وأنت تمضي في طريقك،يحيطك الصباح بشمسه الدافئة، تداعب روحك نسماته الربيعية، تشعر بالراحة والرضا يغمرانك بعد ليلة دافئة وضعت فيها جسدك المنهك على فراشك الدافئ ونمت ملء عينيك. الطريق تبدو متصالحةً مع وقع خطواتك، وكل ما حولك يدعوك لبَدء يوم جديد.
توقف قليلًا؛عليك الآن، قبل أن تواصل مشوارك، أن تلتفت نحو ذلك الرصيف أو باتجاه ذلك الجسر الذي تئن جزيئاته تحت عجلات السيارات السريعة. تمعّن وحدّق في تلك الأجساد التي تغطيها الأسمال البالية، وبقايا دثار طغت عليها أتربة الزمن. تفحص تلك الوجوه لتقرأ ما تخفي خلف شحوبها من قصص قد تذهلك!
هناك تحت جسر يحتفظ بالكثير من الحكايا، يقرأ على الوقت قصة أشخاص عايشوا تفاصيل الوجع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، في لياليهم القاسية والعبثية يحتضنون ماضيهم، يحاولون الالتجاء بما تبقى لهم منه من ذكريات عاشوها قبل أن تتحول حياتهم لقصة جنون وحرمان.
قف وتخيّل؛ ماذا حدث حتى وصلوا لما وصلوا إليه من بؤس.دع روحك تصغي لتمتمات يرددونها مع أنفسهم ربما تفهم مغزاها.
في مملكته الوهمية،يحيط ذاته التائهة بالكثير من الأسوار،جدران عالية من النفور تفصله عن العالم المحيط به.هناك يلوذ بالتمتمات العالقة في حنجرة تيهه الدائم، بها يعاتب الماضي ربما، وبها يناجي حاضره، يتوسله للإشفاق عليه. في عالمه المختلف يقبع وحيدًا، تتحاشاه الوجوه العابرة بمحاذاته وتنفر منه، يراقبها بدوره بصمت، بينما تردّد ذاته مفردات المواساة لنفسه.شريطذكرى الماضي يلازم عقله المنهك، يراقب حقيبته التي كانت تحتوي كشكول التحضير، ملامح طلابه، تفاصيل يوم مليء بالشغف، وطبشور يخطبه الكثير من الحِكَم التي تدعو للنظر بتفاؤل إلى القادم. ها هي تلك الحقيبة مفرغة من زوادة الماضي التي كان يظنها تكفيه ليصل إلى المستقبل، باتت مفرغة إلا من الكثير من الخيبات والوجع، يسند عليها رأسه المثقل بالجنون، يحلم مع كل يوم يمضي بأن تصافح روحه كفًّا تأخذ بها نحو التغيير، وتؤمن بأنه إنسان، إنسان فحسب، يحاول التحرر من بوتقة الفشل والعجز والحاجة، ويحتاج للتوحد بالآخرين الذين كان ذات يوم واحدًا منهم.
في العقد الخامس من عمره، يرتدي بقايا ثوب كان ذات زمن بعيد أبيض اللون، تغطي وجهه المتغضن لحية كثيفة، التراب هو الجزء الأكبر منها.تقدمت منه بحذر، كنت كغيري أخشى أن يهاجمني، الجميع مِن حولي ينظرون إليّ باستغراب، وأظن، بل أجزم، بأن لسان حالهم كان يقول:هل هذه مجنونة؟!كيف تجرؤ على الاقتراب منه بهذا القدر!
المسافات بيننا وبينهم تحسب بـ"الملّي"، طالما حافظنا على ذلك القدر منها اعتقادًا بأننا سنسلم من أذيتهم.حاولت التخلص من خوفي لأتمكن من الدخول إلى عالمه، ذلك العالم المجهول، في محاولة لكشف ما أخفت عنا تلك الحالة الموجعة، حتى بتنا لا نتخيل بأن له ولأمثاله جانبًاآخر وقصة أخرى نجهلها.
صمت ولامبالاة، كررت:
انتظرت علّني ألمح ردة فعل، الصمت طاغٍ عليه، عيناه جامدتان تحدقان بالفراغ، لولا حركة أنفاسه المتتالية لظننته ميتًا. تنفست بعمق، أحاول استجماع شجاعتي، وقلت له:
عندها تركت عيناه التحديق في الفراغ، نظر إليّ، تململ في جلسته، ثم قال بصعوبة متسائلًا:
حدق بي وملامحه تطفح بالاستغراب، ثم قال بعدم اكتراث:
حاولت أن أستغل بَدْأَه بالحديث وأتغاضى عن تعليقه؛ لكي أسأله بما أردت معرفته عنه وعن سبب ما أوصله لهذا الحال:
ضحك بصوت مرتفع ثم اعتدل في جلسته، وقال:
فعلت كما طلب، فردّ:
قاطعته:
بعدم اكتراث واصل كلامه، وكأنه لم يسمع تعليقي:
"كان يومًا مرعبًا، تمامًاكما قرأت عنها لطلابي، انتشرت الشياطين سريعًا، أخذوني لمكان مظلم، وبدأ الحساب. أخبروني بأنني كنت مواطنًا غير شريف، علّمت الأطفال معنى الوطنية، فكبروا وحاولوا تغيير السائد، كنت غير صالح، تساءلت كثيرًا عن الله، بينما كان عليّ الإصغاء فقط لمن سبق لهم معرفته، ثم في النهاية كان نصيبي الجحيم".
فكر لبرهة، ثم واصل:
نظر إليّ كأنه انتبه لأمرٍ ما، ثم تساءل:
شعرت بالغصة تكاد تخنقني، لم أستطع الرد. كنت أفكر: أيعقل أن يصل الظلم بالإنسان لهذا الوضع؟! أي معاناة عاشها ليكون نتيجتها هذا الوضع المأساوي!
نهضت حين انتهى وفي داخلي كل الكلام، وشعرت بالعجز، ثم قبل أن أغادر كررت سؤالي عليه: ألن تخبرني باسمك، يا عم؟
رفع نظره نحوي، وقال:
خذلتني دموعي ومضيت في حال سبيلي، وقد قررت أن أسميه الفيلسوف.