يخلط الكثير من الناس في اليمن، من جهة، بين العادات والتقاليد، وبينهما وبين الدين من جهة أخرى، ومن أجل تصحيح هذا الفهم الخاطئ، من الضروري تعريف تلك المفاهيم تعريفًا دقيقًا، حتى يتسنى لنا التمييز بينها بوضوح، والكشف عن علاقاتها المتبادلة على الصعيد النظري والصعيد العملي على حد سواء.
وفقًا لتعريف أ. ب. جوفمان، العادة (custom) هي: "طريقة نمطية موروثة من السلوك، يجري تكرارها في مجتمع معين أو مجموعة اجتماعية معينة، وتكون مألوفة لأعضائها (1)". العادة هي مظهر من مظاهر التقيد الصارم، الذي استقر في نموذج قديم من السلوك؛ وبحكم ذلك فالعادات تقبل دون برهنة عقلية.
وغالبًا ما يطابق البعض بين مصطلح العادة ومصطلح الطقس، الذي هو، بحسب تعريف م. د. أوجرينوفيتش، عبارة عن "مجموعة من الأفعال الرمزية النمطية الجماعية، التي تجسد أفكارًا وتصورات وقواعد وقيمًا معينة، وتُحدث مشاعر جماعية معينة(2)".
تعبّر العادة عن اتّباع الناس الثابت والدقيق لشيء من الماضي من خلال الأنماط الثقافية، في حين أن التقاليد أكثر عمومية من العادة، حيث تغطي مجموعة أكبر بكثير من الظواهر التي تغطيها العادة، أي إنّ التقاليد تلازم جميع مجالات الحياة الاجتماعية، وكل الثقافات دون أي استثناء.
بين العادة والعرف
ولتوخي الدقة، لا بد من التأكيد على أمرين هامّين؛ أولهما أن الطقس هو فقط مظهر من مظاهر العادة، رمزٌ لعلاقات اجتماعية معينة، في حين أن العادة يمكن أن تكون وسيلة لإعادة التحويل العملي واستعمال الأشياء المختلفة (3)، وثانيهما أنه من الخطأ ربط أي طقس بالدِّين، حيث يمكن أن يرتدي الطقس طابعًا علمانيًّا أو حتى إلحاديًّا.
والحقيقة أنّ العديد من اللغات الأوروبية لا تميز بين العادة والعرف، أي إنّ هاتين الكلمتين تستعملان بمعنى واحد، فعلى سبيل المثال: تترجم كلمة «عرف» إلى اللغة الإنجليزية بالكلمات التالية: (custom, tradition, usage)، وتترجم إلى اللغة الروسية بكلمة «обычай»، وبعض اللغات تميز بين العرف والعادة.
وفيما يتعلق باللغة العربية، حاول بعض فقهاء الإسلام التمييز بين مفهوم العرف ومفهوم العادة، من حيث إن الأول هو الشيء المألوف الخاص بجماعة، والثاني هي الشيء المألوف، سواء كان فردًا أو جماعة، ولكن بعض الفقهاء اعتبروا العرف والعادة شيئًا واحدًا، وهذا ما ذهب إليه أبو البركات النسفي في كتابه «المستصفى في شرح النافع»، وابن عابدين في كتابه «مجموعة رسائل ابن عابدين».
تعبّر العادة عن اتباع الناس الثابت والدقيق لشيء من الماضي من خلال الأنماط الثقافية، في حين أن التقاليد أكثر عمومية من العادة، حيث تغطي مجموعة أكبر بكثير من الظواهر التي تغطيها العادة، أي إنّ التقاليد تلازم جميع مجالات الحياة الاجتماعية، وكل الثقافات دون أي استثناء.
يرجع مصطلح التقليد (tradition) في اللغات الأوروبية، إلى الكلمة اللاتينية (tradio)، وهي مشتقة من الفعل (tradere)، ويعني: ينقل، وبهذا المعنى استعمل الرومان هذه الكلمة، حيث عنوا بها نقل شيء معين من شخص إلى آخر، بل وحتى عنوا بها زواج البنت، أي نقلها من ولاية أبيها إلى ولاية زوجها. وفي وقت لاحق، صارت هذه الكلمة تعني كل شيء منقول، سواء كانت أشياء مادية أو غير مادية، وأصبح الجميع يستخدمون كلمة التقليد للدلالة على التصورات والطقوس والعادات والمهارات الاجتماعية والعملية، التي تنتقل من جيل إلى جيل.
يقدم سيمون برونر تعريفًا مفصلًا لمصطلح التقليد، حيث يرى أنه "يشير في أغلب الأحيان إلى العادات والمعارف الجماعية للمجموعة أو المجتمع. والتقليد مصدر للتعلم الأساسي، ويحدث حتى قبل بدء التعليم الرسمي، ويستمر طوال الحياة. والمعنى المعتاد للتقليد هو عملية اجتماعية تتمثل في «نقل» المعرفة من جيل إلى جيل، وخاصة بالوسائل الشفهية والعُرفية. ومن ثم فهو مرتبط بالسوابق، ويرتبط ثقافيًّا في الغالب بـ«تراث» المجموعة، وعلى الرغم من أنه على عكس التاريخ، الذي يشير إلى وقت ومكان في الماضي، فإن التقليد يحمل إحساسًا بالأنماط الاجتماعية والثقافية -طرق القيام بالأشياء- التي حدثت باستمرار «من قبل». وللمصطلح معانٍ أخرى أيضًا، حيث يشير إلى النتائج الجوهرية لهذه العملية، مثل قصة أو طقوس، أو عادة تكتسب أهمية اجتماعية من خلال الممارسة المتكررة، أو المعرفة التي لا يمكن التحقق من مصدرها الرسمي، ولكن يتم تبنيها على نطاق واسع، أو مفهوم (أي أسلوب تفكير أو سلوك) مميز للناس عموما (4)".
بالرغم من أن تعريف الدِّين هو موضوع مثير للجدل ومعقد في الدراسات الدينية، حيث فشل العلماء في الاتفاق على أي تعريف واحد ينطبق على كل الديانات، يمكن القول إنّ الدين هو الإيمان بوجود قوة خارقة، وعبادتها بغية استدرار عطفها وتجنب غضبها، هو نموذج خاص من المعرفة لتفسير الكون والإنسان، وجملة من الطقوس والشعائر والمبادئ الأخلاقية.
لم تستر النساء في الريف اليمني وجوههن وأكُفّهن، ولم يرتدين النقاب إلا بعد انتقالهن واستقرارهن في المدن، وهذا دليل تاريخي بأن الناس في الريف اليمني كانوا على قناعة تامة بأن كشف وجه المرأة وكفّيها أمرٌ طبيعي، لا يتنافى مع الشرع إطلاقًا.
من التقليد إلى الدين
سنكتفي في هذا المقال بمثالين مأخوذين من الحياة الواقعية في اليمن، لإثبات خلط الكثير من الناس بين التقاليد والعادات والدين، وأحدهما متعلق بلبس البنطلون، والآخر متعلق بضرورة ارتداء المرأة المسلمة للنقاب.
يعتقد الكثير من الناس في اليمن، وبخاصة من ذوي الأصول القبَلية، أن لبس البنطلون غير مرغوب فيه، لأنه من منتجات الكفار، وأن لبسه يدل على التأثر بعادات الكفار، والتأفف من الأزياء الشعبية التقليدية، التي هي، بنظرهم، خليقة بالإنسان المسلم.
ويزداد الموقف حدة عندما يدور الحديث حول الصلاة بالبنطلون، حيث يبشّعون ذلك الفعل، وثمة فتاوى حول هذه المسألة، وأبرزها فتوى ابن باز في ردّه على سؤال في هذا الخصوص، فحسب رأيه إذا كان لا بد من الصلاة بالبنطلون، فيجب "أن يكون واسعًا لا ضيقًا، وأن يتحرز من هذا الشيء الذي يفصّل العورة ويُبَيِّن حجمها، ويُؤذيه في صلاته، فينبغي على المسؤولين أن يضعوا شيئًا واسعًا جيدًا يستر العورة ولا يُبين حجمها، ويُعينه على صلاته ووضوئه وغير ذلك، أما هذا الضَّيق الذي يُؤذيه ويُبرز عورته فلا ينبغي لبسه، والذي يظهر أنه لا يجوز، وعليه أن يُعالج هذه الأمور مع المسؤولين حتى يُغيّروا هذه الملابس الضَّارة الضيقة(5)".
ولننتقل الآن إلى مسألة النقاب الشائع في اليمن، وسائر البلدان ذات الأغلبية المسلمة، الذي يختلف عن الحجاب، من حيث إن الأول يستر وجه المرأة فقط، في حين أن الثاني يستر كل جسد المرأة، ولكلٍّ منهما أنصار في اليمن والدول الإسلامية على حدٍّ سواء.
من الناحية التاريخية، عرفت نساء العرب قبل الإسلام الحجاب في شكل البرقع، واللثام، وبعضهن ارتدين النقاب، وكان الحجاب معروفًا أيضًا في بلاد الساسانيين وبلاد ما بين النهرين، حيث "كانت النساء المتزوجات المحترمات يرتدين الحجاب لتمييز أنفسهن عن العبيد والنساء غير العفيفات ـ بل إن الأخيرات كان ممنوعًا عليهن تغطية رؤوسهن أو شعرهن(6)".
وفي بداية المسيحية، كانت النساء اليهوديات يرتدين الحجاب، ويكفي هنا أن نذكر ما جاء في الكتاب المقدس: "ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحاق فنزلت عن الجمل. وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد: هو سيدي. فأخذت البرقع وتغطت" (سفر التكوين، 64-65).
وارتدت النساء المسيحيات الحجاب أثناء الصلاة، امتثالًا لما جاء في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، حيث يقول: "احْكُمُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: هَلْ يَلِيقُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُصَلِّيَ إِلَى اللهِ وَهِيَ غَيْرُ مُغَطَّاةٍ؟" (1 كو 11: 13).
إذن، لا الحجاب ولا النقاب من الأشياء التي استحدثها الإسلام؛ ولذا اختلف أئمة المذاهب الأربعة في مسألة وجوب أو عدم وجوب تغطية المرأة لوجهها ويديها، فقالت الشافعية والحنفية والمالكية ليس وجه المرأة ويديها بعورة، وقال بعض الحنابلة بأنهما عورة، ولكن أجمع كل هؤلاء الأئمة على وجوب ستر وجه المرأة عند خوف الفتنة.
وأقوى الأدلة الدينية على عدم صحة القول بأن وجه المرأة ويديها عورة، هو نهي النبي (ص) للمرأة المحرمة أن تحجب وجهها وكفيها، حيث جاء في البخاري أن الرسول (ص) قال: "وَلاَ تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلاَ تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ".
ومن هذا المنطلق، لم تستر النساء في الريف اليمني وجوههن وأَكُفّهن، ولم يرتدين النقاب إلا بعد انتقالهن واستقرارهن في المدن، وهذا دليل تاريخي بأن الناس في الريف اليمني كانوا على قناعة تامة بأن كشف وجه المرأة وكفيها أمر طبيعي، لا يتنافى مع الشرع إطلاقًا.
وخلاصة القول؛ إن الحجاب والنقاب من العادات القديمة التي ظهرت قبل ظهور الإسلام، فاستحسنها الكثير من المسلمين لاعتقادهم بأنها تضمن عفاف المرأة، وأوّلوا النصوص الدينية لتبرير تلك العادات، على أساس آلية تحويل العادات والتقاليد إلى دين، مع أن منطوق تلك النصوص لا تقبل ذلك التأويل المتحذلق.
وفي الأخير، أدعو جميع الباحثين إلى الكشف عن كل العادات والتقاليد التي تسربت، بقصد أو دون قصد، إلى الدين، مسترشدين بالمقاربة التي عرضناها واستخدمناها في هذه المقالة، التي لا تتسع لتنفيذ مثل هذا المشروع البحثي الواسع.
الهوامش:
1-Гофман А. Б. Обычай // Большая советская энциклопедия : [в 30 т.] / гл. ред. А. М. Прохоров. - М., 1969—1978, т. 18. С. 614.
2- Российская социологическая энциклопедия / Под ред. академика Г. В. Осипова. — Москва: НО РМА — ИНФРА-М, 1998. С. 329.
3-Гофман А. Б. Обычай // Большая советская энциклопедия : т. 18. С. 614..
4-Simon J. Bronner. "Tradition", in: William A. Darity Jr. (ed). International Encyclopedia of the Social Sciences, Detroit: Macmillan Reference USA, 2nd ed. vol.8, P. 420.
5-الموقع الرسمي لسماحة الشيخ ابن باز، حكم لبس البنطلون والصلاة فيه، موقع إلكتروني على النت.
6- Fadwa El Guindi and Sherifa Zuhur. 'Hijab', Oxford Islamic Studies Online.