهمية قصة كيس القمح أنها تقوم على مرتكز الثورة، أو التضحية بالنفس من أجل الآخرين، فعندما تخاذل البطل عن إنقاذ صديقه جاءت كارثة الموت جوعًا، وكادت المأساة تنسحب على العائلة، لولا أن ضمير البطل تيقظ: "وفتح باب عشة صغيرة مكسّرة ليرمي تحت أقدام المرأة الحامل النائمة بجانب أطفالها الصغار الجياع كيسًا من القمح"(8). وهذه الثورة انسحبت فنيًّا على أداء عبدالولي: اللغة، والتقنية، والبنية السردية الإيقاعية المختزلة.
القصة ليست تسجيلية، والوصف ليس كعادة البدايات، وإنما على درجة من التكثيف، يلتزم فيه القاصّ بوحدة الزمان والمكان واللغة الوصفية المقنعة. وينطبق على قصص عبدالولي ما ذكره صلاح فضل عن الأسلوب الدرامي الذي "يسيطر فيه الإيقاع بمستوياته المتعددة من زمانية ومكانية منتظمة، ثم يعقبه في الأهمية المنظور وتأتي بعده المادة"(9).
رجل من الشمال
لم يستطع القاصّ هنا أن يتجنب كتابة ما يسمى بالأدب الوطني؛ لأن طبيعة المرحلة كانت تفرض عليه ذلك، إذ كان يستعد مع جيله للثورة على حكم الأئمة، ولنا أن نعلم أن ذلك لم يؤثر على فضائه السردي، وإنما ساهم في توضيح فكرة المقصد النبيل، الذي شغف به.
كتب عبدالولي قصة "رجل من الشمال" في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، في صحيفة الطليعة. تدور القصة حول رجل يصل مدينة صغيرة تقع تحت الاستعمار الإنجليزي، لكنها مدينة غير مستلبة؛ لذلك فهي تتعرض دائمًا للقصف الجوي. كان الرجل قد ملّ من حياة التجويع التي لازمته في قريته الواقعة على جبال خولان، "حيث سمع أن أبواب الحياة مفتوحة أمام كل طارق جديد، وكم من هؤلاء الذين طرقوا الجنوب"، وغامر في السير إليها وفي ذهنه حلم الوصول.
ولعلنا سندرك من خلال المقطع التالي نأي الراوي عن المباشرة والإقحام، يقول في وصف الرجل الذي جعل نصب عينيه عدن: "لم يسمع الرجل عن الجنوب إلا أنه تحت حكم الإنجليز، ولم يكن ليهمه من يحكم من. المهم أنه سيجد ما يريد من حياة لم يجدها في جبال ووديان خولان البعيدة"(10).
يبدو الهم الأيديولوجي ثانويًّا في القصة، بينما يتكثف الاختزال في البؤرة الإنسانية؛ حيث تصبح الثورة إنسانية، وليست بدافع احتقان سياسي أو أيديولوجي.
تتشابك اللغة، وتنفتح بفضاءات جمالية جديدة، يتقلص على إثرها الأداء المباشر: "غابت الشمس وراء الأفق البعيد؛ فاكتسى السهل الكبير بالظلام، وبدأت المدينة الصغيرة تبحث عن النوم، وكان ينبعث من بعض البيوت النور من فوانيس الجاز الكبيرة"(11).
وعلى الرغم من جمال المدينة الطبيعي لوقوعها على حافة مجرى الماء؛ إلا أن الإنجليز الذين يصرون على جعلها مدينة بين الشمال والجنوب، ذهبوا إلى إهمالها وتركها نهبًا للشوارع الترابية المليئة بالحفر والأوحال، ليس ذلك فحسب، وإنما يغيرون عليها بشكل دوري؛ لإخماد ثورة أهلها الرافضين للاحتلال: "وقبل إن ينبعث القمر في السماء، من بين السحب المتراكمة كانت بعض الأنوار الصغيرة الباهتة تقترب من سماء المدينة في هدوء، سرعان ما تحول إلى هدير شديد، ثم انبعثت النيران والانفجارات في أحياء المدينة البائسة، وهبّ النائمون من نومهم فزعين، وأسرعوا يركضون في الأزقة طالبين النجاة"(12).
لا يستمد عبدالولي قوته من الشخصيات المستلبة، وإنما على العكس من ذلك تمامًا، يختار الشخصيات الفاعلة، والصادقة مع واقعها ونفسها، في بناءات مقنعة؛ لأنه لا يذهب إلى المبالغة. وعلى كلٍّ فالشخصيات الفاعلة التي يختارها لا تبتعد كثيرًا عن الشخصيات المحيطة به.
نراه يصف رجلًا من الشمال وكأنه يرسم تفاصيل دقيقة لإنسان يختزل شعبًا بأكمله: "كان طويلًا أسمر الوجه، ذا لحية كثيفة لم تعرف الحلاقة، ونظرات نفاذة تنظر إلى الأمام دائمًا؛ كأنها تبحث عن شيء تاه منها، يلبس ملابس رثة مقطعة؛ فالفوطة التي أصبحت إلى ركبتيه رتّقت مرات عديدة، فأصبحت ذات ألوان عدة، وقميصه تمزق فوق جسده الأسمر النحيل، والعمامة مشدودة على رأسه تحميه من أشعة الشمس، والأمطار، وكان يضع على ظهره رديف أبيض علته الأقذار"(13).
يرتفع عبدالولي بشخصياته؛ فلا يوقعها في المباشرة، وإنما يغرقها في المحلية؛ حيث يسمي الأشياء بمسمياتها حتى وهو في ذروة استخدام الرمز يمضي إلى الأعمق، ثم يعود من غزوته محملًا بالصور والألوان والأصوات المتعددة. تتوقع كقارئ إن يموت البطل دون أن يبدي أي مقاومة، وتتوقع أن يفرّ هاربًا، وتتوقع الكثير؛ لكنه يجد في المقاومة معادلًا موضوعيًّا للثورة، بحيث يصبح الإنسان العادي في لحظةٍ ما من أهم الداعين إلى المقاومة والثورة، "ثم فجأة أمام جثة ممدودة أمامه لامرأة حضنت طفلها الرضيع وقد فارقت الحياة، وكانت تحيط به كأنها تريد إنقاذه من الموت، بينما استمر الطفل في البكاء، وفي امتصاص ثدي أمه الميتة بجانبه"(14).
هربوا جاء الليل
عنوان هذه القصة يتكون من ثلاث كلمات: "هربوا، جاء، الليل"، وهو مطلع لزامل شعبي ذكره القاص في نهاية هذه القصة:
"هربوا جا الليل
والله ما أروّح إلا قاهو ليل". [وهي صيغة قَسَم بألا يعود إلى البيت إلا وقد حلّ الليل].
يؤدي الفلاحون هذا الزامل أثناء الحصاد، ولكنهم ينطقونه بنفس واحد متواصل "هربوا جا الليل"، وهو من الزوامل الحماسية التي ينشدها العاملون عندما يقترب الليل، لإثارة الحماس لدى العاملين، وتخويفهم بأن الليل قادم، ولا بد من إنجاز العمل.
في قصة "إضراب"، يقود عاملان في مصفاة عدن ثورة نقابية على الشركة الأجنبية الاحتكارية إلى درجة أصبحت فيها الشركة توشك على إعلان إفلاسها؛ لكنهم مصرون على أخذ حقوقهم، وإن كلفهم ذلك الارتماء في أحضان البطالة
بطل القصة "قاسم العديني"، وهو عامل من منطقة العدين اعتادت القرية- التي تدور أحداث القصة فيها- على استقباله عند كل حصاد، وغالبًا ما يأتي مصطحبًا العديد من العاملين. يعمل قاسم رسميًّا في منطقة "دمنة خدير"، بعد أن فرّ من قريته بسبب شيخ منطقته، الذي كان يمثل سلطة تقليدية قمعية في تلك الأثناء: "ألم تكن في العدين؟ منذ عامين لم أرَ العدين، لقد هربت بعد أن أراد الشيخ أن يرسلني إلى الجندية، مع أنه تسلم مني مئة ريال، ثم ابتسم مضيفًا: إذا ذهبت للجندية، فمن سيرعى أولادي وزوجتي؟"(15).
يقدم القاصّ شخصية قاسم على هذا النحو، مضفيًا على جو القصة ملامح العصر الذي يعيش فيه، مركزًا على رسم خلفية الشخصية، يقول: "سأله محمد أحمد: وكيف حال والدك؟ قال قاسم بصوت حزين: لقد مات في سجن الشيخ؛ لأنه رفض إن يعمل مجانًا في أرضه التي نهبها"(16).
ولكي يتنامى السرد، يشعل القاص فتيل التنامي، عبر استحداث شخصية جديدة دون أن يخلّ ذلك بالسياق، يقول: "كان أحد عمال مصافي النفط في عدن يجلس قريبًا منهم. كان يقضي عطلته في القرية"(17).
إنها لعبة عبدالولي الاستدراجية التي يحملها فنّه الراقي، بعد أن شحن الحكي بشخصية قاسم العديني الفلاح الفقير، أهدى قراءه شخصية عامل مصفاة عدن الذي كان يقضي إجازته في القرية، ولكي يستوي السرد على عرش الفن، كان لا بد من اختيار هذه الشخصية، يقول عامل المصفاة موجّهًا الحديث إلى قاسم: ولماذا لم تعِد الثورة حقوقك؟"(18).
لم يجد قاسم ما يرد به. تلكأ قليلًا "وبعد صمت قصير قال قاسم: "ليس لدينا المال الكافي لنبدأ شريعة جديدة"(19).
يعرف الكاتب كيف يدعونا إلى اليقظة حين يربط بين حلقات الحكي وانعطافاته. إنه يتجنب النقد المباشر، لكنه لا يترك القارئ يدور في حلقة مفرغة، وإنما يفتح آفاقًا جديدة حين يعود العامل بواسطة تقنية الفلاش باك إلى الذاكرة:
يتذكر قاسم ذلك اليوم الذي "كان في قريته عندما رأى الجميع يهتفون ويغنون، لم يدرِ ما حدث، لكن شيئًا في أعماقه أوحى إليه بأنه تحرر من حلم الأرض، الأرض التي اغتصبها الشيخ منه ومن أبيه، وبأنها ستعود إليه"(20).
لم تكن الثورة حلمًا نخبويًّا فوقيًّا خاصًّا بالشعراء والأدباء والمثقفين وضباط الجيش، بل هي حلمٌ قاعدي يحلم فيها الفقير قبل الغني؛ لأنها مرتبطة بالعدالة والمساواة وردّ المظالم والحقوق، وهو ما تخيله الفلاح قاسم: "في كل بيت من بيوت قريته رأى الفرحة إلا في منزل واحد، يقع على الأكمة المنيعة، رأى تجمعات قلقة. كان شيخه يفكر بالهرب أخذ بنادقه وأسلحته، وجمع حوله الرجال خوفًا منهم"(21).
لا يغيب تيار الوعي عن قصص عبدالولي، يقول قاسم: "إن الشمال بجباله الجرداء ومشائخه حاربوا انتصاره(22).
وعندما كان قاسم يذهب إلى العمل بصحبة مساعديه، ترن في ذهنه كلمات عامل المصفاة، وكذلك عندما يخلد إلى الراحة: "إن الثورة أتت لتحقيق العدالة وتعيد الحقوق لأصحابها"؛ إنه الحلم بالثورة والإصرار على نقائها، خاصة عندما يتعلق الأمر بعامل شجاع محب للأرض. يقول واصفًا قاسم أثناء عمله: "عاد إلى الأرض ونسي تمامًا أن هناك أرضًا كانت ملكه ولم تعد له. في أعماقه نما إيمان بأنه يحصد هذه الأرض لنفسه، وأن الخير له وللجميع.."(23).
قصة "إضراب"
ما تذهب إليه قصة "إضراب" أيضًا موقف بطولي، وثوري، ونضالي ضد الاستعباد بكافة أشكاله. ينتقي عبدالولي شخصياته من الطبقة العمالية. عاملان في مصفاة عدن يعملان لدى شركة "لوك توماس" أثناء الاستعمار الإنجليزي. سعيد موظف في مصفاة عدن يعمل منذ سنتين، وكان قبل ذلك يعمل في إحدى المحلات التجارية، تزوج في القرية قبل دخوله المصفاة، وهو الآن مُضرب عن العمل، هو وزملاؤه العاملون في الشركة، وأهم المقربين له ردمان. وردمان هو الشخصية الأكثر فاعلية في القصة، إنه مهندس الإضراب الأول؛ لأن قيادة النقابة العمالية تتواطأ بشكل أو بآخر مع إدارة الشركة. كان ردمان قد خبر العمل النقابي جيدًا، حيث أن الشركة نفته قبل ذلك لمدة خمس سنوات إلى البحرين، وعاد الآن ليواصل نضاله ضد الشركة التي تستغل أجور العاملين البسطاء. تلتقط القصة لحظة إنسانية مدهشة لا يستطيع التقاطها سوى عبدالولي.
عاملان في مصفاة عدن يقودان ثورة نقابية على الشركة الأجنبية الاحتكارية إلى درجة أصبحت فيها الشركة توشك على إعلان إفلاسها؛ لكنهم مصرون على أخذ حقوقهم، وإن كلفهم ذلك الارتماء في أحضان البطالة. ينحدر العامل سعيد من أسرة فلاحية، وعندما تضيق الحياة به يفكر بالذهاب إلى القرية لفلاحة الأرض، وفي ذلك إشارة إلى أن الأرض اليمنية غنية، وقادرة على العطاء، المهم هو ألّا يرضخ الإنسان للعبودية.
"ريحانة"
يتحرك أدب محمد عبدالولي في الصورة العكسية للواقع، لكنه يهتم أكثر باللغة الشعرية والتصوير الفني. أما الرمزية فإنها لعبته الخطيرة التي يعرف جيدًا كيف يروضها، وقد فعل ذلك في قصص شهيرة، أهمها: "الغول"، "وكانت جميلة"، "الأطفال يشيبون عند الفجر"، وغير ذلك.
وفي معظم قصصه القصيرة يستخدم الرمز كطاقة لا تنفد؛ فعلى الرغم من التعقيد الذي عاشه اليمنيون خلال القرن العشرين، إلا أن التعقيد في قصص عبدالولي يؤدي عدة وظائف في وقت واحد، ويظل القارئ يكتشف الجديد مع كل قراءة للنص نفسه. وتميزه بهذه الخاصية لم يوقعه في المباشرة؛ لأن قدرته على السيطرة مكنته من الصياغات المتصاعدة، والمتنامية فنيًّا. تستطيع أن تلتقي مع المتعة بين كل السطور والجمل والمقاطع الصغيرة والمتوسطة؛ لذلك عندما تقرأ قصة "ريحانة" دون أن تستخدم أدوات القراءة تجد المتعة العالية، وعندما لا تستخدمها تجد ذلك أيضًا. ولكن لماذا ريحانة؟ ريحانة في النص اسم، وعادةً الأسماء لا تعلل، إلا أن الكتّاب عادة ينتقون من الأسماء المشحونة بالرمز، وقد أفصح الكاتب عن تعليله، لكنه أخفى الرمز في دلالة التسمية، فريحانة ليست سوى اليمن. اليمن بكليتها، يقول: "بدت كفجر جديد، بثوب ملون فوق سروال أخضر، شعرها الأسود الطويل لا يزال متمردًا على المَصَر"، وكلما تسارعت الأحداث نما الرمز، وازداد فضاء الحلم؛ الحلم الذي يجيء ويذهب، مثل ريحانة: "سارت فوق السقف، رقص قلبي مع خطواتها الناعمة. عند الفجر كانت قريبة جدًّا مني، حتى إنني كدت ألامسها، ولكنها غابت في باب السقف، هوت إلى أعماق المنزل(24).
نعم تستطيع ريحانة أن تكون الثورة، وأن تكون اليمن، والحلم، والأمل. يقول هورزن: "لا نستطيع التأثير على الناس إلا بأن نحلم أحلامهم، وعلى نحو أوضح مما يستطيعون"(25).
كان الحلم يتحول أحيانًا إلى فرح، وأحيانًا إلى حزن؛ "الحركة تكبر، وضوضاء سيارات تدخل القصر لحمل سلاح أو إدخال سلاح. أصوات جنود وضباط وقبائل. الكل هنا يأتي للبحث عن سلاح، لكنها لم تكن فوق السقف طوال ذلك اليوم"(26).
وفي ذلك إشارة إلى أن الثورة تصعد إذا غابت لغة العنف. نعم تصعد إلى السقف وتسطع في الليل، وإذا حضرت لغة العنف غابت (ريحانة - الثورة).
البطل في السجن، وكل شيء مغلق حتى النافذة الوحيدة سدت بلوحين؛ أحدهما يعود للشرق، والآخر للغرب، وهنا يتضح الرمز تمامًا، ريحانة التي أسفرت بعد إحداث الثقب ليست سوى اليمن.
ولكنها خلف لوحين، "أعلى لوح عليه الأيدي المتصافحة، وكتبت (...) بالإنجليزية، قنابل دفاعية صنعت في إيطاليا، حسب طلب قوات الولايات المتحدة، وصورة العلم تحت اليدين، تحته لوح آخر أغبر اللون، كتبت عليه بالروسية (...)، مقاس 9×9 رشاشات خفيفة"(27).
هناك ترميز وهناك تقنيات وهناك شخصيات فاعلة، ومستلبة، وهناك تمرد، وأمل، ومحبة، وحلم: "هناك على مقربة من أصص الريحان كانت تقف. سروالها يغطي الجزء الأسفل، وفوقه ثوب قصير أسود. على رأسها غطاء صغير يضم شعرها الذي تمرد على الغطاء، وأصبح يرقص مع النسمات الندية برشاقة؛ كأنها تدربت على "ريجيم" معين"(28).
في هذا المقطع الشعري الذي يبدو وكأنه وصف لامرأة عادية، نجد الترميز بأبهى حلله؛ فالمنديل الذي يرقص مع الأنسام الندية ليس سوى الحلم بالثورة.
كل شيء مجهول في السجن: هو، والجدران، والأخشاب، والأصوات التي تأتي من الخارج، حاملو الجنائز وقراء موالد الفرح والحزن. الأشياء كلها تتشابه عندما نكون في السجن، لكن الثقب الذي أحدثه بين اللوحين أبان له أشياء كثيرة متناقضة، أصبحت المدينة التي تحيط بها الجبال أمامه تمامًا، هناك عيبان، وهناك نقم، وهناك عَصِر. الأصوات التي كانت مجهولة أصبحت مصادرها في الأمام؛ أولئك يحملون جنازة جديدة ككل يوم، وأولئك يقرؤون مولدًا، وأما الأصوات المتعاركة؛ فإنها للأطفال والنساء الذين يختلفون على حنفية الماء. وأهم ما رآه: أصص الريحان على سقف الدار، والمرأة الفاتنة التي تجيء وتذهب لسقايته. أفق الإدهاش لدى عبدالولي لا تنتهي، فضاءات كثيرة تنفتح هنا وهناك، وجميعها تقود إلى التفكير.
هامش:
1– فوزي البشتي، حلم الثورة في الشعر الليبي الحديث، كتاب الشعب، منشورات الكتاب للتوزيع والإعلان والمطابع، العدد 5، ط2، مايو 1981، ص11.
2- لويس عوض، الثورة والأدب، الكتاب الذهبي، روز اليوسف، يوليو 1971، ص79.
3- د.وهب رومية، مجلة اليمن الجديد، العدد السادس، يونيو 1987، ص31.
4- محمد عبدالولي ريحانة، مجموعة قصصية، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، 2005، ص211.
5- ريحانة، ص212.
6- ريحانة، ص214.
7- ريحانة، ص214.
8- ريحانة، ص214.
9– د.صلاح فضل، أساليب السرد "في الرواية العربية"، مركز الإنماء الحضاري، دار المحبة، دار آية، ط1، 2009، ص11.
10- ريحانة، ص203.
11- ريحانة، ص205.
12- ريحانة، ص206.
13- ريحانة، ص201.
14- ريحانة، ص208.
15- ريحانة، ص97.
16- ريحانة، ص98.
17- ريحانة، ص98.
18- ريحانة
19- ريحانة، ص99.
20- ريحانة، ص101.
21- ريحانة، ص101.
22- ريحانة، ص102.
23- ريحانة، ص104.
24- ريحانة، ص19.
25- الواقعية الاشتراكية، مجموعة من المؤلفين، ترجمة: محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، ط1، 1976، ص59.
26– ريحانة، ص19.
27- ريحانة، ص12.
28- ريحانة، ص18.