تحتفل البشرية بيوم الصحافة العالمي هذا العام، أو أنّها بالأحرى تستقبله بحزن وألم ممضين. فالقتل والانتهاكات تعم العالم، والانتهاكات، وحوادث قتل الصحفيين التي كانت متفشية في بلدان ما اصطُلح على تسميته ببلدان العالم الثالث، بدأت تنتشر في البلدان الديمقراطية منذ عقود.
وترصد المنظمات الحقوقية، والمدافِعة عن الحريات الصحفية، وحقوق الإنسان، والاتحاد الدولي للصحفيين عشرات الانتهاكات في بلدان الديمقراطيات: أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، ومن نافلة القول الإشارة إلى أنّ في هذه البلدان المتقدمة شعوبًا حية، وتقاليد راسخة وقيمًا، ورأيًا عامًّا قويًّا.
المصيبة في بلدان عالمنا، وبالأخص وطننا العربي الميت، والمميت، يصعب الحديث عن حريات صحفية، وحرية رأي وتعبير في بلدان دمرتها الحروب، وأهلكها الفساد والاستبداد اللذَين عادا بها إلى عصور التبدي، والتناحر الطائفي والقبَلي والجهوي.
معروف أنّ الحريات الصحفية هي المدخل الأساس للعصر، وهي أم الحريات كلها؛ فالصحفي لا يدافع عن حرياته فقط، وإنما يدافع أيضًا عن الحريات العامة، والديمقراطيات، وعن حقوق الإنسان، وعن التمدن والتحضر، وسيادة النظام والقانون، وازدهار الحياة، والأمن والسلام.
إنه ليستحيل الحديث عن الحريات الأساسية بمعزل عن الأوضاع القائمة؛ حيث الحياة مهددة، والأمن مغيب، والقتل متفشٍ، وهو السائد والحاكم في غالبية البلدان العربية.
في مقال له في "صحيفة الخليج"، العدد (9761)، بتاريخ 8 فبراير، 2006، تحت عنوان "انتهاك حرية الصحافة جريمة حرب"، يشير الأستاذ صلاح الدين حافظ- الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب، إلى الانتهاكات التي سادت الأعوام الخمسة الأولى من الألفية الثالثة، من 2000 إلى 2005، معتبرًا انتهاكات هذه الأعوام أعنف انتهاك للحريات الصحفية، ليس في منطقتنا فحسب، ولكن في العالم أجمع، بما فيه الدول الديمقراطية؛ رابطًا ذلك بالتطورات التي أطاحت بالعالم القديم.
ويستغرب حالات انتهاك الحريات في البلدان الديمقراطية، مشيرًا إلى تسيد وانتشار الانتهاكات في الوطن العربي الكبير، من موريتانيا والمغرب غربًا، حتى العراق شرقًا.
ويعدّد الانتهاكات مِنْ: فرض القيود على حرية الصحافة والرأي والتعبير، وهي الأشد من نوعها، وصولًا إلى جرائم القتل، مع سبق الإصرار والرصد للصحفيين والإعلاميين، وأنها تفتح الباب أمام النظم المعادية للحرية الصحفية، والجماعات المنفلتة، والتنظيمات الإرهابية والمتشددة، لتقليدها، واتباع منهجها الغريب.
يعدّد الدكتور صلاح هذه الانتهاكات التي تعم الأمة العربية كلها، كما يتناول الانتهاك المرعب الذي قامت به أميركا في العراق، وإسرائيل في فلسطين. ويتناول الانتهاكات في الأقطار العربية، وألوان وأنواع الانتهاكات؛ معتبرًا الانتهاكات جريمة حرب، وضدّ الإنسانية، والمقارنة بين انتهاكات الأمس واليوم فاجعة.
يتفرد اليمن بأحكام الإعدام لصحفيين ومعتقلين ومختفين قسريًّا، ويجري تبادلهم كأسرى حرب، ويُحرمون من مزاولة المهنة، ويعيش كل الصحفيين والإعلاميين كغيرهم من المواطنين الموظفين بدون مرتبات.
قمت بمراجعة "حقوق الإنسان ومجموعة الصكوك الدولية"، في المجلدين الصادرين عن الأمم المتحدة؛ فتأكّدت أنّ انتهاك الحريات الصحفية في الإعلان العالمي، والمواثيق الدولية- جريمة حرب. (تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها: الإعلان المتعلق بحق ومسؤولية الأفراد كمدنيين أيضًا، ص 663-664، و1120، و1125).
فالصحفي شاهد الحقيقة، وهو الموثق للجرائم، والراصد للمخالفات والاعتداء على الحقوق والحريات؛ ومن هنا فقتله، يعني قتل الشاهد.
الاحتفاء بيوم الصحافة العالمي يبدو للصحفيين، وللاتحاد الدولي، وللمنظمات المدافعة عن الحريات والعدالة، وحرية الرأي والتعبير، والنقابات الصحفية- أقرب للمأتم، منها للاحتفاء؛ بل قد ينظر إلى أنّ الاحتفاء، في ظل ما يشهده العالم من حروب كارثية في غير مكان، وبالأخص في السودان، وأوكرانيا، والحرب المستمرة والمتصاعدة ضدّ الشعب الفلسطيني، وقمع الحريات الصحفية في العالم- يجعل منه رفاهية.
ولعل الأهم في الاحتفاء هو التذكير بالانتهاكات، ورصدها، والتحذير من مخاطرها، وفضح تفشيها.
سأتناول باختصار شديد، ما أوردته الوكالات الأممية حول الوضع المأساوي للصحافة والصحفيين، وحرية الصحافة والرأي والتعبير في العالم.
يشير تقرير اليونسكو مركزًا على العوامل الاقتصادية التي أسهمت في تشكيل أزمة الصحافة المطبوعة؛ نتيجة فشل السوق الذي أدّى إلى تناقص دخل الصحف من الإعلانات؛ ما أدّى إلى توقف الكثير من الصحف عن الصدور.
واضح أن هذه أزمة عالمية، ونصيب بلداننا العربية منها كثير، يضاف إليها حالات الاحتراب في اليمن، والسودان، وسوريا، والعراق، وفلسطين، وحالات الحصار المضروب على سوريا، واليمن، والعقوبات ضد لبنان، والسودان، واليمن، وحالات القمع المتفشي في عموم الأقطار العربية؛ فقد أُغلقت عشرات الصحف والإذاعات والقنوات، وهرب الكثير منها.
ويتفرّد اليمن بأحكام الإعدام لصحفيين ومعتقلين ومختفين قسريًّا، ويجري تبادلهم كأسرى حرب، ويُحرمون من مزاولة المهنة، ويعيش كلُّ الصحفيين والإعلاميين كغيرهم من المواطنين الموظفين بدون مرتبات.
ويشير التقرير إلى ارتفاع عدد الصحفيين الذين تم قتلهم في جميع أنحاء العالم بشكل كبير عام 2022، بعد انخفاض على مدى السنوات الثلاث الماضية، وفقًا لمنظمة اليونسكو، مؤكدًا على مقتل 86 صحفيًّا بمعدل صحفي كل أربعة أيام؛ ارتفاعًا من 55 حالة قتل حدثت خلال عام 2021.
وقالت الوكالة الأممية: إنّ هذه النتائج تسلط الضوء على المخاطر الجسيمة التي لا يزال الصحفيون يواجهونها، ودعت المديرة العامة لليونسكو (أودري أزولاي) السلطات إلى تكثيف جهودها لوقف هذه الجرائم، وضمان معاقبة مرتكبيها؛ لأنّ اللامبالاة تعدّ عاملًا رئيسيًّا في هذا المناخ المتسم بالعنف.
وإذ تشير إلى القتل في السكن، والعمل، والأماكن العامة، تشير إلى أنّه لا يوجد مكان آمن للصحفي، مشيرة إلى أن أمريكا اللاتينية، ومنطقة البحر الكاريبي كانتا الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين عام 2022، حيث قتل 44 شخصًا؛ أي أكثر من نصف جميع القتلى في أنحاء العالم، وترى أنّ المكسيك هي الأكثر دموية.
يشير التقرير إلى ارتفاع عدد الصحفيين القتلى في البلدان التي تشهد نزاعات إلى 23 قتيلًا، عام 2022، مقارنة بـ20 قتيلًا، في العام السابق، معللًا الزيادة بعمليات القتل في البلدان التي لا تشهد نزاعات.
تضاعف هذا العدد تقريبًا من 35 حالة عام 2021، إلى 61 حالة عام 2022، ويُرجع بعض أسباب القتل إلى أعمال انتقامية؛ بسبب تغطيتهم الجريمة المنظمة، أو النزاع المسلح، أو التطرف.
وقالت منظمة اليونسكو: إنّ مكافحة الإفلات من العقاب يظل التزامًا ملحًّا يجب تعزيز التعاون الدولي بشأنه.
وتشير اليونسكو إلى أشكال أخرى للقمع، منها: التشهير، والقوانين المتعلقة بالإنترنت، وتشريعات مكافحة الأخبار الكاذبة التي تُستخدم كوسيلة للحدّ من حرية الصحافة، وخلق بيئة سامة للصحفيين، وهناك العنف، والاختفاء القسري، والاختطاف، والاحتجاز، والمضايقات القانونية، والعنف الرقمي، واستهداف النساء بشكل خاص.
يتوقع التقرير اتساع أزمة الصحافة الورقية، وهناك مخاطر تهدّد وسائل الإعلام كلها؛ محدّدًا ثلاث مخاطر: المصالح، والنظم، والتكنولوجيا التي لا تهتم بحقوق الإنسان، والديمقراطية، والتنمية المستدامة.
ويرى أنّ الصحافة المطبوعة ترتبط بالديمقراطية؛ حيث تقوم بدور مهم في تطوير المجال العام المدني، وتمد المواطنين بالمعلومات الأكثر مصداقية والتي يمكن الاعتماد عليها في اتخاذ المواطنين لقراراتهم في المشاركة السياسية، لكن تحتاج الصحف لحماية استقلالها؛ لكي تحظى بثقة المواطنين.
أصدرت نقابة الصحفيين اليمنيين تقريرها للربع الأول من عام 2023، راصدةً جملة من الانتهاكات؛ حيث رصدت عشرين حالة انتهاك طالت الحريات الإعلامية، وسبع حالات تعامل قاسٍ للمعتقلين بنسبة 30%، وست حالات حجز حرية بنسبة 30%، وحالتَي إيقاف راتب بنسبة 10%، وحالتَي اعتداء بنسبة 10%، وحالة تهديد بنسبة 5%، وحالة مصادرة تقنيات بنسبة 5%.
ويحدّد التقرير المنتهكين: الحكومة الشرعية 12 حالة بنسبة 60%، يليها جماعة الحوثي بثماني حالات بنسبة 40%؛ رغم توقف النشاط الصحافي المعارض، والمستقل.
ورصدت النقابة 7 حالات تعامل قاسٍ مع المعتقلين، ارتكب الحوثيّون منها 6 حالات، فيما ارتكبت الحكومة حالة واحدة.
كما رصدت النقابة ست حالات حجز حرية: ثلاث حالات ملاحقة، وحالتَي اعتقال، وحالة احتجاز واحدة ارتكبها الحوثيون.
ورصدت النقابة وجود ستة صحفيين معتقلين لدى جماعة الحوثي، وصحفي واحد لدى الحزام الأمني، وصحفي لدى منظمة القاعدة، وصحفي لدى السلطات السعودية، كما رصدت حالتَي إيقاف راتب لعاملين في الإعلام الرسمي؛ حيث أوقف الحوثيون نصف راتب عددٍ من منتسبي المؤسسات الإعلامية؛ بحجة أنهم خارج البلاد، بينما قامت الحكومة بإيقاف راتب العاملين في المؤسسات الحكومية منذ ستة أشهر.
ويشير التقرير إلى تدهور الحياة المعيشية لدى المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون والحكومة طوال سنين الحرب، كما رصدت النقابة مصادرة مقتنيات صحفي في مأرب، وحالة محاكمة لصحفي في حضرموت، كما رصدت النقابة حالة الاعتداء على مقر نقابة الصحفيين اليمنيين بعدن، وحالة تهديد لرئيس فرع النقابة، الزميل محمود ثابت، من قبل عناصر أمنية تتبع المجلس الانتقالي.
وأشارت النقابة إلى رفض الحوثيين بصنعاء إعادة بث إذاعة "صوت اليمن" الفنية، رغم صدور حكم قضائي.
ويتناول التقرير حالة الإفلات من العقاب، كما يؤكّد على تدهور الأوضاع المعيشية بالغة السوء، مقدمًا توصيات تتعلق بصرف المرتبات، ومطالبة جماعة الحوثي بإطلاق سراح الصحفيين المختطفين، وهم: وحيد الصوفي، ومحمد الصلاحي، ومحمد الجنيد، كما تطالب المجلس الانتقالي بإطلاق سراح الصحفي أحمد ماهر، وإيقاف الاعتداء على المؤسسات النقابية، وإعادة مقر نقابة الصحفيين بعدن، ومطالبة جماعة الحوثي بإعادة بث إذاعة صوت اليمن، وإعادة أجهزة الإذاعة المنهوبة.
أخيرًا، فتقارير النقابة الصحفية السنوية والفصلية طيلة سنِي الحرب، تؤكد تنافس أطراف الحرب، والميليشيات المتقاتلة، على التنكيل، والقمع، والفساد، والاستبداد، وكأن كل طرف يريد أن يكون الأسوأ، والأشدّ عنفًا وقمعًا وعدوانية.