مثلما كانت المعضلة لدى الفلاسفة عمّن سبق في الوجود البيضة أم الدجاجة، كان السؤال كذلك عن أسبقية التواجد الغناء أم الشعر، فثمة من يقول إن الغناء وُجد قبل الشعر، وطرف آخر يرى أنّ الشعر سبق الوجود قبل الغناء. لكن ما هو مؤكد أنه عُرف الغناء منذ أن عهد الإنسان تواجده في الأرض، وارتبط الشعر مع الموسيقى بقدرته على التعبير عن مشاعر وجدانه وأفكاره ورغباته، بدون قيود، وبشكلٍ متناغم. عرفت الشعوب العربية الغناءَ بأشكاله وألوانه المتعددة، فقد مارس الإنسان الغناء في حياته كلها وأفراحه وأحزانه وأثناء عمله، ثم أوجد لصوته الأغاني والأهازيج الشعبية التي لها شهرة تميز المجتمعات عن غيرها. وعرف اليمن قديمًا نوعين من الغناء، هما: "الجاهلي الحميري، والحديث الحنفي"، وكان اليمنيون يفضلون الحنفي حسب ما ذكر المؤرخ المسعودي.
اللون الغنائي الوطني
تعدّدت ألوان الغناء وتشعبت في سلّمها الموسيقي، لكن كان للون الغنائي الوطني ذائقة فنية مختلفة نتشربها منذ بدء نشأتنا، وحضوره الدائم في المناسبات التي تطغى عليها المشاعر الوطنية والقومية والانتماء. ودوره في شحذ الهمم في ساحات الحرب أو السِّلم. أُعطيّ هذا اللون من الغناء رمزًا وطنيًّا له مكانته، وارتبط بحب الأرض والعطاء للوطن بَدءًا من الأناشيد الثورية الشعبية إلى النشيد الوطني الذي نقف له جلالة واحترامًا. وأسهم هذا اللون في إشعال الثورات العربية وتغيير أحداث تاريخية من خلال قصائده التي تحمل غضب الشعب والتعبير عن معاناته تحت الظلم الواقع عليه.
عودة بالتاريخ إلى الوراء، نجد أنّ الأغنية اليمنية الوطنية لم يكن لها تدوين قديم مؤرخ، ولكنها سجلت حضورها منذ منتصف القرن الماضي بصوت إسكندر ثابت الذي يعد أول فنان يمني تبث أغانيه على إذاعة صوت العرب وصاحب أول نشيد ثوري عام 1954. كان "نشيد اليمن" من كلماته وألحانه وغنائه، وقد ألقى قبلها كلمة يشجع فيها على الثورة ضد الاستعمار والإمام أحمد، مما جعله -بحسب الروايات- مطلوبًا لدى حكومة الإمام، ورفضت حكومة عبدالناصر تسليمه.
حظيَ الغناء اليمني بمحتوى من الإيقاعات القديمة، جعلته يعد نغمًا عربيًّا أصيلًا، يتميز في ألحانه عن غيرها. وبعيدًا عن الزيف والخداع السياسي، والمحاولات التي تشهدها الأغاني الوطنية من تشويه في الفترة الأخيرة وتحميلها للنزاعات السياسية، والطائفية- يبقى اليمن قد شهد ثورة سياسية وغنائية وطنية متقدمة ومزدهرة
تزامنًا مع بدء ثورتي الشمال والجنوب في اليمن، لم تُعرف أي أغانٍ ثورية في العهد الإمامي في شمال اليمن -عدا النشيد الذي كان يبجل فيه الإمام- نظرًا للقمع والتحريم والاحتقار الذي تعرض له الغناء في فترة حكم الإمامة. تسبب هذا القمع في ممارسته بسرية تحت الظلام، وقد ذكر الفنان قاسم الأخفش، حين بدأ بتعلم الغناء خفية: "كنت ألُفّ العود ببطانية فأشعر وكأنني أسير في اتجاه الرادع. أدخل إلى الناس في ظلمة وأغني في ظلمة وأخرج إلى منزلي في ظلمة". ظل هذا المنع حتى اقتنع الإمام أحمد يحيى، لأسباب سياسية بتحليل الغناء والسماح بإذاعة برامج غنائية في إذاعة صنعاء، فكان أول من سجل أغانيه في إذاعة صنعاء هو الفنان قاسم الأخفش.
مع ذلك، لم تكن تُسجَّل أغانٍ وطنية أو ثورية، حتى انطلاق ثورة ٢٦ سبتمبر، كان للغناء مشاركة بارزة في إنعاش هذا الفن، ومرحلة غنائية جديدة أخرجت لنا أشهر الأصوات الغنائية والملحنين والشعراء، أمثال الشاعر الذي قدم قصائده الثورية المغناة/ عبدالله عبدالوهاب نعمان، مرتبطًا معه الصوت الغنائي الشهير/ أيوب طارش، والذي يجعلنا نتفق على أنه أكثر من قدّم مجموعةً كبيرة من الأغاني الوطنية، ويحتضننا صوته دومًا بحبّ في احتفالاتنا، وتحفّنا أغانيه الوطنية في أيامنا، ونتغنى في سبتمبر بأشهر أغانيه "دمت يا سبتمبر التحرير" للشاعر عباس الديلمي.
لا يقل الفنان محمد مرشد ناجي، أهمية عن أيوب طارش، فقد قدّم لنا روائع الألحان والأغاني بصوته، مثل "أنا الشعب" من ألحانه وغنائه وكلمات الشاعر لطفي جعفر أمان، حاول الفنان مرشد ناجي أن يدعو المؤرخين الموسيقيين لجمع التراث الغنائي اليمني وحفظه من الضياع، مسخرًا قلمه للكتابة والبحث عن تاريخ الغناء الشعبي في اليمن، مناديًا للالتفاف نحو الألحان القديمة، لكن دون أن يحصد مردودًا فعليًّا من الحكومة.
وفي الجنوب، كان الغناء مشاعًا بين الناس، لم يواجه التحريم الذي لاقاه في الشمال. نستذكر الأغنية التي دوّت في عدن في فترة الاحتلال البريطاني "برّع يا استعمار، برّع"، للشاعر عمر عبدالله نسير، وغناء: محمد محسن عطروش، والذي سجلها في القاهرة، وبثت من إذاعة صوت العرب، وتسببت في ملاحقة الاحتلال للفنان في عدن، فقد أوقدت الأغنية الثورةَ الشعبية ضد الاحتلال البريطاني، وأصبحت تمثّل الكفاح الثوري. ولا تزال حاضرة في كل عام من ذكرى جلاء آخر جندي بريطاني.
تراث فني
بعد أن خلع الشمال عنه رداء الملكية الغابرة، وقبل النشيد الوطني الذي نحفظه الآن، رددت اليمن في عهدها الأول من جمهوريتها نشيدَها الوطني "في ظل راية ثورتي" عام ١٩٧٨، الذي كان من كلمات الشاعر أحمد العماري، وألحان علي الآنسي، حمل النشيد سيرة نضال وانتصار والانتقال لمرحلة جديدة. قبل أن تنتقل البلاد كلها لمرحلة الوحدة، ويتم اختيار النشيد الوطني الذي نحفظه عن ظهر قلب، وقد كان نشيدًا وطنيًّا لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب. وهو من كلمات الشاعر عبدالوهاب نعمان، وألحان وغناء أيوب طارش.
حظيَ الغناء اليمني بمحتوى من الإيقاعات القديمة، جعلته يعد نغمًا عربيًّا أصيلًا، يتميز في ألحانه عن غيرها. وبعيدًا عن الزيف والخداع السياسي، والمحاولات التي تشهدها الأغاني الوطنية من تشويه في الفترة الأخيرة، وتحميلها للنزاعات السياسية، والطائفية. يبقى اليمن قد شهد ثورة سياسية وغنائية وطنية متقدمة ومزدهرة والتي غيرت البلاد، وأصبحنا نفتقدها بعد المحاولات في تشويه الأغنية الوطنية. ورغم التراث الفني الذي يمتلكه اليمن من الأناشيد الشعبية يبقى ثمة فراغ في الكتب، وقلة محتوى في التعريف عن الفن والأغنية اليمنية الوطنية وأهم روادها.