تعريف مفهوم الهوية قضية شائكة في العلوم الاجتماعية، ذلك لأنه يندرج ضمن سلسلة لا نهائية من المفاهيم الأخرى. لأن تحديد هوية أي شيء أو موضوع مقترن بمجموعة من السمات الحصرية والعامة. فإذا أردنا أن نحدد هوية أي علم مثلًا، فسنحتاج للبحث في سماته الخاصة والسمات العامة التي تربطه بالعلوم الأخرى، فهو ليس علمًا معزولًا عن بقية العلوم وإلا لما كان له لزوم. وإذا كان مجرد علم تابع أو ملحق فإنه يضيف شيئًا للمعارف الإنسانية. إذن لا بدّ أن يمتلك ميزته الخاصة التي تجعله مميزًا عن غيره، ولكن لا بد أن تكون له كذلك سمته التي تجعله ينتمي لهذا الحقل من العلوم وليس لغيرها.
على أنّ مفهوم الهوية الاجتماعية أشدّ تعقيدًا. لماذا؟ لأنّها غير قابلة للتشيُّؤ والقولبة، بمعنى أنها كائن مثلها مثل الكائن الاجتماعي ذاته، تكتسب كينونتها من طبيعة الحياة الإنسانية، فهي قابلة للنمو والتطور والسمو والارتقاء، وقابلة كذلك للانكسار والفتور والاندثار، وهي تتأثر بالعديد من العوامل، نهوضًا وسقوطًا.
فالهوية الاجتماعية لا تُصنع في معامل أو مصانع أو في ورش العمل السياسي والمساجلات الشعرية والمناظرات والفهلوة الأيديولوجية؛ لأن ذلك عادة ما يقود نحو الهدم العاطفي للإنسان كما يقول المفكر الفرنسي أليكس ميكشيللي في كتابه "الهوية". ويشير ميكشيللي أن تعرض العمال لظروف عمل شاقة مثلًا، يجعلنا نلاحظ عليهم عملية استلاب بسبب تلك الظروف.
ووفقًا للمؤلف، فإن الهوية في البيئة الاجتماعية هي "مركب من المعايير الذي يسمح بتعريف موضوع أو شعور داخلي ما. وينطوي الشعور بالهوية على مجموعة من المشاعر المختلفة، كالشعور بالوحدة، والتكامل والانتماء والقيمة، والاستقلال، والشعور بالثقة، المبني على أساس من إرادة الوجود".
عدد لا متناهٍ من الخيارات المختصة بالمعايير التي تحدد به الهوية عندما نفكر بتحديد هوية طفل ما: السن والجنس والبيئة العائلية والثقافية والمدرسية، وجملة الاهتمامات والاتجاهات والعلاقات باختلافها والأنشطة الرياضية وردود أفعال ذلك الطفل في مختلف الظروف. وهكذا تتوارد المتطلبات والسمات التي يجب البحث فيها؛ الأمر الذي يحتم علينا بالنتيجة دراسة عدد غير قليل من المفاهيم السيكولوجية والسوسيولوجية عند محاولة معرفة الوسط العائلي. ونفس الشيء ينطبق على الهويات الفرعية، كنظام العلاقات والنظام السيكولوجي المتعلق بالخصائص والسمات.
لا يمكن بأي حال تحديد هوية فرد أو مجتمع من خلال شيء مادي كالملبس أو المأكل أو المشرب؛ لأن تلك مجرد رموز أو تعبيرات جانبية للهُوية، وليست الهوية ذاتها.
عند تحديد هوية المجتمع، أو الجماعة، أو الفرد، ينبغي -حسب ميكشيللي- العودة إلى جملة من العناصر المهمة، مادية وفيزيائية وثقافية ونفسية وذهنية، لا مجال لحصرها هنا.
وفي صياغة الهوية تندرج البيئة الحيوية للناس، أي الإطار الجغرافي وحالة التضاريس والمناخ والطقس وأنواع السلوك المنحدرة من ذلك، بما فيه إشباع الحاجات والحرمان والكبت والطقوس والعادات. إلى جانب التاريخ المشترك للجماعة البشرية وطبيعة الصراعات الداخلية ونتائجها، وموروث المورفولوجيا وصورة البطل التاريخي وطبيعة النمو السكاني والعوامل المؤثرة فيه.
ويدخل في ذلك النشاط الاقتصادي ومختلف الأنشطة وتوزيعها حسب السكان وصنوف التنظيم الاقتصادي. ومن خلال المؤشرات الاقتصادية يمكن بناء معلومات تسمح بتحديد مستوى الازدهار الاقتصادي، والتبعية الاقتصادية، ونسبة التوجه نحو الإبداع، إلى جانب الأنشطة الدينية، والاستعراضية، وأنماط الحياة: السلوك النموذجي الخاص بالجماعات الفرعية، والأحداث المميزة للحياة، والعصيان الاجتماعي. ويشار هنا أيضًا إلى اللغة وما تشمله من مفردات إلى الصيغ اللغوية، والتحولات اللغوية، والإبداعات الجمالية.
كما يلعب التنظيم الاجتماعي أدوارًا رئيسية في نظام التقييم الرسمي ونظام التعويضات، وطرق التعامل مع المعلومات وتوزيع الأدوار. وينطوي أيضًا على دراسة الصراع وتحليل التداخلات والأحداث النموذجية، ثم دراسة المسافة الاجتماعية داخل الجماعة: علاقة التجاذب والتنابذ والترابط، وشبكات التعاون ومستوى التدرج الاجتماعي الداخلي، ونمط الزعامات القائمة.
الهوية عملية مستمرة، وهي شعور غير ملموس. بل محسوس؛ ولا يمكن للمرء أن يصل إلى الهوية ولمسها. وهي بناء على ذلك وليدة عملية تربوية واعية تدرك مرامي بناء الإنسان المتكامل والمتآلف مع ذاته ومع الآخر.
وهكذا يمكن تعريف الهوية، حسب ميكشيللي، بوصفها "منظومة من المعطيات المادية والمعنوية والاجتماعية التي تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفية. ولكن لا يمكن لمثل هذه المنظومة أن تكون في حيز الوجود ما لم يكن هناك شيء ما يعطيها وحدتها ومعناها، ويتمثل ذلك في الروح الداخلية التي تنطوي على خاصة الإحساس بالهوية والشعور بها.
فالإحساس بالهوية مركب من المشاعر المادية، ومركب من مشاعر الانتماء، والتكامل والإحساس بالاستمرارية الزمنية، والتنوع، والقيم، والاستقلال، والثقة بالنفس والإحساس بالوجود. ومن هنا يمكن القول بأن أزمات الهوية تولد تحت تأثير عمليات كبت تنال جانبًا، أو جوانب متعددة من مشاعر الإنسان". إذن، هناك عوامل ينبغي توفرها لتأمين ذلك الشعور بالهوية والانتماء للجماعة والشعب والأمة، وإلا لظهرت بالمقابل الهوية السلبية كنقيض للهويات العابرة الحزبية، والاصطفائية والفئوية والمذهبية والعرقية والمناطقية.
إنّ الهوية عملية مستمرة، وهي شعور غير ملموس. بل محسوس؛ ولا يمكن للمرء أن يصل إلى الهوية ولمسها. وهي بناء على ذلك وليدة عملية تربوية واعية تدرك مرامي بناء الإنسان المتكامل والمتآلف مع ذاته ومع الآخر. تكمن إشكالية اضطراب الهوية في تعدد منهجيات التربية لدى الطفل منذ البداية. فعندما لا تتسق عملية التنشئة بين فاعلِيها الأساسيين البيت والمدرسة والمؤسسة، بسبب التناقض في تفسير الوضع القائم وأحداث التاريخ والنصوص الدينية والثقافية، وتكريس الثقافة الانعزالية، فلا بد أن يظهر المجتمع أو بعض فئاته مقاومة بهوية نقيضة. من المهم إدراك أنّ الأسرة يمكن أن تقدم تفسيرها الذي تعتقد أنه الحقيقة في أي شأن؛ نظرًا لأنّ طرفًا -أو أطرافًا– شريكًا بعملية التربية يقدم تفسيراته الخاصة دون الوقوف على منهجية علمية حصيفة ودقيقة، الأمر الذي من شأنه أن يخلق هويات متناقضة ومتصادمة في آن. يتولد دائمًا يقين أنّ الطرق اليومي على رؤوسنا بهراوة الهوية لن يخلق هوية مفصلة حسب المقاس، فالأمر قد برهن على فشله تاريخيًّا. الطرق والسحب على هذا المفهوم لن يقود في نهاية المطاف إلى هوية مقولبة بنسق واحد يلغي مجمل التمايزات والسمات الخاصة لأي جماعة أو فئة أو منطقة لصالح سمات وخصائص أخرى.
إذن، الهوية الوطنية هي اجتماع للأشخاص الذين يشعرون أنهم متماثلون لأنهم ينتمون إلى أمة واحدة، الهوية أيضًا ليست ثابتة، ولكنها تحتاج لمحفزات تقوي عناصر ذلك الانتماء ولا تقوضه. تتغير المشاعر والعمليات مع مرور الوقت، وبالتالي تتغير الهوية أيضًا. فالناس تحتاج إلى عوامل وظروف تشعرهم بهذا الانتماء والسعي لتجسيده. تحتاج لسبب منطقي للإحساس بالأمل بصدقية الادعاء بهذه أو تلك من الهويات، تحتاج إلى قوة روحية ومادية تربطها بهويتها.