يعتبر الأديب سمير عبدالفتاح من أدباء التسعينيات المعروفين في اليمن، حيث أصدر ست روايات وخمس مجموعات قصصية وعدة مسرحيات، ورواياته تحمل في طياتها عمقًا وتعقيدًا فنيًّا وموضوعيًّا، ويعد من كتاب تيار الوعي في جيله، ومسرحياته تغوص عميقًا في النفس البشرية ودواخلها.
رواية "فندق" التي صدرت العام 2018، عن وزارة الثقافة بالتعاون مع مؤسسة أروقة للنشر والترجمة، هي من أجود أعماله السردية، وهي هنا موضوع مقاربتنا.
تركز الرواية على حكاية صحفي ذهب في مهمة، ولكن هذه المهمة تم إلغاؤها، فيقيم في فندق بسيط، سيكتشف لاحقًا أنّه ملاذ لمن يريدون الانزواء والهروب من ضغوط الحياة إجمالًا.
الذات والآخر والانتماء
"تتطلب كتابة الرواية قدرات خاصة، تستطيع نقل الواقعي إلى الجمالي، بما يعنيه من قدرات تخيلية، وربما كانت معاناتها تكمن في ذلك القلق بين مصداقية الواقع وجمالية تحويله إلى فن، ومن ثم يختزل الروائي عبر شخصيته عدة شخصيات، أي عدة أصوات، وبذلك يكثف الفن والرؤى والأحلام، مثلما ينتقي لملامح شخصياته ما هو مؤثر ودرامي؛ لذلك يحتاج إلى مبدع ماهر، يستطيع أن ينسج خيوطه المتشكلة من فضاءات متعددة (لغوية، وفكرية، وبيئية، ...)، ويفسح المجال للرؤى المتعددة، التي تعني امتلاك وعي منفتح على كل الاتجاهات الفكرية التي ابتكرتها الإنسانية"(*).
فكرة رواية "فندق" تنطلق من البحث عن الذات والآخر والانتماء، وتأثير الظروف المختلفة على الفرد بوصفه رقمًا في المجتمع، حيث تركز الرواية على حكاية صحفي ذهب في مهمة، ولكن هذه المهمة تم إلغاؤها في الوقت الذي كان قد وصل فيه إلى المدينة، ليقيم في فندق بسيط، سيكتشف لاحقًا أنّه ملاذٌ لمن يريدون الانزواء والهروب من ضغوط الحياة إجمالًا.
يعرض الكاتب في فندق، ما تتشكل من صراعات داخل الشخصية المركزية في النص (الصحفي)، التي تتداخل مع حكايات المقيمين في الفندق، وتتجسد هذه الفكرة من خلال تفاصيل حياة الشخصيات وتفاعلاتها مع بيئتها والمحيطين بها، بحيث تعكس صورة واقعية لتجربة الوحدة والانزواء، كما تعرض هذه الوحدة على الأشخاص وتحولاتهم النفسية.
"نحن نحتاج إلى مكان نشعر داخله بالأمان، البعض يختار مساحة كبيرة يسميها وطنًا، والبعض يختار نطاقًا أقل ويسميها قرية، والبعض يكتفي ببيت، والبعض يختار التضاريس، والبعض يختار مجموعة من الناس ليكونوا وطنًا له، قوميات، أعراقًا، أقليات، أكثريات، عنصرية، مشاعية، سمها ما شئت، كلها مصدرها واحد، وهدفها واحد، هدفها البحث عن الأمان". (الرواية ص80).
أتاحت تجربة التنقل الفردي الدائم للكاتب وعيشه في الفنادق البسيطة أن يجعلها منفتحة على المجموع، متجاوزًا ذاته، وقريبًا من الجماعة، ومقربًا العلاقات مع الآخرين، ففي ظل حتمية الارتباط بين البشر، تتشكل عنده من خلال السياقات الحوارية التي تحكم انفعالات الذات الفردية ودورها في صياغة الذات الجماعية الأشمل، ومن خلال هذه الشخصيات تتشكل الذات الساردة وارتباطها بسيَر المقيمين في الفندق، فهناك خيط خفي يربط بينها جميعًا، مما يفضي في النهاية إلى التنوع الذي تقوده هوية الفندق.
يوغل الكاتب في محاولة اكتشافه للذات الفردية عند شخوصه في النص وجعلها تتصدر المشهد من خلال الحوار الداخلي "المنولوج"، فالتنوع الثقافي في تكوين المقيمين في الفندق جعل الروائي يتحرك في مساحة واسعة لاكتشاف الأسباب التي جعلت كل شخصية من الشخصيات تقيم في الفندق، فمن شخصية مالكة الفندق، إلى "مدحت" عامل التصليحات، مرورًا بـ(عوض، متون، وفيق، مادلين) حيث تظهر الوقائع المؤلمة التي تعرضوا لها، وطريقة تعاملهم معها، وكيف تتغير وجهات نظرهم وتتقاطع مساراتهم وارتباطهم بالآخر، مشدودين للصراع الخفي بينهم، مما يصعب على القارئ أن يصل إلى المركز، أو البؤرة السردية في العمل.
تقوم الرواية على الثنائيات، مثل: (وفيق- مادلين)، (عوض- متون) والزوايا، فـوفيق يمثل زاوية وعوض يمثل زاوية أخرى، وتمثل شخصيات (عاطف+ المحاسب+ وفيق+ عوض+ متون+ مادلين) أركان الفندق، ومن خلالها نستطيع أن نكتشف تاريخ الفندق، فـأحد الخيوط المشتركة التي تربط الشخصيات، هو شعورهم المشترك بذواتهم التي انعكست على العزلة والوحدة، على الرغم من كونهم محاطين بالآخرين في الفندق. والكثير منهم يشعرون بإحساس عميق بالانفصال العاطفي والانفصال التام عن أُسرهم، إذ يحفر الكاتب في جدران التجربة الإنسانية المتمثلة في الشوق للتواصل، وصعوبة العثور على الرفقة الحقيقية، من خلال الصراع على المرأة.
تتضح الارتباطات الخفية والخيوط المشتركة في الرواية عندما يتم انغماس القارئ في عمق الحبكة السردية وتحليل العلاقات بين الشخصيات، ومحاولة فك الارتباط الخفي بينها.
الحياة مجرد غرف في فندق
الفندق بصفته مكانًا روائيًّا مغلقًا، يعتبر نقطة تلاقٍ لجميع الشخصيات لدى السارد المركزي، حيث تعيش وتتداخل مصائرها وقصصها في سياق واحد، كونهم يتبادلون الأفكار والتجارب، ويتأثرون بعضهم ببعض رغم تنوعهم الثقافي والاجتماعي.
"كان الفندق ينفتح على أشخاص رأيتهم مرارًا، لكن كأني أراهم للمرة الأولى، أشخاص لم أكن أعتقد أنهم موجودون في ظلال الفنادق، وتوالي تعرفي عليهم كان أكثر غرابة، كان هناك من يراقبني منذ البداية"، و"كل واحد منهم يحمل أفكاره وطريقته في إثارتي، وهذا ما دفعني للتساؤل أين كانوا يختفون؟! وهل يوجد آخرون غيرهم ينتظرون؟ ومتى سيظهرون أمامي؟" (ص50-51).
الأمر الذي يقود السارد إلى اكتشاف نفسه في المقام الأول، واكتشاف اللعبة التي تقدمها الحياة له ولنا من خلال الشخصيات التي حاولت أن تحكم إغلاق ذواتهم وعدم انكشافها للغير، وهو ما أغرى السارد لكشف ما يدور في الخفاء.
تتيح الرواية إمكانيات معاينة الأبعاد النفسية عند الشخصيات التي يجيدها الكاتب، فهو مثلًا يمارس علينا لعبة العد من خلال أرقام الغرف وارتباطها بالشخصيات المقيمة فيها، ويمكننا التركيز كذلك على تأثير الفندق بصفته بيئة فريدة على حياة النزلاء، وكيف يتشابكون فيما بينهم، كما توضح كيف يمكن أن يكون الصحفي عينًا مهتمة تُفتح كنافذة واسعة على قصص الحياة المتنوعة والأوجه المختلفة للشخصيات الفاعلة في النص.
تتضح الارتباطات الخفية والخيوط المشتركة في الرواية عندما يتم انغماس القارئ في عمق الحبكة السردية وتحليل العلاقات بين الشخصيات، ومحاولة فك الارتباط الخفي بينها، والثنائيات وأرقام الغرف وارتباطها بأدوار الفندق، إن استكشاف هذه الارتباطات يساهم في فهم أعمق للرواية ومغزى القصة، ويكشف عن روح الكاتب ورؤيته الفنية، وهو ما يعقد مهمة القارئ الذي لا بد أن يتحلى بخلفية معرفية لا بأس بها.
عين الصحفي البانورامية
تتصدر الشخصية الرئيسية في الرواية، عندما يجد نفسه محاصرًا بين الحنين لموطنه والتحديات التي تواجهه في المكان الجديد، حيث يتم تصوير هذه الشخصية بملامحها النفسية العميقة وتهتكاتها الداخلية على مدى الزمن الروائي، مما يجعل القارئ يستكشف تطورها وتحولها على مر الأحداث.
كما أنّ الشخصيات الثانوية تتنوع داخل البنى الحكائية بين المقيمين بشكل دائم والمقيمين بشكل مؤقت في الفندق، وتتنوع خلفياتهم وقصصهم الشخصية، حيث يتعامل الكاتب ببراعة مع تفاصيل حياة هذه الشخصيات، مما يساهم في إكساب الرواية بُعدًا إنسانيًّا واضحًا.
"أراهم الآن وأنا أتذكر مقولة عوض (نظرة الآخرين لك هي الحقيقية)، وما تعتقد عن نفسك فهو الصورة المزيفة" (ص177)، فـعين الصحفي تختلف في رؤيتها عن عيون الآخرين، فالحدقة التي يرى بها، تجعل التفاصيل أكبر فهو يضعها تحت المجهر، ومن خلالها تظهر الشخصيات بعالمها الواسع أو الضيق، فهو يمارس دور الناقد في بنى السرد. ومن خلال الكتابة اليومية والتصوير، يشرح ويحلل الأحداث ويحاول أن يربطها ببعضها ويسبر أغوار الفندق والمقيمين فيه.
ويظل السارد يلاحق تركيب الشخصيات ودورها المحوري في النص والإسقاطات المراد إيصالها للقارئ من خلال النسيج المحكم لكل شخصية ورحلتها لاكتشاف الذات، وهو بذلك يساعد الشخصية على اكتشاف ذاتها الغائبة خلف ركام الهموم والوحدة التي اختارتها.
كما أنّ الكاتب تمكن من عكس رؤيته وقدرته في بناء شخصيات الرواية، فكل حركة داخل النسق محسوبة، لهذا تبدو مثل قطع الشطرنج يحركها في الوقت والزمن المناسبين، وتوضح هذه التحركات تأثير الأحداث على حياتها وتكويناتها النفسية.
مجموعة تسرد ارتباطها بالعالم المحيط بها، ما يجعلها مختلفة بحد ذاتها، وقد استطاع الكاتب أن يجعلها ركيزة أساسية من خلال وضعها تحت مجهر المعاينة.
ليس كل شيء على طبق
لم ينسَ الكاتب أن يسرد تاريخ الفنادق بشكل عام وتاريخ الفندق بشكل خاص، وهو إن جاز التعبير مرتكز مهمّ للدخول في قراءة الرواية وتكوين بُعد أولي عن موضوعها، ومن خلال بُناها السردية يقف القارئ عند بعض الشخصيات لفهم طبائعها أكثر، فهو لا يقدم للقارئ كل شيء على طبق من ذهب، فلا بدّ للقارئ أن يشارك في معاينة الشخصيات، وحالات الغموض التي يعززها الكاتب بشكل مقصود؛ كـ"الوحدة" الذاتية بوصفها حاضرة في كل ملامح الرواية، كما نقرأ من خلال الشخصيات الرئيسية ملامح التوتر عند تجمعهم وارتباطهم بالرغم من معرفة كل واحد بحدوده وحرصهم على عدم تجاوز الخط الأحمر للآخرين.
وتتمثّل القيمة المباشرة فيما يشير إليه فعل القراءة والتأمل والوعي الكبير بقصص الشخصيات، الذاهبة للنسيان وعدم ملاحظتها من الآخرين؛ فهي مجموعة تسرد ارتباطها بالعالم المحيط بها، ما يجعلها مختلفة بحد ذاتها، وقد استطاع الكاتب أن يجعلها ركيزة أساسية من خلال وضعها تحت مجهر المعاينة.
أجاد الكاتب التعامل مع اللغة وتطويعها، ومع تشكّل البُعد النفسي وتحولاته، واكتشافاته لارتباط الإنسان بالمكان، ومن خلال تتبع حياة النزلاء يسرد بطل الرواية حكاياتهم، سواء الدائمين أو المؤقتين، مع التركيز على المقيمين الدائمين، كما تمكّن الكاتب من سرد حكاياتهم بطريقة سلسة تقوم على التناوب المتقطع، من خلال تطوير الشخصيات عبر سرد الأحداث وتفاعل بعضها مع بعض، بتغير وتطور كل شخصية داخل الزمن الروائي، ورحلتها والتحولات التي مرت بها.
الكاتب استطاع أن يشبك الحدث بالزمن، ومنسوب التشويق في الحدث عالٍ، والوصف لديه دقيق، والأحداث بدون إسراف؛ الأمر الذي أضاف لأجواء الرواية قدرًا كافيًا من الإقناع، وقد برزت أفكار الانعزال والتواصل من خلال السرد، مؤكدة أنّ التواصل يكسر الانعزال وأنساقه.
كما برزت الهُوية الذاتية من خلال رحلة الراوي المركزي في سرد حكايات الشخصيات، عبر رحلته النفسية ذاتها، ليكشف عن أثر الانعزال والوحدة على المرء، وتتجلى الشخصيات كأنها تأتي في شكل متآلف ومتجاوب بشكل تصاعدي، كاشفة عن خصوصية كل حكاية واشتباكها بحكايات الآخرين.
وتحضر الرمزية من خلال أرقام الغرف، وتقسيم الفندق إلى مربعات؛ ليسهل على القارئ الربط بينها، حتى إن رقم الغرفة له ارتباط مع المقيم فيها، إلى جانب ارتباط كل غرفة بالغرفة التي بجوارها مع الغرفة التي تحتها من خلال توظيف الرمزية والاستعارة لإيصال المعنى والفكرة والذكريات المشتركة، وكيف يمكن أن تتشابك حياة الأفراد بطرق غير متوقعة.
هامش:
(*) إشكالية الأنا والآخر، ماجدة حمود، عالم المعرفة، العدد 398، ص29.