يد هدى جعفر التي علّقت المرآة

صفاء اللغة، وضوح الرؤية، وشاعرية التفاصيل
أحمد الأغبري
August 28, 2024

يد هدى جعفر التي علّقت المرآة

صفاء اللغة، وضوح الرؤية، وشاعرية التفاصيل
أحمد الأغبري
August 28, 2024

لم تفاجئني الكاتبة هدى جعفر في مجموعتها القصصية الصادرة حديثا بعنوان "اليد التي علّقت المرآة" عن دار جدل في الكويت، فأنا قارئ لمسار علاقتها بالكتابة، وكنت أعلم جيدا أن تجربتها لن تقف عند الصحافة والنقد السينمائي. 

كنت أعرف أنها ستتجاوز ذاتها إلى أفق أرحب وأوسع، وهو الكتابة السردية. لكني في ذات الوقت لا أخفي اندهاشي مما جاءت عليه سرديتها في قصص المجموعة، وبخاصة على صعيد الاتكاء على الخيال المبسوط على تضاريس واسعة من التفاصيل الموضوعية والتحولات التقنية، والاشتغال على اللغة الصافية التي تستنطق مخبوء التعابير والدلالات في سياق إنتاج صور ومشاهد سردية على قدر من الاختلاف والاتساع، وكذا الاعتماد على الرؤية الواضحة إزاء ما تريد قوله، وتوظيف هذه الثلاثية في صوغ جواهر قصصية تتماهى قراءتها في الروح كما تذوب قوالب الكاكاو الفاخر في الفم على أنغام موسيقى كلاسيكية. فأي قدرة منحتها هدى للغتها وسردها حتى جاءت النصوص بكل هذا المدى من التحليق في سماوات المعاني والدلالات؟

تهذيب وتجميل الرؤية للحياة

 لا شيء أفضل من الإخلاص للكتابة بوصفها فكرة تعيد ترتيب وتعبيد الطريق نحو الحياة بشكل أكثر جمالا. فالقراءة هي محاولة تهذيب وتجميل رؤية القارئ للحياة، ومنحه قدرة جمالية مكثفة لإعادة فهم إنسانه الداخلي في علاقته بالواقع. فإذا لم تفعلها الكتابة الأدبية فما جدواها؟ وهنا تتجلى عظمة مهمة الكتابة الأدبية عن سواها. فهي تعيد الاعتبار للحياة في عيوننا، وقبل ذلك في أرواحنا حتى نكون صالحين للتعايش مع الآخر. 

جاءت المجموعة في 132 صفحة من القطع المتوسط، وضمت بين دفتيها سبع قصص تميزت باحتفاء عال بروح السرد من خلال كرنفال لغوي أعاد الاعتبار للحكي باعتباره فنا مخاتلا لروح التصوير والتعبير والتدليل، وهي ثلاثية أجادت الكاتبة الاشتغال عليها سرديا وجماليا، ما منح قصصها أرواحا متعددة، فما تموت روح حتى يتجدد الحكي بروح أخرى، فتأتي القراءة في حالة استرسال مدهش، لا تقف معها إلا على الصفحة الأخيرة من القصة الأخيرة، دون شعور بالزمن.

من أبرز عتبات النص السردي لدى هدى، في باكورتها القصصية، العناوين، بدءا من عنوان المجموعة "المرأة التي علقت المرأة." وعادة نجد أن عناوين المجموعات القصصية والشعرية في الغالب هو عنوان أحد نصوص المجموعة، بينما في هذه المجموعة ليست كذلك، وربما أرادات الكاتبة أن تختزل عنوان المجموعة في فكرة مكثفة ومثيرة للدهشة والسؤال في آن، فجاء العنوان عبارة عن جملة اسمية "اليد التي علقت المرأة،" وهو عنوان يحفل بحركة (علقت،) وكذلك بطاقة وافرة من التصوير في إحالته للمشهد نفسه، وفيه من الدلالة من خلال استخدام المرآة واليد ما يغني عن الشرح.  

أما عناوين القصص فجاءت مترعة بتكثيف مدهش في تعبيره عن فكرة القصة، وتقديم عنوان يعكس قدرات الكاتبة في توظيف اللغة مستفيدة من تجربتها بصفتها كاتبة وصحافية في ذات الوقت، ولعل مرانها على الكتابة عن الفنون التصويرية والاستعراضية قد منح لغتها السردية طاقة إضافية، وبخاصة على صعيد اقتناص الصور وصوغ العناوين.

القراءة هي محاولة تهذيب وتجميل رؤية القارئ للحياة، ومنحه قدرة جمالية مكثفة لإعادة فهم إنسانه الداخلي في علاقته بالواقع، فإذا لم تفعلها الكتابة الأدبية فما جدواها؟ وهنا تتجلى عظمة مهمة الكتابة الأدبية عن سواها. فهي تعيد الاعتبار للحياة في عيوننا، وقبل ذلك في أرواحنا حتى نكون صالحين للتعايش مع الآخر.

ومن بين العناوين البارزة لقصص المجموعة نتوقف عند عنوان "نصف بصلة،" وهو عنوان قد يبدو عاديا، لكنه يفتح شهيتك للقراءة لمعرفة سر هذا العنوان، وخلال القراءة ستكتشف توظيف مختلف لثيمة (البصلة) في تصوير العلاقة بين الأخوين، أو بمعنى آخر تقديم رؤية مختلفة للحياة من خلال اشتغال (ثيمي) جديد، وهو ما عكسته ببراعة نهاية الجزأين اللذين تقاسمتهما القصة. 

السارد في القصص تنقل بين موقعي الذكر والأنثى؛ لكنه شاعر في التفاصيل من خلال قدرته على استنطاق الثيمات في عبارات شعرية عالية في وصف الفعل ورد الفعل على حساب وصف الشخصيات، ومن أبرز جمل الشعر المنثور في السرد قوله في قصة "نصف بصلة:" لقد خرجتْ من يدي عجائب التحف التي سرقت صلابتها مني، يا لعظامي المتناثرة في بيوت الناس. (ص 17.)

 الاشتغال على التفاصيل الدقيقة

بموازاة علاقتها الشعرية والدرامية في الاشتغال على اللغة التي منحت السرد روحا متجددة تأتي موضوعات القصص أكثر اختلافا في جوهرها، إذ تشتغل على تفاصيل دقيقة وصغيرة، ولا تشعر بفكرتها بقدر ما تنساب في تفاصيلها التي قد لا تشعر معها بماهية الفكرة، لكنك تشعر بنفسك هناك جزءا من النص.. كيف هذا؟ ستقول: لا أدري. وتلك طاقة مهمة من طاقات السرد التي تمنح القراءة قدرة على الوعي دون البوح بالفكرة المجردة. 

تبدأ قصة "حديث الساعات" بأسلوب ذي مسحة سينمائية: "واحد، ثلاثة، خمسة، سبعة، أحد عشر، خمسة عشر، عشرون. كثيرة من الساعات معلقة حولي في هذه الحجرة الضيقة، ساعة على شكل رأس بومة، وأخرى على شكل فراشة، ساعات دائرية ومربعة ومستطيلة، ساعات بها آيات قرآنية أو أبيات شعر أو كلمات بلغة لا أعرفها.."

وتواصل: "تتوقف النساء من أمثالي عن عملهن (أعمالهن) لأسباب كثيرة، صلح مع الله، أو زواج، عاهة ظاهرة، أو الإصابة بمرض معد، أو الموت بالطبع. لكن سبب توقفي لم يحدث لامرأة في مهنتي من قبل." (ص 19.)

وهكذا تتدرج الكاتبة في بسط موضوع القصة، وهو أسلوب متبع ودارج، لكنه يحتاج إلى رؤية واسعة تدرك جيدا ماذا تريد أن تقول وكيف تقول؟ وهدى، هنا، كانت تدرك جيدا ما تريد قوله. مما سبق فإن الموضوع في قصصها مختلف في فكرته وأسلوبه وطرحه، أما شخوص قصصها فكانت الكاتبة بارعة في رسمها وتحريكها وتوظيفها في سياق بناء تقني جاءت معه قصصها منسوجة بعناية تعكس مهارة ودراية فنية مع كبوات صغيرة لا تقلل من القيمة الفنية للعمل. وفي الأخير يمكن القول إن مجموعتها هذه تمثل إضافة نوعية لمكتبة السرد اليمني في رف القصة القصيرة. 

•••
أحمد الأغبري

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English