في مادة عنونتُها بـ"الكتابة القصصية في اليمن خلال سبعة عقود؛ مقتربات الخطاب وتمظهرات التجييل"، نُشِرتْ في كتاب "النقاد يصنعون موجة البحر 2008" أشرت إلى ذهاب الكثير من دارسي السرد الجديد في اليمن إلى القول بأن رواية "سعيد" لمحمد علي لقمان، المنشورة أول مرة على حلقات في صحيفة "فتاة الجزيرة" العدنية عام 1939، هي أول عمل سردي يظهر في اليمن، وتبعًا لذلك صار هذا العمل معلمًا مهمًّا يشير إلى لحظة الولادة الأولى لشكل كتابي أدبي لم يكن قد أفصح عن نفسه بهذه الهيئة قبل هذا التاريخ، وإن تنبه بعض الدارسين لعمل سردي آخر، أصدره، في جاوة الأندونيسية، مهاجرٌ يمني من حضرموت هو أحمد السقاف، عنوانه "فتاة قاروت"؛ فعلاوة على كون هذا العمل في حكم المفقود، يضعنا أمام إشكالية الكتابة في المهجر، وما إذا كانت تمثل بالفعل جزءًا من النتاج الروائي في اليمن، لا سيما إذا تذكرنا "العلاقة الضرورية بين الرواية والمجتمع الذي تعبِّر عنه، أو تسعى لتصوير تحولاته والتعبير عنها بشكل أدبي" كما يقول هشام علي في "الخطاب الروائي في اليمن".
لكن بعد اثنتي عشرة سنة كان لا بد من إعادة معاينة التوصيف من زاوية أخرى، أقلها الملامح الهُوياتية والثقافية التي حملتها الشخصيات الرئيسة في مسرود "فتاة قاروت"، إلى جانب المقتربات التي يفرضها النص واستشكالاته داخل موضوع الهجرة، وعلى وجه الخصوص موضوع اندماج أبناء المهاجرين في المجتمعات الجديدة، والأهم العثور على النص ملمومًا في كتاب.
الرواية كتبت في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وهنا تكمن قيمتها التوثيقية، وهي في هذا التموضع تتوازى مع رواية أخرى، صدرت بعدها بأربعة عقود، تُعنى، هي الأخرى، بموضوع الهجرة وقضايا الاندماج في المجتمعات المُهاجر إليها، غير أن الذي كتب الرواية الأخرى ولد في الأصل في مجتمع مهاجرين، ونعني بالرواية "يموتون غرباء"، لكاتبها "محمد أحمد عبدالولي" المولود في أثيوبيا بأفريقيا.
من كتب عن مجتمع المهاجرين الحضارم في أندونيسيا هو مهاجر تسلح بخبرات أدبية واضحة قبل هجرته، وضاعفها من انشغاله بقضايا التعليم والصحافة في مستقرة الجديد. أما "محمد عبدالولي" هو ابن لمهاجر يمني في الحبشة، "وجد نفسه منذ الطفولة الباكرة ممزقًا بين لغة أمه، لغة البيئة التي ولد فيها وعاش طفولته الباكرة من جهة، وأب "فقيه" يعلم أطفال المهاجرين اليمنيين القرآن الكريم ومبادئ اللغة العربية، حرصًا على المحافظة على هويتهم الثقافية العربية الإسلامية من الضياع، في ثقافة أخرى يتعلمونها في الكتب المدرسية وفي الحياة العامة الإثيوبية، من جهة أخرى. وهكذا وجد محمد عبدالولي نفسه يتحدث لغتين في الوقت نفسه، لغة أمه الإثيوبية ولغة والده العربي اليمني، ويجد نفسه أيضًا ممزقًا بين الانتماء لمجتمعين، مجتمع المهاجرين اليمنيين المحافظ أخلاقيًّا، والمجتمع الإثيوبي المنفتح نسبيًّا". [ينظر كتاب د.علي محمد زيد "الثقافة الجمهورية في اليمن"].
رواية "فتاة قاروت" خضعت في خطابها لسطوة كاتبها، الذي انصرف لسنوات طويلة لقضايا التعليم في مجتمعه الجديد، فأصبغ عليها لغة وعظية وإرشادية، تحاول إصلاح مكامن الخلل في مجتمع بدأ في التهام القيم الأصيلة للمهاجرين العرب "الحضارم"
بقي السقاف في مهجره مرتبطًا باللغة العربية، ويكتب بها في الصحف المهجرية الموجهة للمهاجر اليمني الحضرمي في ذروة الانقسام بين الإرشاديين والعلويين في الأرخبيل الهندي، وأقرب السير المتداولة عنه تقول إنه "ولد سنة 1880 في مدينة الشحر، وتربى في كنف أخواله آل بن عثمان، ثم انتقل إلى سيئون ومكث فيها بضع سنوات قبل أن يسافر إلى حيدر أباد ثم إلى سنغافورة، ومنها انتقل إلى باتافيا التي قضى فيها معظم سني عمره. ومثل غيره من الحضارم هناك سعى السقاف أولًا إلى تأمين مصدر رزقه من خلال دخوله شريكًا للتاجر عبدالله الحبشي، ثم تأسيسه لمصنع خاص به في مدينة الصلو. ومع ذلك فقد دفعته اهتماماته الأدبية إلى تكريس معظم وقته للقراءة والكتابة، وانكب على مطالعة جميع الصحف والمجلات العربية، وبدأ يحرر بعض المقالات الاجتماعية والأدبية وينشرها في صحيفة "الإصلاح" التي كانت تصدر باللغة العربية في سنغافورة. وكان له دور بارز في الحياة الاجتماعية والتربوية الخاصة بالجاليات الحضرمية في الأرخبيل الهندي، إذ أسهم بشكل فعال في تأسيس "جمعية خير"، وأصبح سكرتيرًا لها ومديرًا لمدرستها. واضطلع كذلك بدور كبير في تحرير مجلة "الرابطة العلوية" التي تصدى من خلالها لأفكار الحضارم الإرشاديين في الأرخبيل الهندي"، كما يرد في كتاب د.مسعود عمشوش "الحضارم في الأرخبيل الهندي".
رواية "فتاة قاروت" خضعت في خطابها لسطوة كاتبها، الذي انصرف لسنوات طويلة لقضايا التعليم في مجتمعه الجديد، فأصبغ عليها لغة وعظية وإرشادية، تحاول إصلاح مكامن الخلل في مجتمع بدأ في التهام القيم الأصيلة للمهاجرين العرب "الحضارم"، لهذا يعرُّفها المؤلف في الغلاف بأنها "رواية غرامية انتقادية تتضمن انتقاد بعض عادات مهاجري العرب في جاوة، ووصف بلاد السند وعادات أهلها بأسلوب رشيق". [د.عمشوش].
ووصف السقاف لروايته بأنها "غرامية انتقادية" يضعنا منذ البداية في سياق خاص من التلقي لخطاب مهموم بالشأن الاجتماعي، ولذلك فقد توازى الخط السردي الذي يدور حول العلاقة الغرامية بين عبدالله ونيغ، وما يتصل بهما من أحداث مع الخط التعليمي الإصلاحي في نقده لبعض جوانب حياة المهاجرين العرب، وجُعلت القصة الغرامية إطارًا لتمرير خطاب المؤلف الثقافي"، كما يقول د.باقيس.
لكن في قصدية التأليف في بعده الجمالي "تطلع المؤلِّف إلى رؤية جديدة في الطَّرح الأدبي منذ ما يزيد على ثمانية عقود من كتابة الرواية، وبالتحديد منذ صدورها عام 1927، ولهذا أتت روايته في الصفوف الأولى في كتابة الرواية في الجزيرة العربيَّة، بل هي أول رواية في الجزيرة العربيَّة، في أرض المهجر كغيره من أدباء المهجر العرب كـ:جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، في نيويورك في عشرينيات القرن الماضي، وليس من المصادفة أن يكون هناك عربيٌّ آخر، وفي السنة نفسها التي وجد فيها أدباء المهجر في نيويورك، يكون هناك شخصٌ من حضرموت يكتب رواية في إندونيسيا محاولًا كسر الجمود الفكري". [عمار باطويل].
رواية "فتاة قاروت - مجهولة النسب"، تعيد إنتاج صورة منمَّطة لعلاقة حب عذري بواسطة خطاب تعليمي وإرشادي، ولفكرتها الرئيسة علاقة بموضوع الهجرة والاندماج في مناطق الأرخبيل الهندي وخلاصتها أن "عبدالله" الشاب الحضرمي الذي يترك حضرموت إلى سنغافورة وإندونيسيا من أجل الوقوف على ثروة والده، الذي قضى غرقًا في بحر الهند، وفي فترة إقامته في منطقة "قاروت" السياحية بالقرب من "جاوة" تتلاقى مصائره مع فتاة سندواية اسمها "نيغ" يحبها من أول نظرة "إذ لم يكن قد رأى في تلك البلدة، بل في جاوة كلها امرأة جمعت من المحاسن واللطف ما خص الله به هذه البنت". حين يراها عبدالله أول مرة وهي تتبع والديها في طريقهم إلى قاروت، يكون الوالدان قد عقدا العزم على منحها لثري هولندي صاحب معمل في بتاوي يسمى "فان ريدك" ينزل في أحد الفنادق في المنتجع اسمه "سيناريون"، مقابل إغراءات مالية كبيرة للأبوين، ويكون الهولندي قد رآها في مدرسة، رغب الأبوان في إلحاقها بها بعيد عودتها من مكة، لكن المدرسة لم تقبلها؛ لأن البنت لا تتكلم اللغة الميلاوية.
بعد عودتهم إلى القرية يذهب الأبوان إلى الشيخ "مخطي" -فقيه في القرية يتكلم العربية- لاستفساره شرعًا بما نويا أن يقدما عليه، أو بالأصح الطلب منه إقناع الفتاة بقبول العرض، وبعد تردد أزاله برشوة من الأب يذهب بمعيتهم إلى مسكنهما، في الوقت هذا تكون "نيغ" قد ذهبت إلى حانوت "رصيدة" -امرأة محلية كانت متزوجة لعربي– وتكتب رسالة إلى "عبدالله" تقوم الأخيرة بتوصيلها لمسكنه وتضعه في الصورة، وأنها في طريقها إلى "قاروت".
النص كتب بوعي عالٍ لعرض قناعات ثقافية وأخلاقية وسيروية أيضًا أُسقطت على الشخصيات، إلى جانب تفكيك علاقة أنا المهاجر بالآخر الشرقي والغربي معًا
يخرج عبدالله للبحث عنها، في الوقت ذاته الذي يبحث فيه الأبوان عنها في المزارع وضفة النهر، تعود إلى بيت "مخطي" للإيقاع بينه وبين رسنا والأم للتخلص من ضغوط الجميع، وحين تنجح الخطة بحدوث مشاجرة كبيرة ودامية بين مخطي وزوجته، وذهاب الجميع إلى الشرطة، تعود إلى مسكن عبدالله، غير أن خادمه يمنعها من البقاء فيه، فتذهب إلى الطريق لانتظاره، وهي بهذا الوضع يمر أحدهم على دراجة هوائية، ويناولها خطابًا من عبدالله -تكون الأم قد زوَّرته باسمه- مضمونه أنه متخلٍّ عنها.
وحين يعود عبدالله إلى المسكن، بعد بحث مضنٍ عنها في قاروت، يكتشف أن خادمه قد طردها فيجن، ويقوم بطرد الخادم "سترون"، الذي يقرر بدوره البحث عنها وإحضارها إلى سيده من جديد، لكنها تكون في ذلك الوقت قد قررت التخلص من حياتها برمي نفسها تحت عجلات القطار، وتكتب بذلك رسالة إلى عبدالله أشبه بوصية وعهد حب.
وبعد رحلة من العذاب والألم للحبيبين وتحليق طائر الموت في سمائهما، ستتكشف الكثير من المخبوءات الغامضة، ومنها أن نيغ هي في الأصل ابنة عمه "عمر" وهي ثمرة لزواجه بـ"مينة" لأيام قلائل قبل حادث غرقه، وأن نيغ وضعتها أمها في رحلة حج، وتربت في مكة عند خال لها يدعى الحاج، وهناك اكتسبت اللغة العربية، والكثير من صفات الأخلاق الحميدة والعلم الغزير، وتنتهي القصة بزواج العاشقين.
يجب الإشارة أيضًا إلى أن القيمة التاريخية للنص تضعه في مصاف "الريادة السردية المهمشة" في اليمن، كما يذهب د.باقيس للاعتبارات التي ذكرناها، وهي أن النص كتب بقلم مهاجر يمني حضرمي، وأن موضوعه يتناول قضية اندماج المهاجرين العرب في مجتمع هجرة في شرق آسيا. ويعتبر تمثيلًا شديد الوضوح لوقته، ولوعي شخوصه بما يحوطهم. النص في سياقه البنائي يحمل قدراً مهمًّا من التجديد الجمالي، وعلى وجه الخصوص في حبكته، وفي تقطيعات الزمن داخل المسارات الحكائية النشطة للشخصيات، بما فيها تلك الشخصيات المستنبتة عرضًا لإيصال الرسائل التربوية من وجهة نظر الكاتب.
النص كتب بوعي عالٍ لعرض قناعات ثقافية وأخلاقية وسيروية أيضًا أُسقطت على الشخصيات، إلى جانب تفكيك علاقة أنا المهاجر بالآخر الشرقي والغربي معًا، فبمقابل إمكانية التعايش مع الأول يصعب معها في الثاني "الآخر الشرقي الأكثر قربًا والتصاقًا بنا مكانًا وحضارة ومعتقدًا، والعلاقة به لا تقوم على الصراع أو المواجهة أو التقاطب كما في العلاقة بالآخر الغربي، وإنما على التعايش والانسجام". [د.عبدالحكيم باقيس].
التيمة الأكثر وضوحًا في النص هي تلك التي تلتمس "الحب العذري" الذي لا يمكن أن يصل إلى مبتغاه إلا بتجاوز عقبات الشر التي وضعت أمامه، باعتباره الموازي الآخر أو القطب الخالص للخير، وفي سياق هذه الثنائية الحادة تتولد الثنائية الأخرى لتعمل في إطارها، وهي ثنائية الآخر إما بوصفه جحيمًا أو نعيمًا.
وبما أن الخطاب العام الذي يسوَّقه النص يتبنى، بأسلوب الوعظ، إعلاء قيمة الثانية، كان لا بد من إبطال مفاعيل الأولى، حتى ولو بالإزاحة الخشنة، لهذا سنرى كيف سيعمل على إماتة "فان ريدك" بوصفه الآخر الأوروبي الشرير:
"أضمر في قلبه الشر لعبدالله، وصمَّم على الانتقام منه بنفسه، فذهب إلى "بيتاوى" راكبًا سيارته ليدرك عبدالله قبل سفره إلى سنغافورة، وكأنه في بعض الطريق أجراها بسرعة زائدة، فاعترضه ما أوجب انحرافه قليلًا، فصدم بها شجرة كبيرة فقضي عليه هو والسائق تلك الساعة وتعطلت السيارة، بحيث لم تعد صالحة للاستعمال ولا قابلة للإصلاح".