(أختار أن أبعثر نفسي في خطواتي التائهة
لأكون إحدى صور المفقودين على جدران الوطن)
عن ذاكرة اختفت خلف دقات الساعة، تحاول خلايا مخه أن تجدها، يرى وجهه في المرآة، وتزداد في عينيه حيرة الغريب لإحساسه المستعار من معاني الأشياء التي تحيط به، ولكنه يحاول أن يمسك ظلالًا من الوقت الهارب. تخترق العقارب جمجمته، ربما تنجح في استعادة ما توارى في مكان ما من تلافيف مخه، أو تستطيع التقاط آخر معركة اجتازها! عبثًا يحاول أن يلتحم مع جسده. كل شيء فارغ من محتواه كما رأسه؛ عصب البصر يلتقط الصورة الوحيدة على الجدار، الصورة التي تثبت أنه كان هنا من زمن مضى اعترف بوجوده. تهتز الصورة أمامه، في تجربة للبوح عن تاريخ سمعه ممن حوله، هو ذاك عندما توقف الزمن ثانية في هذه اللحظة من الالتقاط الخالد للصورة. تدخل عليه المرأة البالغة من العمر خمسين عامًا، تحمل في يدها كوبًا من الحليب، وتقول: كيف أنت هذا الصباح، يا ولدي؟ أما زلت تنظر للصورة ككل يوم؟
- أحاول أن أتذكر كيف ومتى؟
- لا تقلق يا ولدي ستتذكر كل شيء، الآن اشرب هذا الحليب.
- قلتِ لي إنك أمي، وأنا خالد. فهل أستطيع أن أشاهد شيئًا من تلك المسيرات والمظاهرات التي كنت فيها دائمًا، من أول يوم خرجنا فيه؟
- سيعود لك الألم والصداع، ولن تكمل مشاهدتها كما يحدث لك في كل مرة!
- سأحاول التركيز هذه المرة على ذاكرة من سجل الإعلام.
كان يجمع قواه وأمله في التذكر، والمشاهد تتوالى أمام عينيه. ينتهي، وكلما ينتهي مشهد سرد لتلك الأحداث ينتقل لآخر، منذ بداية المسيرات والاعتصامات، والقنوات تعرض تلك الأحداث، الأصوات التي ترتفع بقوة، وتطالب النظام بالرحيل، كل تلك الأجساد المحتشدة بقوة، والأيدي المتشابكة لأداء هتاف واحد.
وصل إلى المنصة فازداد الصداع، وصور قديمة تتزاحم في رأسه أصوات الميكرفونات، والأناشيد تطرق بقوة، الأيدي المتشابكة، الهتافات العديدة التي لم يميز منها شيئًا، تمالك جسده حين شعر أنه سيقع، أغمض عينيه، حاول أن يركِّز أكثر في التفاصيل، واصل السير، يحس بيد تمسك به وأناس يسيرون معه، نحو ذلك الجدار
الشباب المحاصرون بالغازات ومسيلات الدموع، المصفَّحات التي تصد مسيراتهم وترش عليهم الماء الساخن لتفرّق جموعهم. بدأت خلايا مخه تهتز قليلًا، ترسم الأحداث بخطوط غير واضحة، تتوالى المشاهد، ويأتي يوم "جمعة الكرامة"، يتصاعد الدخان من خلف ذاك السور في الساحة. يرى الجمعة تحترق، والحشود تتجه نحو الدخان الكثيف الذي بدأ يحجب الرؤية، بدأ صوت الرصاص يشق عباب الدخان ليحصد من كان حوله. من أعالي المنازل المحيطة بهم في الساحة أشخاص ملثمون، يحجبهم الدخان، يصوبون بنادقهم، نحو الشباب، اخترقت رصاصة رأس أحدهم، يصيح بهستيريا، تحتضنه أمه، فينتحب بين يديها: آااااااااه.
- لا تحزن يا ولدي، إنه القضاء والقدر. سيأتي يوم تتذكر فيه، رغم أني لا أريدك أن تتذكر مما حدث شيئًا.
- ما هذا يا أمي؟ وما الذي حدث؟
- لا بأس، المهم أنك بين أحضاني بخير.
يدخل غرفته بخطوات يسحب آثارها الماضية من على السجاد، هل كانت هذه غرفته؟
لا يحس بزمن ما في هذا المكان، هناك مكان آخر يراود ذاكرته المفقودة. تمدد على السرير بغربة رأسه المعتمة، ما معنى أن يحيا الإنسان مرتين؟ مرة واحدة يستيقظ فيها ليجد أنه كان ماضيًا. هل هو العذاب؟ هل كنت وسط تلك الجموع حقًّا؟ أين هم الآن؟ هل أذهب لأبحث عنهم؟ نعم، قد أجدني هناك إن وجدتهم.
يقوم باكرًا قبل أن ينهض أحد، يرتدي ملابسه، يتجه إلى الباب وهو يستذكر اسم الساحة التي رآها تلتهب بتلك الأحداث، يقطع الشارع ويسأل عن مكان الحافلات التي يمكن أن تأخذه للساحة المطلوبة، يصعد برأس فارغ، الشوارع مزدحمة، لافتات عديدة منتشرة مكتوب عليها: "بالحوار الوطني نبني مستقبل اليمن"، وعلى جدران أحد الشوارع مرسومة صور المخفيين وأسماؤهم وعام اختفاء كل واحد منهم. لا يدري لماذا فكر بأنه سيجد صورته على الجدار مثلهم، هو مفقود الآن عن نفسه، ولم يجدها بعد. تقطع الحافلة شارعًا آخر، تقف دقائق جديدة أمام جدار أيضًا، ما بال هذه الجدران توثِّق التاريخ الجديد؟ أعجزت الكتب عن توثيقه، أم أن الناس سينسونه كما نسوا تاريخ من أريقت دماؤهم من قبل، هو الجدار يرثي ببؤس رسومًا لضحايا بعنوان "ضحايا حادث العُرضي"، رسومًا لشخصيات كانت تعمل في مستشفى "العرضي" من أطباء وممرضين وجنود.
كل ما يراه الآن يحتاج إلى تفسير؛ تسير سيارة مُعلّقة على زجاجها الخلفي صورة شهيد، "وباص" صغير قد ألصقت على أحد جوانبه صورة شهيد آخر، والعديد من صور الشهداء متفرقة على الجدران.
- ما لهؤلاء الشهداء في كل شارع ومكان؟ شهداء ماذا؟
- ألست من اليمن، ألا تدري؟
- بلى، ولكني فقدت ذاكرتي.
- مستغربًا: آها وكيف فقدتها؟
- يقولون إنني تعرضت لحادث أثناء المظاهرات الشعبية.
- ألا تتذكر شيئًا وأنت كنت بينهم؟ هؤلاء الذين تسأل عنهم؟
- لا أتذكر.
- سبحان الله! هؤلاء كلهم ضحايا الثورة قبل ثلاث سنوات وما بعدها من أحداث، اغتيالات وإرهاب وتصفية.
- وأنا أحد ضحاياها أيضًا. ولكني الآن موجود وزمن آخر يعيد تكويني.
- هو الأفضل لك. حتى لا تتحسر على ثورتكم التي أشعلتموها.
- ألست ثائرًا مثل باقي الشعب؟
- لا، كنت أراقب فقط.
وصلت الحافلة للساحة المطلوبة، التي كانت تضمُّ الثائرين. نزل ليسير بين شوارعها التي كانت ما تزال تحوي قليلًا من تلك الخيام، أحس بغصة في حلقه، فهبت رائحة المكان في أوردة دماغه، بدأ يشعر بصداع غريب، استمر في السير، ملصقات وشعارات أكثرها خضراء، تحمل كلمات "الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل".
وقف يحدِّق فيها، ويسأل نفسه: هل كانت الثورة ضد أمريكا وإسرائيل، أم أنها كانت ضد النظام الفاسد؟
وصل إلى المنصة فازداد الصداع، وصور قديمة تتزاحم في رأسه أصوات الميكرفونات، والأناشيد تطرق بقوة، الأيدي المتشابكة، الهتافات العديدة التي لم يميز منها شيئًا، تمالك جسده حين شعر أنه سيقع، أغمض عينيه، حاول أن يركِّز أكثر في التفاصيل، واصل السير، يحس بيد تمسك به وأناس يسيرون معه، نحو ذلك الجدار، كان يراه والدخان يتصاعد منه بكثافة، صراخ الشباب، هرولتهم نحو الدخان، وصوت الرصاص المنهمر من أعلى البنايات، أولئك الذين يتساقطون بجانبه، محاولتهم للصعود لتلك البنايات المحيطة بهم لمعرفة من يطلق الرصاص بتلك الوحشية على رؤوسهم وصدورهم، من أيدي قناصة ماهرين.
لم يحس إلا بجسده يهوي من فوق البناية التي صعد إليها، وتلك الأيدي التي تحمله وأصوات تغيب عن وعيه. بدأت الدموع تنهمر من عينيه، وهو يرى الآثار المتبقية، جثا على ركبتيه أمام النصب الذي شُيِّد مكان الجدار، رافعًا رأسه نحو صور الشهداء على ذلك النصب، ليقرأ أسماءهم، وحين رأى صورته بينهم تجمدت عروقه.
لكنه الآن يرى حشدًا آخر يضم أسر هؤلاء الشهداء، يهتفون بحقوقهم التي وعدت بها الحكومة الجديدة، والأخذ بثأرهم من القتلة. يرى والدته بينهم، وهي تحمل صورته، باكية في حرقة، ويحاول أن يصل إليها، أن يخبرها أنه هنا، في وطنه وبين أصدقائه. يحاول أن يصرخ، ولكن لا جدوى، فقد استشهد الوطن أيضًا. وخلف تلك الدموع والصور، كان يصرخ فقط: "أمي، ارفعوا صورة هذا الوطن الشهيد".