هشام علي المثقف المتعدد (2-2)

مستلهمات السرد والشعر والتاريخ والتنوير
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 9, 2021

هشام علي المثقف المتعدد (2-2)

مستلهمات السرد والشعر والتاريخ والتنوير
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 9, 2021

حينما أراد هشام علي بن علي أن يبصر تاريخ اليمن المعاصر في مرآة السرد، توقف أمام المنجز الإبداعي لـ"زيد مطيع دماج"، الذي جعل الحكايات الشعبية والوقائع والأحداث السياسية موضوعًا سرديًّا يُخضِع التاريخ للتخييل، دون تعسّفات. والإشارة هنا إلى كتاب هشام "السرد والتاريخ في كتابات زيد مطيع دماج- 2000"، مستكشفًا داخل الوحدات السردية، والبنى الحكائية في بعض قصصه ورواية "الرهينة"، ألاعيب التاريخ المتخفف من إشكالات التدوين. فالعلاقة بين السرد والتاريخ -كما رآها الكاتب- هي علاقة أساسية أو مسألة جوهرية عند زيد دماج، وبناء السرد في كتاباته يقوم على التضافر بين السرد والتاريخ، وهذا ما يؤكد أن الكتابة عنده هي مشروع سياسي وطني، وتعبير عن رؤية المثقف لأحداث التاريخ الذي يعيشه، أو يستلهم ميراثه. رواية "الرهينة" في النص، تصير في وقت واحد، أسر الكتابة في احتمالاتها المختلفة، لكنها هي المذاق الخالص لحرية القراءة التي تنتج أسئلتها الخاصة، ومنها هل تمثل لحظة تاريخية وتعبِّر عنها، من منظار أن السرد يحتمل التاريخ، أو يحمل التاريخ في سياقه؟! 

يكفي أن تتوقف مليًّا أمام منجز هشام علي البحثي الرائد المعنون بـ"المثقفون اليمنيون والنهضة 2003"، لترى كم كان مهجوسًا بفكرة التنوير في الجغرافية اليمنية، وقادرًا على إعادة التعريف بتنويريين غُيّبوا بقصد، حتى لا يُشار إلى إسهاماتهم الحيوية في نقد الديكتاتوريات والاستبداد الديني في كيانين سياسيين يتجاذبهما الاستعمار والانغلاق، نافذًا، وببصيرة المفكر، إلى عمق الحالة التنويرية والمؤثرات فيها، وفي مقدمتها جدلية العلاقة بين فكرة الثقافة كحالة استعلائية نخبوية، ووعي المجتمع البسيط والمتخلف. وفي هذا السياق، رأى أن علاقات التقاطع بين الثقافة والتاريخ والمجتمع، ملمحًا مهمًّا يشير إلى خصوصية الحالة محط الدرس والقراءة؛ رابطًا لحظة التنوير بالتكوينات الأولى للدولة الوطنية. 

أهم أدوات التنوير وأوعيتها الباكرة، كانت "مجلة الحكمة" و"فتاة الجزيرة"، وما تلاهما من صحف ومطبوعات، أما رموز التنوير الذين اقترب المؤَلف من تجاربهم، فكثيرون، مثل: أحمد محمد نعمان، محمد علي لقمان، محمد المحلوي، أحمد المطاع، عبدالله البردّوني، عبدالله باذيب، أحمد محمد سعيد الأصنج... وغيرهم من الأسماء.

في هذا الكتاب، يحيط المؤلف بالتاريخ الثقافي لليمن المعاصر، وينجز العديد من الدراسات المهمة عن الفروقات بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي، في مقارنة ثرية بين الزبيري والنعمان؛ وعَقْد الخمسينيات من القرن العشرين، بوصفه حاضن التحول لفكر "الإنتلجنسيا" الناهض، فصار في هذه الدراسة، المعبِّر عن التجسير الواضح بين جدل النهضة وفكر الثورة.

عدن التي ظهرت في شعر رامبو كجنة موعودة قبل وصوله إليها بسنوات، لم تكن عدن التي وصلها في صبيحة يوم شديد الحرارة في آب أغسطس من العام 1880، بعد رحلة طويلة من قبرص إلى الإسكندرية وجدة والحديدة

في عام 2003، أصدر كتابه المعنون "مجازات القراءة"، وهو مؤلَّف من ثماني دراسات ومقالات طويلة، عنيت معظمها بقراءته للمنجز الشعري في اليمن من زاوية أن القراءة ممارسة حرة في التأويل والكشف والاستنتاج. لهذا ستجيء القراءات انعكاسًا لهذه الرؤية، التي تحاول الإمساك بالمؤثرات المتعددة (نفسيًّا وثقافيًّا وتاريخيًّا) التي أسهمت في صقل هذه التجارب التي لم تزل تشكل محطات مهمة في المدونة الشعرية اليمنية المعاصرة. أما المخصوصون في هذه القراءات من الراحلين، فهم: محمد سعيد جرادة، وعبدالله البردّوني، ولطفي جعفر أمان، وعبدالرحمن فخري، ومن الأحياء، فقط عبدالعزيز المقالح. وكانت المقاربات النظرية في القراءة ومجازاتها، عن سؤال الغنائية في الشعر وعن الشعر بدون سؤال لماذا؟ أما الإجابة عن السؤال الكلي، فستكون في قفلته للكتاب: "لأن ما يكتبه الشاعر ليس قصائد وحسب، بل لاهوتًا سرديًّا يريد أن يجمع الزمن كله والثقافات كلها والشعراء كلهم".

في "شرق رامبو- عدن والحلم الشعري" (2004) تحسس هشام علي المغيبَ والمسكوت عنه في حياة الشاعر الجدلي المشرقية، فلامس الإشكالية الثقافية والمعرفية لموضوعة الشرق والغرب التي تتجلى في واحدة من انعطافاتها، كلحظة تعارضات أخلاقية ووجودية كبرى على نحو تحول الشاعر المتمرد على سلطة المجتمع والعائلة في فرنسا، إلى تاجر رقيق وبُنّ وسلاح في أفريقيا وعدن، حين استبدل حلم الثراء بالشعر. في هذا الكتاب ستتكشف عدن بحلمها الشعري، ورامبو حين جاور الصمت فيها، وحين كانت شاهدة على قيامته. فرامبو المرتحل دومًا والعابر بنعال من ريح بحثًا عن المطلق، يجد في عدن المكان الملائم للمطلق، كما يقول الشاعر صلاح ستيتية؛ فتش عن السر الذي تاه الأب في صحراء الجزائر بحثًا عنه، وجاء رامبو الابن إلى أطراف الجزيرة العربية للغرض ذاته.

عدن التي ظهرت في شعر رامبو كجنة موعودة قبل وصوله إليها بسنوات، لم تكن عدن التي وصلها في صبيحة يوم شديد الحرارة في آب أغسطس من العام 1880، بعد رحلة طويلة من قبرص إلى الإسكندرية وجدة والحديدة، إذ ستصير هي الجحيم بعينه؛ ليست أكثر من فوهة بركان ساكن ومغمور تمامًا بالرمال البحرية، لا توجد بها أية شجرة ولا أي نبات، التربة معدومة والماء العذب أيضًا.

في 2006، أصدر كتابه المعنون بـ"إشكالية المثقف والغرب في الرواية العربية"، واتخذ من رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، نموذجًا للقراءة من زاوية أن هذه الرواية لم تزل مخاتلة ولم تتكشف أبدًا لكل من قرأها. ففي ظاهر القراءات أنها عبَّرت وبشكل جلي عن ثنائية الشرق والغرب، لكنها عبرت وبشعرية عذبة عن الأزمة الذاتية التي تصاحب محاولة التكيف والتأقلم مع مرحلة ما بعد الكولونيالية. لهذا ظلت الرواية ضحية للقراءات المتعددة ذات الاتجاه الواحد، لأنها بقيت تغري، ببساطتها الظاهرة، بالاستسلام للقراءة الأولى دون معاناة أو مكابدة، والاستجابة ليقين المعنى الظاهر دون إثارة قلق الشك. 

في "ابن خلدون راهنا" (2008) عمل هشام على مقاربة أهم أفكار رائد علم الاجتماع في المشرق، فنظر إلى إسهاماته المعرفية من زاوية التجدد الذي لا يبلى؛ لأن تحولات المجتمعات هنا لم تتجاوز عتبات الرؤى الملهمة للشخصية الفذة، التي لم تزل تؤثر في وعي الدارسين والبحاثة في كبريات الجامعات ومراكز الأبحاث.

وفي "خربشات على جبل شمسان" (2010) أعاد تجميع الموتيفات المتعددة لتركيب صورة عدن من الكتابات التاريخية عند ابن المجاور وبامخرمة، أو كمدينة (كوزموبوليتية) عند الرحالة والكتاب المعاصرين، بصهرها الأعراق والثقافات في جغرافية شديدة الخصوصية، منتجة الإنسان العدني الذي تتمظهر أيضًا في شخصية رجل الأعمال الفرنسي (أنطوني بِسْ)، الذي لم يعشق من المدن سوى هذه المدينة، التي شهدت سطوع نجمه المشرقي، فتحول إلى مرموز اقتصادي طبع فضاء العلاقات الاقتصادية باسمه. ومن هذه الشخصية، سيجسم هشام، الظليَّ والمخبوء اللذين لم يبصرهما العامة، وخصوصًا ما يتعلق بالجوانب الثقافية والاجتماعية بداخلها. ومنها حبه للشعر ودأبه على إنشاء مركز ثقافي وموسيقي في مسكنه في طريق "العيدروس". والأهم من ذلك نقاط التشابه مع "رامبو" على نحو الاشتغال مع تاجر البُنّ نفسه في المدينة ذاتها وحبهما للشعر.

وعي الحداثة عند البردّوني، كما استنتجه هشام، نهض على نتاج الوعي النقدي للشاعر، والنابع من إيمانه بضرورة تغيير النظام السياسي، إذ أدرك بعد ثورة 1948، أن التغيير لا يتم باستبدال إمام بآخر

يقول في نصه المعنون "مدينة على الحافة"، إن هذه المدينة لم تحظَ بخطاب سردي يليق بسحرها، أو يعبر عن تحولاتها التاريخية والمجتمعية التي تقترب من الواقعية السحرية أو الأدب العجائبي، رغم ما في الواقع من عنف مدمر وخيال فقير، فهي تقع بين حدي الأفق: انبساط البحر، وارتقاء الجبل صعودًا نحو السماء. ومثل هذا الانطباع الأدبي بمحمولاته العاطفية ربما ينطبق على المرحلة التي سبقت صدور عملين سرديين شديدي الخصوصية عن المدينة، وأعني روايتي "بخور عدني" لعلي المقري، ورواية "ستيمر بوينت" لأحمد زين، اللتين صدرتا بعد صدور كتاب الخربشات بسنوات قليلة، وقد ألحقهما صاحب "ستيمر بوينت" برواية ثالثة عنونها "فاكهة للغربان"، التي قاربت حال المدينة في الحقبة الاشتراكية (مرحلة الثمانينيات).

في كتابه المعنون "وطن يؤلفه الكلام" (2012)، قام بتجميع أهم ما كتبه -في سنوات- عن عبدالله البردّوني، الشاعر والمفكر، متتبعًا تجليات الحداثة في فكره والتي لم يكتسبها من القراءات السيّارة أو انفتاح المجتمع، ولا من التخالط بمثقفي زمنه. ففي الأولى لم يكن الحكم الإمامي المنغلق يسمح بدخول المطبوعات والكتب إلى البلاد التي ترزح تحت وطأة الفقر والأمية والمحافظة، وهو ما يشير إلى المتلازمة الثانية. أما في الثالثة فقد كانت وضعية البردّوني الكفيف لا تسمح له بالتنقل الحُر والمجالسة والسفر. إن وعي الحداثة، كما استنتجه هشام، نهض على نتاج وعيه النقدي النابع من إيمانه بضرورة تغيير النظام السياسي، فقد أدرك بعد ثورة 1948، أن التغيير لا يتم باستبدال إمام بآخر. لأن أسئلة الجغرافيا والتاريخ التي ظلت تقلق مشروع الدولة الوطنية في أذهان المثقفين والنخب، ستصطدم بمشروع السلطة الإمامية المتخلفة، التي لا يجدي معها الإصلاح أو استبدال الوجوه، فجاءت كتاباته الشعرية والنقدية تعبيرًا أمينًا عن إيمانه بديمومة التغيير كسُنّة من سنن الحياة. أما في تتبعه للمناحي النقدية في فكر البردّوني، فجاءت من أدوار المثقف النقدي الانشقاقي الذي لعبه البردّوني، والذي لا يؤمن بأن يكون المثقف تابعًا للسياسي، أو خبيرًا للسلطة ومبررًا لأفعالها الاستبدادية.

"إدوارد سعيد وتفكيك الثقافة الإمبريالية" (2013) هو خلاصة الانهماك الطويل لهشام علي، في دراسة تأثير وهيمنة المركزية الغربية على موضوعي الاستشراق والكتابة الروائية المستتبعة به، والذي عمل إدوارد سعيد على نقضها في كتابه الأهم "الاستشراق"، وتاليًا في كتابيه "الثقافة والإمبريالية " و"السلطة والسياسة والثقافة"، إلى جانب كتاباته المتنوعة في النقد الروائي.

أهمية فكر إدوارد سعيد عند هشام، تكمن في قيامه بعمل حاجز يفصل بين عمله الأكاديمي في جامعة كولومبيا، وبين فكره النقدي كمثقف معارض لجميع أشكال الهيمنة والتبعية، وتلك صفة مميزة لهذا المثقف الذي انحاز لمعارضة السلطة واختار تحرير الفكر وتنوير العقل. "بين عالمين" هو عنوان المادة الأولى في الكتاب، وفيها يقارب التكوين الثقافي، أو إعادة التكوين العربي لهذا المفكر الذي لم يعرف هل كانت الكلمات الأولى التي تفوه بها في الطفولة عربية أم إنكليزية، حسب ما جاء في مذكراته ذائعة الصيت "خارج المكان". فقد عاش إدوارد سعيد بين عالمين: المفكر الأمريكي الفلسطيني الأصل، أستاذ النقد المقارن في جامعة كولومبيا، أحد أكبر النقاد الغربيين، وقد منحته نيويورك أفقًا ثقافيًّا واسعًا، يشمل الرؤية المتفتحة للهويات المتعددة وغير الجامدة، والمنفى كفضاء رحب، لكنه لم يستطع أن يعيش معلقًا ما بين عالمين، لا سيما بعد أن أيقظت هزيمة 1967، وعيه العربي وإحساسه المقاوم للهيمنة والظلم. أما أول مقال منشور لسعيد بالعربية، فقد كان في مجلة "مواقف" وعنونه "التمنع والتجنب والتعرف"، حلل فيه أزمة الأمة العربية وأزمة الهُوية، فالأمة التي أعاد اكتشافها لم تزل تعيش في مرحلة ما قبل الحداثة، رغم مظاهر الحداثة البادية على سطحها وقشرتها.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English