معهد جميل غانم للفنون بعدن

من فكرة التأسيس إلى تحديات الاستمرار
نجيب مقبل
April 29, 2024

معهد جميل غانم للفنون بعدن

من فكرة التأسيس إلى تحديات الاستمرار
نجيب مقبل
April 29, 2024

(1-2)

كعادتنا في البحث عن أيام التأسيس الأولى للمؤسسات الإعلامية والثقافية ودور الرواد في السياسة والثقافة والإعلام في هذا التأسيس، بعيدًا عن القرارات الرسمية، الجمهورية أو الرئاسية، من الدولة التي يكون أساسًا وراءها عقول نابغة فكّرت وقدّمت الرؤى والأفكار والمشاريع مكتوبةً أو شفاهية من واقع طموحاتها الخاصة والفردية، ونقلها لصنّاع القرار لإتاحة الإنشاء والتأسيس.

وفي هذه الحلقة، أحاول أن أتَتَبّع هذا المنهج في التنكب والمحاولة في كشف دور المبدعين وأصحاب القرار المتنورين في السلطة، في تأسيس معهد الفنون الجميلة الذي تأسس عام 1973، في ظل ظروف سياسية لا تبدو موائمة مع المزاج السياسي والأيديولوجي العام.

بداية، يمكن القول إنّ تأسيس هذا المعهد الفريد في المنطقة، في تلك الفترة، عبّر عن روح الإبداع الكامنة لمدينة عدن، المنفتحة على الثقافة والأدب والفنّ، وظهر فيها أزهى فترات الغناء والصحافة المستقلة والجمعيات الأدبية والموسيقية خلال القرن الماضي، رغم رزوحها تحت الاحتلال البريطاني.

وعندما قامت الدولة الوطنية الجديدة ذات الصلابة الثورية والمراهقة السياسية وتحديات رافقت قيام الدولة، لم يكن من أولوياتها التفكير في مشروع تعليمي للفنون كهذا، لكن النزعة (التقدمية) لدى القادة والمبدعين، وفيهم الذين عاصروا مرحلة ما قبل الاستقلال وما بعده، حملوا على أكتافهم نقل هذه المشاريع النوعية وحاولوا تطبيقها، وهذا ما حصل في إنشاء معهد للفنون الجميلة، في دولةٍ كان من أولوياتها تخريج وتدريب الجنود لحماية الدولة المستقلة لا تخريج الفنانين والمبدعين، ويركزون في أديباتهم وبرامجهم على كفاح الطبقة الكادحة من العمّال والفلاحين!

إنّها مفارقة في مرحلة بدايات ما سُميت (مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية) ذات الفكر الشمولي، التي اخترقها سياسيون مثقفون باسم (الفكر التقدمي)، وأولَوا الاهتمامَ بالفنون عمومًا، وخاصة الفنون الشعبية المرتبطة بالطبقات الكادحة، ومن أجمل هذه الاختراقات النوعية إنشاء معهد متخصص لتخريج الفنانين في الموسيقى والغناء والمسرح والرسم والفنون التشكيلية.

ومن هذه النقطة، أبدأ الحديث عن الرجال المبدعين وصنّاع القرار المتنورين الذين كانوا وراء تأسيس معهد الفنون الجميلة، كأحد المعاهد الفريدة والأولى في الجزيرة والخليج.

محاولة زرع فكرة تأسيس معهدٍ للفنون الجميلة، إنما هي نابعة من رؤية الفنان أحمد قاسم، لتعليم الفن والموسيقى دراسةً علمية احترافية، وتأهيل الشباب الصاعد والموهوب بتقنيات العزف والأداء على الآلات الموسيقية والتأليف الموسيقي، والغناء بصورة علمية.

البداية انطلقت من فنّ الموسيقى

كانت بداية تأسيس وإنشاء المعهد، ترتكز على تدريس الفن الموسيقيّ تحديدًا، ولا غرو أن يكون للموسيقار الراحل أحمد بن أحمد قاسم يدٌ بيضاء في التفكير بإنشاء معهدٍ الفنون الجميلة في عدن، فهذا الفنان العصري في ألحانه وموسيقاه وفي رؤيته للفن وأهله من زاويةٍ طالما كانت متجاوزة لأقرانه من رواد الأغنية العدنية، التي أصبحت فيما بعد الأغنية الحديثة بتجاوزها المحلية العدنية إلى مشروع غناني معاصر وتجديدي.

فهذا الفنان المهووس بموسيقى عصرية متأثرًا بالموسيقى العربية والأجنبية، ويطعمها بشكل مبدع بألحان تنتمي للإيقاعات المحلية، كانت له نظرة أخرى في كيفية تقديم الفن الغنائي، فهو أول من أسّس الفرقة الموسيقية في الخمسينيات، وأول من تجاوز المعتاد في شكل وتنظيم الفرقة الفنية المصاحبة له، وقدّمها في شكل متناسق في المظهر والبدل، بعدما كان التخت المصاحب للفنّان عشوائي المظهر والشكل، وكان الفنانون الكبار يقدمون وصلاتهم في المخادر (سرادق الأعراس) وهم بالزي الشعبي (الفوطة والشميز)، والتخت الموسيقي وراء الفنان لا يقل شكله عن ذات المظهر الشعبي، حتى تحولت الحفلات الفنية من المخادر إلى مسارح السينمات في عدن وبمظهر عصري.

هذه الميزة التي تمتع بها الموسيقار الراحل ابن قاسم، دلّت على هُويته العصرية وعلى رؤيته التجديدية شكلًا ومضمونًا.

ولقد كانت دراسته للموسيقى في القاهرة في النصف الثاني من الخمسينيات، ومغامرته في الدخول إلى عالم السينما ممثلًا في فيلمه الوحيد (حبي في القاهرة)، دالّةً على هوسه المشحون بالعصرية وباحتراف الفنّ على أصوله المتجاوزة للفطرية والموهبة إلى الاشتغال الأكاديمي في الموسيقى والغناء.

وليس أدلّ على ذلك مغامرته أثناء دراسته في موسكو، بالإعلان عن محاولاته لصياغة سيمفونية وطنية بالاشتراك مع أستاذه الموسيقار السوفييتي، وهو مشروع لم يرَ النور.

ما تقدّم دلّ على أنّ محاولة زرع فكرة تأسيس معهدٍ للفنون الجميلة، إنما هي نابعة من رؤيته لتعليم الفنّ والموسيقى دراسةً علمية احترافية، وتأهيل الشباب الصاعد والموهوب بتقنيات العزف والأداء على الآلات الموسيقية والتأليف الموسيقي، والغناء بصورة علمية.

طلاب يتعلمون الفنون في معهد جميل غانم- عدن

المفكر باذيب وراء الإنشاء الرسمي

هذا من جهة الموسيقار ابن قاسم ويده البيضاء في نشر الثقافة الموسيقية بين الواعدين من الشباب، التي سبقه فيها الموسيقار في هذا المضمار. ما يثير الانتباه أنّ تأسيس معهد الفنون كان بدايات السبعينيات من القرن الماضي (١٩٧٣)، وهي فترة أقل ما يمكن القول عنها إنها ذات زخم ثوري، وشعارها (العنف الثوري المنظم)، ولا تهتم من الإبداع إلا بما يرتبط بالأغاني الثورية وأغاني الفلاحين والعمّال والجنود البواسل. 

لكن اليد الثقافية البيضاء الأخرى للمفكر والسياسي اليساري المعروف عبدالله عبدالرزاق باذيب، وزير الثقافة يومها، هي من ساهمت في خروج هذا المشروع الفني إلى النور في مرحلةٍ لم تكن لتضع مثل هذا التوجه الإبداعي الفريد قيد التنفيذ في وقت كانت فيه الشعارات الثورية تملأ الجدران والنفوس.

ففي فترة قيادة هذا السياسي الرائد عبدالله عبدالرزاق باذيب، لوزارة الثقافة، صدرَ القرار الأول بتأسيس المعهد، إذ كان يتمتع بحسٍّ إبداعيّ يتجاوز فيه النزوع السياسي الجامد والحماس الثوري المشحون بنزعات ثورية مراهقة، والتقى آنذاك السياسي المتنور (باذيب) مع الموسيقار المهووس بالعصرية، الطموح لنشر الثقافة الموسيقية، فكان ميلاد معهد الفنون الجميلة حدثًا عصريًّا ومتجاوزًا لكل "التيمات" السياسية الأيديولوجية السائدة في ذلك الزمان. وما بين السياسي المثقف والفنان العصري، ثمة نقطة يجب الالتفات إليها، وهي مساهمة دولة الكويت في بناء هذا الصرح التعليمي المائز بتخصصه للموسيقى والفنّ أولًا، فالمعروف أنّ الكويت الشقيق ساهمت في بناء الكثير من الصروح التعليمية والمستشفيات والمراكز الصحية وغيرها من المنشآت التي كان يموّلها مكتب الكويت في عدن ومحافظات (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية).

ومن المعروف أن دولة الكويت كانت عاصمة عربية للثقافة والفنون والمسرح، ونظرتها التنموية نحو أشقائها العرب لا تخلو من هذه النظرة لبناء صرح الثقافي وفني، وتحمل أعباء وتكاليف ميزانية المعهد.

هذا التلاقي الإبداعي، (ابن قاسم) والسياسي المتنور (باذيب) والتنمية الثقافية (الكويت الشقيق)، وربما عوامل وأياد بيضاء أخرى، جعلت من هذا الصرح الفني الرائد مولودًا نما وترعرع ليتخرج منه طلابٌ واعدون في الفنّ والموسيقى.

وينطلق التساؤل: لماذا تخصص المعهد في أول أيام إنشائه، في تدريس الموسيقى والعزف على الآلات، ولم يكن المعهد منذ ولادته شاملًا لعدد من الفنون التخصصية الأخرى كالمسرح والفن التشكيلي والفنون الشعبية وغيرها. وللإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول إنّ المعهد بدأت فكرته تنطلق من أصحاب الفن والغناء والموسيقى. ولربما كانت فكرة مؤسسيه الأوائل أن يكون معهدًا للموسيقى، كما هي الحال في دول عربية، كمصر والكويت وبغداد وغيرها.

إضافة إلى أنّ الدولة أنشأت المعهد مترافقًا مع إنشاء الفرقة الوطنية للفنون، شملت وظائفها أداء الأغاني والرقصات الشعبية، وتمثيل البلاد في المهرجانات.

لكن واقع الممارسة الممتدة والتسمية الواسعة لاسم المعهد، خوّل له فيما بعدُ تشكيلَ أقسام الفنون الجميلة الأخرى، وليس الموسيقى وحدَها، فتوسعت دائرة النشاط من الموسيقى، الذي أصبح قسمًا واحدًا مع غيره من الأقسام.

جاء تأسيس المعهد متسقًا مع الطبيعة المتنورة والمدنية والمنفتحة لمدينة عدن، التي شهدت خلال القرن الماضي حركةً ثقافية وفنية، وتعددية ثقافية وسياسية وصحفية، وشهد تاريخها المعاصر بروز جمعيات ثقافية وأدبية وجمعيات فنية ونقابات عمّالية.

الدور المحوري للملحن جميل غانم

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ انتقال إدارة المعهد وتبوُّئِها، إلى الموسيقار والملحن وعازف العود المتميز، جميل غانم، أعطى للمعهد دورًا أكبر من التخصص الموسيقيّ، وتوسعت دائرة نشاطه التعليمي إلى مجالات الرسم والفنون التشكيلية والمسرح بعد ذلك من خلال الرؤية الرسمية. وربما الحاجة الموضوعية لتعليم المبدعين في كافة الفنون، هي التي قادت لإنشاء المعهد بصفته مؤسسة تعليمية لكافة الفنون.

طالبات يتعلمن الفن الموسيقي بمعهد جميل غانم- عدن

ويمكن القول من التقديم المقتضب لمن كان وراء تأسيس هذا المعهد وظروف تأسيسه، إنّ (معهد الفنون الجميلة) جاء متسقًا مع الطبيعة المتنورة والمدنية والمنفتحة لمدينة عدن، التي شهدت خلال القرن الماضي قبل الاستقلال الوطني في 1967، حركةً ثقافية وفنية، وتعدّدية ثقافية وسياسية وصحفية، وشهد تاريخها المعاصر بروزَ جمعيات ثقافية وأدبية وجمعيات فنية ونقابات عمّالية، وصدور صحف ذات توجهات سياسية واجتماعية وعقائدية متنوعة من اليسارية إلى القومية إلى الدينية الإصلاحية.

كما كان دور إذاعة وتلفزيون عدن، لا يوصف في نقل التوجهات الثقافية والفنية والإبداعية إلى عامة الناس، فصار الإبداع جزءًا من الحياة فيها كما كان للسياسة والحركات السياسية قبل الاستقلال دورٌ في التوعية والتنوير، مترادفًا مع نهضة موسيقية وغنائية.

كل هذا المشهد المتنوع والمتعدد الأشكال، المنفتح على الإبداع في كافة فنونه، أثّر في ميلاد هذا المعهد بعد ذلك في مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية التي انتهجتها الدولة والتنظيم السياسي الحاكم ذو التوجه الشمولي الذي قلص من هذا التعدد والتنوع، ولكنه ظلّ كامنًا في روح الرواد الأوائل، فأخرج مشروع المعهد التعليمي للفنون الجميلة في فترة مخاض، تتناوب فيها القيادة السياسية بين الجمود الأيديولوجي والشمولية والحاجة الغائية للإبداع والفنّ لتمثيل وترويج التجربة الثورية الناشئة أمام الخارج والفن، وصار بفضل التفكير التقدمي بصيغته المطروحة آنذاك، مجالًا للتفكير للإبداع والفن ونشر ثقافتهما، وهو ما التقطه الروّاد في السياسة والفن والإبداع، الذين عاشوا فترة ما قبل الاستقلال بتعدديتها وتنوعها وبتاريخ مدينة عدن، المعروف بروح التسامح والتحضر والتنوع وعدم الانغلاق.

ولذا، فإن ميلاد (معهد الفنون الجميلة) في تلك المرحلة، حمل إرث هذه المدينة التي تنتصر للتنمية الثقافية والإبداعية من دون أن يكون للعهد الشمولي القائم في سبعينيات القرن الماضي قدرٌ حتمي في أن يحدّ من ظهور مشروع إبداعي كهذا، وإنما صار أحد دالات النظام التقدمي الذي عبّر عن تطلعه في رعاية الفنون.

تبقى الإشارة إلى أن تحول تسمية المعهد باسم الموسيقار الراحل جميل غانم، إنما جاء لدوره التأسيسي في تحمل إدارة المعهد ووضع اللبنات الأولى لترسيخ مناهجه التعليمية، حتى يوم خروجه من قيادة المعهد إلى دولة الإمارات العربية، لينقل تجربة معهد الفنون الجميلة في عدن إلى دولة الإمارات، حيث الإمكانات أوسع والرؤية أعلى والمهام أكبر، ويبقى لمعهد الفنون الجميلة بعدن فضلٌ في نقل تجربته الرائدة في تأسيس معهد الإمارات. 

وعلى مدى أكثر من نصف قرن على التأسيس، تناوبَ على إدارته ثلةٌ من الروّاد في الفن والثقافة والإبداع، منهم: الموسيقار أحمد بن غودل، والمثقف النوعي د. عمر عبدالعزيز، وغيرهم، حتى صار مآل إدارته إلى من كانوا طلابًا فيه سابقًا ووصلوا بعد مرحلة تأهيلٍ أكاديمي في دراسات عليا خارجية، وآخرهم الفنان التشكيلي فؤاد محمد مقبل، الذي تتلمذ في دراسة الفن التشكيلي طالبًا في هذا المعهد، وواصل رحلته العلمية الأكاديمية في دراسة الفن التشكيلي بمدينة طشقند بالاتحاد السوفييتي السابق، واليومَ هو من يدير المعهد ويتحمل مسؤولية قيادته، بعد أن ترسخت تقاليد تعليمية فيه، وترسخت أقسامه الفنية المتنوعة (موسيقى، فنون تشكيلية، مسرح، فنون شعبية)، باعتباره معهدًا لتدريس الطلاب في مرحلة الثانوية المهنية.

ومع الانتقال من مرحلة التأسيس إلى التحديات الحاضرة التي تواجه المعهد اليوم، لنا حديث قادم.

يتبع

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English