كان مساءً حزينًا ذلك الذي تم فيه نعي "مسك"، كانت عمتها تذرف الدموع بشدة وهي تصف مناقب الفقيدة تارة وتتأسف على طفليها الصغيرين اللذين سيعانيان من اليتم بعدها تارة أخرى، وفي غمرة ذلك الحديث الأليم سألتُ عمتها: "كيف توفّيت فقيدتكم؟"، فأجابتني: "غرقًا"، فاستغربت وأضفت: "لكن قريتكم جبلية لا توجد فيها مصادر للمياه الجوفية"، فأجابتني: "غرقت في السقاية"، والسقاية هذه عبارة عن خزان ماء كبير يتم بناؤه من الحجارة والإسمنت، لتجميع مياه الأمطار والسيول من خلال فتحة جانبية عليها فلاتر قماشية أو أسلاك معدنية، ولها باب كبير يستطيع البالغ الوقوف على عتبته ويقود إلى داخلها عبر سلسلة من الدرج الإسمنتية وصولًا إلى قاعها، وعادةً ما تسلك النساء قي القرى اليمنية تلك الدرج نزولًا كلما قلّ منسوب المياه داخل السقاية، لجلب الماء منها، عبر خراطيم المياه إلى الخزانات المعدنية على أسطح المنازل أو عبر الجرادل لسقي الماشية، ونتيجة ركود الماء داخلها لفترات طويلة قد تتجاوز السنة، تنشأ الطحالب على جدرانها ودرجها، وبسبب التزحلق على تلك الطحالب تلاقي عددٌ من النساء في قرية "مسك" والقرى المجاورة حتفهن بشكل سنويّ تقريبًا كما قيل لي من قبل النساء المتواجدات في العزاء.
منذ ما يزيد على عشر سنوات، تعاني النساء والفتيات في اليمن من عوامل متقاطعة من العنف، فظهرت أشكال متعددة منه جراء الحرب، فضلًا عن عنف موجه ضدهن بسبب البُنى التقليدية والثقافة المجتمعية التي تضعف مشاركتهن وتهمش أدوارهن، وتضيف آثار التغير المناخي عنفًا غير تقليديّ تجاه الفتيات والنساء في اليمن نتيجة أدوارهن التقليدية وشحة الموارد وضعف استجابتهن تجاه حالات الكوارث.
التغير المناخي والنساء في دول الصراع
يقصد بتغير المناخ؛ تلك التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس الناتجة عن الأنشطة البشرية غير الصديقة للبيئة، كحرق الوقود الأحفوري، مثل الفحم والنفط والغاز، والتي تزايدت منذ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، حيث ينتج عن حرق الوقود الأحفوري انبعاث غازات تعمل كغطاء يلتف حول الكرة الأرضية، فيعمل على حبس حرارة الشمس ورفع درجات الحرارة بصورة غير طبيعية، مما يؤدي إلى الجفاف الشديد وندرة المياه، والحرائق الشديدة، وارتفاع مستويات سطح البحر والفيضانات، وذوبان الجليد القطبي والعواصف الكارثية وتدهور التنوع البيولوجي.
وتُحدث التغيرات المناخية آثارًا بطرق شتى على البشر، لكنها تحدث آثارًا سلبية مضاعفة على النساء، بالأخص في بلدان الصراع، وقد أشار تقرير (ريم السالم) مقررة الأمم المتحدة الخاصة بالعنف ضد الفتيات والنساء الموجّه للجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر الماضي، إلى أن هناك عوامل شتى تتقاطع مع العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد الفتيات والنساء، كالنزاع المسلح والنزوح وندرة الموارد، وعندما تتقاطع تلك العوامل مع تغير المناخ فإن ذلك يؤدي إلى تأنيث العنف.
وفي تقريرها الصادر في العام 2020، تشير اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أنّ هناك 20 دولة تعتبر الأضعف في مواجهة التغير المناخي، 12 منها تعاني من نزاعات مسلحة تنهك قواها وتجعل مواجهة التغير المناخي أمرًا صعبًا للغاية، كما أنّ تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة تشير إلى أنّ 80% من المشرّدين بسبب تغير المناخ هم من النساء.
في اليمن التغيرات المناخية تشكّل عبئًا إضافيًّا على النساء
وفي اليمن، تشير التقارير الأممية إلى أنّ 4,6 ملايين امرأة بحاجة ماسة إلى أحد أشكال المساعدات (الغذاء، الماء، المأوى، الصحة) نتيجة النزاع المسلح الدائر منذ ما يقرب من 9 سنوات، في ظل موجات نزوح متكررة جراء السيول أو الفيضانات، ويعد قطاع الزراعة على رأس القطاعات التي تعمل فيها المرأة اليمنية، وبسبب النزاع أيضًا تراجع حجم المساحات المزروعة بنسبة 38% وشحة المحاصيل نتيجة شحة الأمطار أو اختلاف مواسمها، وبسبب الانهيار الاقتصادي الناتج عن الحرب فقدت 40% من الأسر في اليمن مصدر رزقها، في حين أن نصف السكان في اليمن كانوا يصنفون وفق التقارير الأممية بالفقراء، وتعد هذه التقارير النساءَ أكثر تضررًا من الرجال، كما تسبّب النزاع أيضًا في تسرب نسبة 36% من الفتيات من التعليم بسبب تدمير المدارس أو عملهن في توفير المياه لأسرهن من مناطق بعيدة، بالأخص بعد نضوب الآبار الجوفية وندرة المياه، ويعاني اليمن بسبب النزاع المسلح من بنية تحتية مدمرة، وما نتج عن ذلك من نقص في المدخلات الأساسية وقدرة البلد المحدودة على التعامل مع الكوارث الطبيعية مثل السيول والفيضانات ووباء الجراد الصحراوي، وبطبيعة الحال تقف كثيرٌ من النساء في اليمن عاجزات عن التعامل مع هذه الكوارث جراء الثقافة المجتمعية، فمثلًا تحرم العادات والتقاليد على النساء في اليمن ممارسة الرياضة أو الركض أو السباحة، في حين تعد مهام جلب المياه والحطب ورعي الماشية أدوارًا اجتماعية مناطة بهن، مما جعل غرق النساء والفتيات في اليمن يتحول إلى ظاهرة اجتماعية خلال السنوات الأخيرة، وتُحصي إحدى المواد الصحفية المحلية وفاة 9 فتيات/ نساء غرقًا في فترة لا تزيد على 35 يومًا، خلال العام 2022. وبحسب نفس المادة الصحفية، تعرضت 60 من النساء والفتيات في اليمن للوفاة غرقًا خلال الفترة ما بين 2015 إلى 2022، وبحسب دراسة منسوبة لمنظمة الصحة العالمية تُصنف اليمن في المرتبة الـ65 على مستوى العالم في الوفاة غرقًا.
ويعاني اليمن من أزمة وقود خانقة دفعت بالنساء، حتى في المدن الرئيسية، إلى الخروج للاحتطاب من أجل إعداد الطعام لأسرهن، لكن بطرق غير صديقة للبيئة بسبب قلة خبرتهن، مما يهدّد الأشجار المحيطة بالمدن ويزيد من مخاطر تلوث الهواء.
وتمتلك عدد كبير من النساء اليمنيات مشاريع منزلية، وفي الغالب تعد هذه المشاريع صديقة للبيئة، لكنها تتأثر بشكل أسرع من المشاريع الرسمية بالتغير المناخي، واعتماد النساء على المشاريع سريعة التأثر بالمناخ يعني أنّ الخيارات الاقتصادية للمرأة تنكمش مع تزايد أزمة المناخ، كما أنّ إدارة الطاقة والمياه والصرف الصحي والغذاء من مهام النساء بشكل رئيسي في اليمن، بالتالي تفاقم ندرتها يؤدي إلى تزايد أعبائهن.
على المستوى المجتمعي تقود عددٌ من النساء في اليمن، عملية التخفيف من آثار التغيرات المناخية من خلال مبادرات شبابية أو نسائية أو مشاريع منظمات المجتمع المدني، كحملات النظافة العامة وتشجير المدن والدعوات للاقتصاد الأخضر ورفع الوعي البيئي وإدارة الخلافات أو الحد منها للحصول على الموارد الطبيعية.
جهود تقوم بها النساء أنفسهن في اليمن لمواجهة وتخفيف آثار التغيرات المناخية على حياتهن اليومية
إن ما يقرب من ثلثي اليمنيين لا يزالون يعتمدون على الزراعة لتلبية احتياجات معيشتهم الأساسية، ويعيش أكثر من 75% منهم في المناطق الريفية، حيث تمثل النساء نحو 95% من القوى العاملة هناك، وتلعب النساء في هذه المجتمعات الريفية دورًا محوريًّا لا يقتصر على الأمن الغذائي فحسب، بل يمتد ليشمل إدارة الأراضي والتخفيف من تأثير تغير المناخ عليها.
وعلى الرغم من الضغوط الاجتماعية المفروضة على النساء، وتحملهن عبء جميع الأعمال المنزلية، فإنّ مسيرة النساء اليمنيات استمرت في العمل بالأرض في ظل أزمة تغير المناخ، حيث تحاول المزارعات استغلال المياه بشكل أمثل عن طريق الري بالغمر، بالإضافة إلى قيامهن بترشيد استهلاك المياه وإدارة أساليب تجميعها، وساهمت النساء اليمنيات في عملية إعادة تأهيل الأراضي المتضررة من السيول بفاعلية، كما عملن على الحفاظ على الأمن الغذائي من خلال تقليل إهدار الطعام بل إن معظم النساء في اليمن يستخدمن بقايا الطعام لتحضير الوجبات التالية، أو يقمن بصناعة وجبات جديدة من تلك البقايا.
وسعيًا لترشيد استخدام المياه في المنزل تحاول النساء في اليمن تقليل الهدر اليومي من خلال الإشراف المباشر على استخدام أفراد الأسرة للمياه، أضف إلى أنهن يقمن بغسل الملابس بأيديهن في كثير من الأوقات بعد تزايد شحة المياه وارتفاع أسعار "الوايتات"، نتيجة لاستهلاك غسالات الملابس الكهربائية كميات مضاعفة من الماء، كما أخبرتني عددٌ من النساء أثناء أحد البرامج التي كنت أنفذها حول تحسين سبل العيش، وبالرغم من أن كل تلك الجهود تشكل عبئًا متزايدًا على النساء في اليمن فإنهن يقمن بها بدافع مسؤولياتهن الاجتماعية تجاه أسرهن ومجتمعاتهن، وتقوم النساء في اليمن بعدد من السلوكيات الخضراء بشكل عفوي كإدارة النفايات، إما بإعادة استخدامها كالزجاجات الفارغة للتخزين، أو تدويرها لصناعة التحف والهدايا، كما تقوم عددٌ منهن بفصل النفايات البلاستيكية عن بقية النفايات ليتم استخدامها من قبل جامعي المواد البلاستيكية الجائلين ليقوموا بإعادة بيعها، وعادة ما تقوم النساء في اليمن بتشجير أسطح المنازل أو أفنيتها، بزراعة أشجار الزينة أو بعض الخضروات التي تحتاج إليها بشكل يومي كالنعاع والفلفل الحار والطماطم وغيرها مما يجعل زراعتها سلوكًا أخضر، واستخدامها استخدامًا أخضر لعدم الاحتياج لتوصيلها إلى المنزل عبر أي وسيلة نقل.
وعلى المستوى المجتمعي تقود عددٌ من النساء في اليمن عملية التخفيف من آثار التغيرات المناخية من خلال مبادرات شبابية أو نسائية أو مشاريع منظمات المجتمع المدني، كحملات النظافة العامة وتشجير المدن والدعوات للاقتصاد الأخضر ورفع الوعي البيئي وإدارة الخلافات أو الحد منها للحصول على الموارد الطبيعية -مثل المياه- بين المجتمعات المحلية وغيرها.
من وجهة نظري، تعد النساء اليمنيات صديقات للبيئة، ذاك أنهن يقمن بجهود فردية عدة للتخفيف من آثار التغيرات المناخية عليهن وعلى أسرهن بشكل مقصود أو غير مقصود أحيانًا، لكن هذه الجهود وحدها ليست كافية للتخفيف من آثار تلك التغيرات المناخية على النساء في اليمن، بل يحتاج الأمر إلى جهود تكاملية من جهات عدة كالحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني المحلية والمنظمات الدولية ثم النساء أنفسهن، واللواتي أثبتن من خلال ما سبق قدرتهن على التكيف ورغبتهن في التحول إلى حياة خضراء قدر المستطاع، بالتالي من المهم التركيز على مثل تلك الجهود في بناء تدخلات تسهم في تخفيف آثار التغيرات المناخية على المجتمع اليمني بشكل عام، وعلى النساء بشكل خاص، وتشجيع المبادرات الفردية لهن في مواجهة أزمة المناخ ودعم استنساخ تجاربهن، وتفعيل أدوارهن في تعزيز الصمود البيئي، وتنفيذ برامج لبناء قدرات النساء المتضررات بشكل مباشر من آثار تغير المناخ كالمزارعات والنازحات، ودعم المزارِعات بالأدوات الزراعية التي تسهم في استمرار عملهن، ومساعدتهن في مواجهة شحة المياه وتدريبهن على وسائل زراعة حديثة وصديقة للبيئة، والعمل على دعم وتمويل المشاريع التي يتم من خلالها إنتاج منتجات محلية، تسمح للنساء أنفسهن بالمساهمة في استخدام الطاقة المتجددة كأفران وغسالات وسخانات الطاقة الشمسية، والأدوات المنزلية التي يُسمح بتعدد استخداماتها، وكذلك تدريب النساء على إدارة النفايات المنزلية وفصلها، والطرق الخضراء للتخلص منها، ودعم التشجير المنزلي، كل ذلك في ظل خطط عمل وطنية مشتركة للجهات المختصة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني للتوجه للاقتصاد الأخضر، ورفع الوعي البيئي بين كافة أفراد المجتمع، والنساء تحديدًا، وإشراكهن بفاعلية في ابتكار حلول ومبادرات للمشاكل التي يواجهنها بطرق صديقة للبيئة.