معهد جميل غانم للفنون بعدن (2-2)

تحديات واقع أهمل دور الفن وأشغل الشباب عنه
نجيب مقبل
June 30, 2024

معهد جميل غانم للفنون بعدن (2-2)

تحديات واقع أهمل دور الفن وأشغل الشباب عنه
نجيب مقبل
June 30, 2024
.

(2-2)

من مرحلة التبني والتمكين والاحتفاء بكل ما يقدمه معهد جميل غانم للفنون الجميلة من مخرجات علمية تخصصية في مجالات الفنون المتعددة (المسرح، الفنون التشكيلية، الغناء والعزف، الفنون الشعبية والرقص والغناء الجماعي)، التي كانت ترفد الساحة الفنية بمواهب فنية شاركت في إحياء الحفلات الفنية والشعبية في الداخل، بل شاركت في مهرجانات خارجية في الدول الاشتراكية ودول العالم الثالث وغيرها من البلدان- من هذه المرحلة، التي امتدت من منتصف السبعينيات حتى أوائل التسعينيات، حيث ظهرت بوادر خفوت رسمي وعزيمة تذوي قليلًا قليلًا في تبني الدولة وسلطتها الثقافية، ما بعد مرحلة ٧/٧، لهذا الصرح التعليمي للفنون، من اعتبارات سياسية، باعتباره جزءًا من مخلفات دولة الجنوب (الاشتراكية) والتعامل معه كحالة أمر واقع ليس إلا، وكيانًا مفروضًا في مؤسساته الثقافية والفنية.

فالدولة الوحدوية (١٩٩٠-حتى يومنا)، عكس الدولة التقدمية (١٩٧٣-١٩٩٠)، لم تنظر للفن معيارًا لشكل الدولة ووظيفتها؛ ولذا ظل نشاط المعهد خلال هذه الفترة ينطلق إمّا من جهد فردي لأحد قيادات الثقافة في مكتبها بعدن في تسيير الحالة كما هي من دون أيّ تبنٍّ أو اهتمام إلا فيما يتناوب المسؤولون على الاهتمام بمخرجات الفنون صعودًا وهبوطًا أو البقاء الحال (محلك سر)!

وفي مقابل هذا الإهمال، كان تحدي الجيل المؤسِّس من معلمي المعهد وغيرتهم على هذا الصرح الفني والثقافي، يقاوم كلَّ صنوف الإهمال وعدم الرعاية وعدم المسؤولية، من خلال الإصرار على تسيير المعهد وتكريس دروسه على طلابه، والاهتمام بمخرجاته، بعزيمة فردانية من إدارة المعهد والطاقم التدريسي.

وعلى هذه الحال، بدا أنّ المعهد يشكو من وضع اللاانتماء وراح يقدّم البدائل لرمّ عظمه وإسناد عوده وإخراجه من حالة اللاتبني الرسمي من الدولة، حيث طرحت مشاريع لإدماج المعهد بوزارة التربية والتعليم، أو التعليم الفني والمهني تارة، وتارة بقسم الفنون في جامعة عدن، ولم يحصد المعهد من جري الوحوش هذا لإنقاذ المعهد من الموت السريري إلا تبني وزارة التربية والتعليم، بمطابقة شهادة تخرج طلابه بشهادة الثانوية التخصصية ضمن اتفاقية وُقِّعت عام ٢٠١٨، وهذا أكبر إنجاز حقّقه معهد جميل غانم للفنون الجميلة.

المعهد في ظلّ تحديات مستجدة

اليومَ، منذ ما بعد حرب ٢٠١٥، وغزو عدن، وحالة البلاد من تداعيات الحرب، وبعد سلسلة من التهاون الرسمي لوظيفة المعهد، برزت إلى السطح مستجدات في الواقع، خلقت تحديات تهدّد كيان المعهد ووظيفته الإبداعية، فالمعهد اليوم يواجه تحديات جمّة، جلّها من تداعيات الحرب القائمة منذ تسع سنوات، وبعضها قادم من ثقافة لا ابالية وثقافة تقليدية رافضة لفكرة تدريس الفنون، وموقف الشباب من الدراسة بسبب السعي وراء البحث عن لقمة العيش.

أولى هذه الهموم، أنّ طلب العِلم أصبح منالًا فقيرًا عند كثيرٍ من شباب اليوم لأكثر من سبب؛ ربما على رأسها توجُّه العامة منهم إلى طلب الانخراط في العسكرة؛ لعائدها المادي الذي يغطي عطالة اليد وفقرها، على الشاب وعلى مَن ورائه من عائلة، أو الانخراط في مهن عمَلية للبحث عن لقمة العيش، وخاصة في مهنة سواقة باصات الأجرة.

لذلك، فصورة صفوف الدراسة الفاضية من الشباب الطالِبِ للتعليم، وخاصة الجامعي والتخصصي ما بعد الأساسي والثانوي، انعكست على التعليم التخصصي الفني في المعهد الذي يبدو من وجهة النظر هذه، ترفًا ونافل مطلب.

لذا، تشتكي إدارة المعهد من عدم انتظام التعليم النظامي ذي السنوات الثلاث، واستبدلته بنظام دراسي بدورات قصيرة زمنيًّا ومكثفة منهجيًّا، وذات تخصص معين وقصير المدى والمنهج الدراسي؛ مواكبةً لهذا الوضع الاستثنائي.

أضف إلى ذلك أنّ الحياة العامة بقساوتها، فقرًا وحاجة، واستثنائية الأوضاع في ظل أجواء رمادية الأحلام، ومن خلال تداعيات حرب ١٩٩٤، في جانبها من تمكين القوى الدينية، الذي أدّى إلى توجه بعضٍ من الشباب المتحزّب إلى هذا التيار الديني أو تلك الجماعة التي تحمل في تكوينها النظر إلى الفنون من خلال دائرة التحريم؛ مما جعل العديد من هواة الفن والإبداع من الشباب اليافع، يعزفون عن تنمية مواهبهم الواعدة؛ بسبب السقوط في شباك دعايات التشكيك والتحريم لطبيعة الفن ودوره ورسالته.

الثقافة والفنّ في مهبّ واقع مأزوم

إنّما التحدي الأكبر -كما قلنا أولًا- أنه على عكس ما كان أيام التأسيس، حيث كانت الدولة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) راعيةً للفنّ ومُشجِّعةً لمواهبه الواعدة، أما اليوم برغم استمرار وجود وزارة للثقافة، فإن الدولة بكافة هياكلها السياسية والثقافة والإبداعية قد تخلت عن هذا الدور.

كلُّ ما يجري في المؤسسات الثقافية الرسمية، ومنها معهد جميل غانم للفنون الجميلة، ينطبق عليها المثل "مشِّي حالك" وسيّر عملك بالبركة، فلا يوجد توجه رسمي عام يرعى الفن وأهله أو خطط استراتيجية لتطوير البنى الثقافية والفنية.

ربما هناك -في ظنّي- توجُّهٌ ما بعدم تحريك عجلة العلم والتعليم، وإبقاء الحال على حاله؛ تارة تحت ادعاء أنّ البلاد في حالة حرب، وتارة بتوجه مقصود بتجهيل المجتمع وإفقاره فنيًّا ومعرفيًّا، والاتكاء في الوظيفة العامة للثقافة والفنون على البيروقراطية الإدارية، وإبقاء شؤون الثقافة والإبداع على حافة الهاوية.

ويمكن القول إنّ أفضل عهد لقيادة وزارة الثقافة كان في فترة الوزير الشاب والمثقف مروان أحمد دماج، الذي حاول بروحه الشبابية الفوارة أن يحرك جوامد الثلج، ولكنه كان يتحرك في أجواء مشحونة بتلبّد الأجواء وتبلّد القيادات، ويحاول أن يصنع شيئًا مؤثرًا، ولكن الأدوات التي كان يحوزها كانت أقل من طموح الوزير الشاب الذي خصّص جهدًا متفانيًا لتشغيل المعهد وتفعيل نشاطاته، والتقى فترةً مع ما يمكن أن ينهض به، ولكن إلى حين، حتى عادت الأمور إلى رتابتها بفعل واقع الحال المستفحل.

هكذا يبدو حال المؤسسات الثقافية، ومنها معهد جميل غانم؛ أن يبقى حيًّا فقط وجوديًّا، ولكنه لا يمارس دورًا توعويًّا وحضاريًّا، بل يبقى (إكليشة) من بقايا الماضي، موجودًا وعائشًا في الحاضر، حتى لا يقال إنّ الفن صار إلى خبر كان في عهد أي كان!

مدير المعهد: "نعمل وندير المعهد بجهود ذاتية وبقوة الدفع الداخلي وبميزانية تكاد تغطي رواتب الكادر التدريسي، فلا توظيف لمدرسين في المعهد الذي توقف التوظيف فيه لكادره التدريسي منذ عام ١٩٩٤، وكل كادره إما توفاه الله أو ذهب للتقاعد، وحاليًّا نعتمد على كادر تدريسي بنظام التعاقد، لكننا نحاول أن نحقن جسد المعهد بحقن إنعاشية لنمنحه قُبلة الحياة".

في ظل غياب دور الدولة في رعاية الفنون إلا في المناسبات، حيث يكون السلق حاضرًا في تحضير وجبات فنية جاهزة ومكرورة، لا حياة ولا إبداع أو معاصرة فيها. في هذه الأجواء، تبقى عزيمة القيادات المخضرمة في محاولة الدفاع المستميت في البقاء حيًّا لكل ثقافي مبدع، ولو كان الوقوف على حافة الهاوية، حيث لا منقذ ولا من يؤذن في مالطة.

يقول فؤاد مقبل، الفنان التشكيلي وأحد طلاب المعهد السابقين، ومديره الحالي: "نحن نعمل وندير المعهد بجهود ذاتية وبقوة الدفع الداخلي، وبميزانية تكاد تغطي رواتب الكادر التدريسي، فلا توظيف لمدرسين في المعهد الذي توقف التوظيف فيه لكادره التدريسي منذ عام ١٩٩٤، وكل كادره، إما توفاه الله أو ذهب للتقاعد، وحاليًّا نعتمد على كادر تدريسي بنظام التعاقد"، ويواصل: "لكننا نحاول أن نحقن جسد المعهد بحقن إنعاشية لنمنحه قُبلة الحياة".

ويختتم: "لا يمكن أن نرمي هذا التاريخ التليد لأول أو ثاني معهد في الجزيرة والخليج إلى مهاوي النسيان والعطالة عن العمل والإبداع. كل أستاذ أو موظف في المعهد يجاهد لأن يمارس دوره التعليمي ورسالته التي اختطتها من أجيال سابقة على مر نصف قرن، من دون كلل أو تهاون في مسيرته".

التحديات قائمة؛ يقول مدير المعهد، ولكن العزائم لا يمكن أن تفقد حالة المقاومة الناعمة حتى يبقى صرح هذا المعهد مشتغلًا بأساتذته وبطلابه القليلي العدد والمساقات غير النظامية في التدريس، ولن نتخلى عن القيام بهذا الدور، رغم فقدان المنهجية والتخطيط، وسيادة النظرة النمطية والديكورية إلى طبيعة ووظيفة المعهد، التي من المفترض أن تتسم بالتنوير والتوعية، وأنظارنا تتجه إلى المستقبل إلى أن يأتي زمنٌ تتكاتف فيه الرؤية الحكومية والنظرة المجتمعية في صياغة استراتيجية تعبر عن دور وموقع الفنون في بناء الوطن وأهمية رسالته الحضارية في الحياة وفي صناعة المستقبل. ومن هنا، ستنتعش مفاعيل المعهد، وتبزغ أنوار معارفه بكل جدارة واستحقاق مدني ومعرفي.

خاتمة

معهد جميل غانم يحاول أن يتجاوز ثقافة التحريم التي "يتشعبط" بها القليل من أصحاب العقول الجامدة التي تزنّ في آذان الشباب الواعد، وتتوق قيادة المعهد إلى أن يتحرر الشباب من ربقة تغليب البحث عن لقمة العيش في العسكرة أو باصات الأجرة، وتوجيههم إلى تنمية المواهب والإبداعات للواعدين، وهي في هذا المجال تقوم بدورات نوعية للبراعم والأطفال، وتكافح إداريًّا لأن تخرج متطلبات المعهد واحتياجاته المادية والمعنوية من دائرة النمطية والبيروقراطية في علاقته مع الدولة ووزارتها الثقافية التي عليها أن تعدّ الخطط والاستراتيجيات من أجل صناعة مستقبل أجمل للمواهب الواعدة، وحمايتها بسلاح العلم والمعرفة، لا ببندقية التجهيل المتعمد، وسياسة إبقاء الأمور على حالها من التدهور، لا حياة فيها تسر المبدعين، ولا موات كامل الأركان.

سيبقى معهد جميل غانم علامةً على مدنية عدن وشغفها الفني والإبداعي، وحاضنة للتنوع الإبداعي والانفتاح الحضاري، ولن يتخلى عن هذا الدور كلُّ من ارتبط بالمعهد، إدارةً أو مشتغلين في الفن والثقافة أو نخبة مثقفة ومتعلمة تؤازر الإبقاء على كينونته الإبداعية والحضارية، طالما كان البحر والمحيط الواسع يلطم خدها، هذه الـ(عدن)، كلَّ صباح. 

وستولد عقول قادمة واعية تصحح الخلل القائم بسبب تعطيل دور المعهد في تخريج دفعات من الموهوبين في التعليم النظامي المستمر لفنون الموسيقى والرسم والمسرح والفنون الشعبية، أسوة بعواصم الفنون العربية في القاهرة وبغداد والشارقة والرباط وغيرها.

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English