حين سأل وديع الصافي فيروز في المسرحية الغنائية "سهرة حب": "أنت من وين؟"، بدا أن السؤال لم يعجبها، فتحايلت عليه، واختارت جوابًا بعيدًا عن الجغرافيا ومتاعبها. قالت: "أنا من بلد الشبابيك المجروحة بالحب.. المفتوحة ع الصدفة". أفهم تهرّبها من الجواب، فالسؤال مزعج، وفي غالب الأحيان بعيد عن البراءة، يستدرجك السائل إلى فخ التصنيفات، فمن الخير لك أن تلزم الحذر، ولنا في العزيزة فيروز وجوابها حكمة.
قطع حديثه معي وقال: "لهجتك السعودية تثير لدي حساسية مفرطة. تحدثي اللهجة اليمنية فليس أجمل منها". ذهلت لثوانٍ ولم أدر ما الجواب. كان لقاء عمل لا جلسة ودية بين أصدقاء. وكان الحديث عن كوارث البلد لا عن اللهجات العربية وجمالياتها. ثم أليس فيما قاله نوع من التمييز العنصري؟ والأدهى أن يصدر من شخص يعد ضمن نخبة مجتمعنا، فإذا كان هذا هو حال نخبنا فكيف هو الحال مع بقية الفئات؟ ثم ماذا يجدر بي أن أفعل؟ فلا أحسبني أمتلك زرًّا لتغيير اللهجات، وانتقاء ما يروق منها لأذن السامع عالية الحساسية.
غير أن حديثه جعلني أنتبه إلى قضية اليمنيين العائدين من السعودية في السنوات الأخيرة، وتحديدًا أولئك الذين ولدوا هناك، إذ إن صعوبات التأقلم مع المجتمع الجديد لدى هذه الفئة تكون عادة أكثر حدة، فمنذ منتصف العام 2017 بدأت الحكومة السعودية بتطبيق ما أسمته "المقابل المالي"، وهي رسوم شهرية فرضت دفعها على العمالة الوافدة، تتصاعد سنويًّا وتضاف إلى رسوم الإقامة، وتشكّل عبئًا ماليًّا هائلًا، مما حدا بالكثير منهم إلى مغادرة السعودية.
بحسب المنظمة الدولية للهجرة (IOM) فإن 137.150من اليمنيين عادوا من السعودية خلال الأعوام الثلاث الأخيرة، في 2018 و2019 و2020، لكن الأرقام لا تذكر كم عدد الذين ولدوا هناك بين العائدين، ولم تتوفر المعلومة في أي مصدر بحثت فيه. حسنًا، لا نعلم كم هو عدد "مواليد السعودية" الذين عادوا إلى اليمن في السنوات الأخيرة، لكنني أعلم أن من بينهم إبراهيم وحنان، وأنا.
أوان الرحيل
ولدت في السعودية وكبرت فيها، جئت إلى اليمن أواخر العام 2013. كنت أزوره للمرة الأولى، لم أزره من قبل لأسباب كثيرة، لا مجال ولا أهمية لذكرها. ما يهم أنني جئت وأنا امرأة راشدة لا طفلة في طور التشكيل، تشكّلتُ حيث ولدت وانتهى الأمر، ترسّخت عادات وطباع ولهجة، ثم غادرت السعودية بقرار مني، بعد أن رحل من كان يربطني إليها، وبفقده تعمّق إحساس ضياع الهوية الذي طالما لازمني، فقررت الرحيل عن بلاد لم يعد لي فيها غير قبر مُنعت زيارته.
إبراهيم قاسم (35 سنة)، يملك باصًا صغيرًا لنقل الركاب في عدن، ولد في السعودية وأُجبر على مغادرتها قبل ثلاث سنوات، لسبب قال إنه ليس للنشر، كبر بمعزل تام عن جذوره اليمنية، سألته عما شعر به لدى وصوله، قال: "الصدمة". لهذا فضّل العزلة، وأحاط نفسه بعدد قليل جدًّا من أقاربه. وصار عليه أن يتعامل مع مشكلات جديدة، أضيف إليها الانقسامات المناطقية
حين وصلت عدن كنت وحيدة تمامًا، لا أهل ولا أصدقاء، عشت لبعض الوقت في عزلة، ثم قلت سأبدأ في صنع الذكريات في بلد لم يكن لها، حتى ذلك الوقت، وجود لدي إلا في أوراقي الثبوتية.
لم يكن الاندماج سهلًا، لكن وعلى الرغم من صعوبته كانت الأمور تسير بصورة جيدة. إلى أن اندلعت الحرب، فأشعلت حرائق لم تنطفئ، وجذّرت الانقسام والتصنيفات والفرقة. فما كان ممكنًا قبلها صار بعدها يقترب من المستحيل.
في السنوات الأخيرة، صار يندر أن أقابل شخصًا لأول مرة لا يسألني من أين أنت. عادة ما تسير لقاءاتي على نفس الوتيرة، كأن يقطع أحدهم حديثه معي بغتة كي يقول: "لهجتك مختلفة، من أين أنت؟"، أحاول حينها أن أرد بأقصى ما استطعت من الهدوء: "أنا من اليمن"، نقضي بعدها ما لا يقل عن ربع الساعة في سرد فصول من السيرة الذاتية، ثم نعرج على المناطق، فبعد سؤال من أين أنت، يأتي سؤال من أي منطقة في اليمن أنت؟
في محاولة يائسة للاندماج في المجتمع الجديد غيّرت مظهري، ارتديت ملابس هي الأقرب إلى السائد في البلد، أكلت طعامًا لا أستسيغه، جهدت في إخفاء لهجتي الأصلية، كنت أختار العبارات التي لا تشي بالانتماء إلى مكان بعينه، فيأتي حديثي متكلفًا، يفتقر إلى الطلاقة، يحسبني السامع أعاني صعوبات في الكلام، في حين أنني أحاول انتقاء الكلمات المناسبة كمن يتكلم لغة أجنبية. كل ذلك لم يكن مجديًا، فما زلت أعامل مثل الغريب، أسمع دومًا عبارة "عندنا في اليمن وعندكم في السعودية..."، وفي أحسن الأحوال أعامل مثل سائحة، كأن يقال لي: "أهلًا وسهلًا بك في اليمن".
لكن الشعور بانعدام الانتماء، على قسوته، لا يخلو من نفع، صار جهلي بأسماء العائلات في اليمن مزية، فلا أدري أيها ينتمي إلى أين، ولا يهمني أن أدري. كما تحررت من العصبية، ومن الولاء المطلق للقبيلة في حق أو في باطل، خرجت من الانتماء الضيق لمنطقة جغرافية صغيرة إلى الانتماء الأوسع للخارطة كلها. كل منطقة في اليمن هي منطقتي. ومع مر السنوات عرفت قلوبًا صادقة في إخلاصها، وأصدقاء مثل أهل، وبات شعور الانتماء إلى وطن ينمو ببطء، لكن في ثبات، ثم تعرفت إلى إبراهيم.
الحاضر الغائب
إبراهيم قاسم (35 سنة)، يملك باصًا صغيرًا لنقل الركاب في عدن، وُلد في السعودية وأُجبر على مغادرتها قبل ثلاث سنوات، لسبب قال أنه ليس للنشر. شاب هادئ، يطيل الصمت، شارد في أكثر الأحيان، غارق في عالمه الخاص، أشعر أنه يعيش معنا بجسده، أما روحه فلا تزال هناك، يفتح الراديو دائمًا على محطات سعودية، حين أسأله عن الأوضاع في اليمن، وآخر الأخبار، يهز رأسه ويرد بشرود: "لا أدري". لم يكن قد زار اليمن من قبل. كبر بمعزل تام عن جذوره اليمنية، سألته عما شعر به لدى وصوله، قال: "الصدمة". لهذا فضّل العزلة، وأحاط نفسه بعدد قليل جدًّا من أقاربه. وصار عليه أن يتعامل مع مشكلات جديدة، صعوبات المعيشة التي أضيف إليها الانقسامات المناطقية: "أحاول التعود على واقع جديد مليء بأزمات معيشية متلاحقة، ليس هذا وحسب ولكن اختلف أيضًا تعامل الناس في العامين الأخيرين، صاروا يكثرون السؤال عن الأصول والمناطق". يزفر بيأس: "الحياة هنا صعبة، أحاول التأقلم لكن بلا جدوى". لكنه لا يلبث أن يتراجع قليلًا وكأنه شعر بالذنب: "لا أعني أني لا أحب اليمن، فهي بلدي، والناس هنا طيبون". أسأله عن المستقبل، يرد: "أفكر في العودة إلى السعودية، لا أرى لي مستقبلا هنا".
ولأن الحال عند النساء دائمًا ما يكون أكثر تعقيدًا في كل قضية، اتصلت بحنان.
مصاعب مضاعفة
حنان حسين (30 سنة)، كانت إحدى طالباتي في قسم الإعلام بجامعة عدن، فتاة جادة ومجتهدة، وُلدت في السعودية، وجاءت إلى اليمن قبل عامين من أجل الدراسة، كانت تزور اليمن لأول مرة هي أيضًا، كبرت في بيت لم تكن فيه منفصلة تمامًا عن أصولها اليمنية، لكن ذلك لم يمنع صدمة الاختلاف التي تعرضت إليها عند وصولها إلى اليمن. "ما زلت أذكر العام الأول لي هنا، كانت معاناتي لا توصف، أصابتني حالة من الاكتئاب، كان كل شيء مختلفًا، الطعام والعادات، لم أفهم لماذا كانت الكهرباء تنطفئ، ولماذا ينقطع الماء كثيرًا، لكن أكثر ما يرعبني هو انتشار المسلحين، أسير بجوارهم بحذر شديد، أتوقع دائمًا أن تنطلق رصاصة طائشة في أي لحظة".
طيلة عام، تجنبت حنان مخالطة الناس، حصرت حياتها في البيت والكلية، ربما هروبًا من مواجهة الحياة الجديدة وتعقيداتها. وفي العام الأخير بدأت في تكوين صداقات، والاحتكاك بمحيطها أكثر، عندها تجلّت لها الصعوبات: "أي اختلاف في مظهري عن السائد المألوف يعرّضني إلى التحرش اللفظي في الشارع". طالتها الانتقادات ضمن إطار العائلة كذلك، فحنان تنتمي إلى منطقة في اليمن لها تقاليد محافظة أكثر من البيئة السعودية التي تربت فيها. "أقابل بالانتقاد والنظرات المستهجنة لمظهري وعاداتي من قبل أقاربي النساء، كثيرًا ما أسمع عبارات، مثل: هذا التصرف لا يليق، أو ممنوع عندنا هذا اللبس". وهناك الاستغلال أيضًا. "في بعض المحلات التجارية، حين يسمع البائع لهجتي السعودية يرفع السعر فجأة"، فصارت تستعين ببعض الكلمات اليمنية ما تزال تذكرها من والدها.
ترى أشجان الفضلي، الأكاديمية في قسم معلم مجال اجتماعيات، في كلية التربية بجامعة عدن، أن مشكلة هؤلاء أنهم عادوا في فترة صراعات متتالية تمر بها البلاد، وأزمات ومشكلات مجتمعية حادة، مما فاقم من صعوبة التأقلم وشعور عدم الانتماء
لكنها تدين لليمن في صقل شخصيتها وجعلها أكثر قوة. "في السابق كنت خجولة منزوية، أعتمد على والدي في كل أموري، لكني اليوم صرت قادرة على تدبر أمري بنفسي". وعن المستقبل تقول حنان: "قد يأتي يوم وأغادر السعودية وأعود نهائيًّا إلى اليمن، لكن ليس الآن، فلست مستعدة بعد". كما لا تخفي شعورها بالذنب. "أشعر بغربة هنا وهذا يؤلمني. أريد أن أندمج في بلدي لكني لست قادرة. وأسأل نفسي دائمًا: لماذا لست قادرة؟".
العودة في الزمان الصعب
خلال حديثي مع إبراهيم وحنان، تكررت كثيرًا كلمة الصدمة، وبسؤال د. نبيل نعمان، أستاذ الطب النفسي في كلية الطب، جامعة تعز، عن معناها هنا، قال إن الصدمة طبيًّا هي اضطراب يحدث بعد التعرض لحدث، إما كارثة طبيعية، أو اعتداء جسدي أو وفاة قريب. أما في هذه القضية، صدمة عودة المهاجر إلى وطنه، فهي هزة نفسية تحدث نتيجة انتقاله من بيئة إلى بيئة مختلفة تمامًا، فيتضخم شعور الخوف والضياع لديه. وبحسب د. نعمان فإن العواقب قد تكون وخيمة. "ما ألحظه في بعض الحالات التي أعالجها أنها قد تصل إلى مرحلة الاكتئاب، وسببه عدم القدرة على التكيف مع المحيط الجديد. البعض يشكو من نظرة الناس إليه، يتندرون من لغته أو لهجته التي اكتسبها خلال غربته، يواجه بالاستغراب من السلوك الذي تعود عليه، ما يؤدي به إلى الانطواء على الذات".
وعن شعور الذنب الذي يلازمهم، يقول د. نعمان: "من الطبيعي أن يشعر بهذا، فالإحساس بالغربة في الوطن من أقسى المشاعر الإنسانية، حين يشعر الفرد أن هناك فجوة بينه وبين محيطه". ويقترح د. نعمان أخذ الأمور بهدوء وروية". يحتاج الأمر إلى الصبر وبعض الوقت، الإنسان مخلوق قابل للتكيف بطبعه، قد يكون التكيف في بعض الحالات أكثر صعوبة، لكن كل شيء يخضع في النهاية لقانون العادة".
كما ينصح بالعلاج السلوكي المعرفي. "من المهم أن يشارك الشخص مشاعره مع آخرين يمرون بالتجربة ذاتها. سيساعده ذلك على إدراك أنه ليس وحده، وفي حالات قليلة يمكن أن نصف مجموعة من العلاجات المهدئة".
أما د. أشجان الفضلي، الأكاديمية في قسم معلم مجال اجتماعيات، في كلية التربية بجامعة عدن، فترى أن مشكلة هؤلاء أنهم عادوا في فترة صراعات متتالية تمر بها البلاد، وأزمات ومشكلات مجتمعية حادة، مما فاقم من صعوبة التأقلم وشعور عدم الانتماء. "يستطيع الأشخاص بعد مدة التكيف مع الأماكن الجديدة التي ينتقلون إليها، لكن هؤلاء عادوا في ظل ظروف سيئة، الحرب وانعدام الأمن، شح الخدمات، كل هذا فاقم شعورهم بالاغتراب". برأيها أنهم يعيشون حالة من الغضب؛ لأنهم فارقوا أرضهم التي ولدوا عليها، ويتدرج هذا الغضب إلى الاكتئاب، ثم عزلة، دلالةً على حالة رفض للواقع الجديد المفروض عليهم. والحل. "يبدأ من الوعي الذاتي بالمشكلة وتعلم التقبل، كما أن المشاركة في الأنشطة المجتمعية التطوعية يعزز الشعور بالانتماء، والاشتراك في جلسات الدعم النفسي والاجتماعي".
يستعد إبراهيم للعودة إلى السعودية خلال أيام. يبدو فرحًا أخيرًا، فهو عائد إلى أهله وأصدقائه، إلى موطن الحنين والذكريات. ما تزال حنان تتنقل بين هنا وهناك، إلى أن يحين أوان الرحيل. أما أنا فسيظل جزء مني ينتمي إلى تلك الأرض التي ولدت عليها، لن أتبرأ منه، ولن أتنكر لسمائي الأولى، سأضم إليها سماوات أخرى، وسأظل أبحث عن مكان لي في بلدي، لكنني في المرة المقبلة حين يسألني أحدهم، من أين أنت، سأستعير من فيروز ردها الذكي المراوغ، سأرد مع ابتسامة باردة: "أنا من بلد الشبابيك …".