أحد العناصر الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الحديث، تتمثل في تلك المنظومة المتكاملة من القوانين والمُثل والآليات والتدابير، الصارمة، الرامية بمجموعها، لتحصين المجتمع الحديث، بأفراده وبُناه المؤسسية، الحكومية والأهلية والخاصة، في جميع القطاعات، من كل أشكال الفساد ولوثاته، فلا تجد أي حركة للمال والعمليات والأصول، الثابتة والمنقولة، إلا وكانت لها بالمرصاد، منظومة حديثة، فاعلة ويقظة، بآليات وإجراءات وتدابير، مُيسّرة دائمًا، لمهمة طرح السؤال: "من أين لك هذا؟"، بطرق متعددة، وهو سؤال لا مناص من الإجابة عليه، بالوثائق والأدلة الدامغة والقطعية الكافية لإثبات مشروعيته ونزاهته واستحقاقه، ابتداء من مصدره، وبكل محطاته، وحتى أوجه إنفاقه.
إنّ تلك المساقات الحساسة لمسائل الفساد وآفاته المدمرة لأي مجتمع، تُمثّل إحدى الركائز الأساسية، التي يقف عليها السلّم الاجتماعي المُسيّج بإدراك يقيني عام، بأن الجميع يقفون على أرضية واحدة ضامنة لتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ونزاهة دورة حركة الموارد العامة والخاصة، وفاعلية وجدارة وحيادية بُنى الرقابة والتدقيق العامة، مع الوعي الجمعي، كذلك، بخطورة أيّ تراخٍ يمكن أن يفتح ثغرات تتسرب من خلالها لوثة الفساد الفتاكة إلى حاضرهم ومستقبلهم، وبالخطر الوجودي الذي يمكن أن تشكّله تلك الآفة، في حال التراخي مع أيّ تسلل لها، على كل المكتسبات الجمعية المُراكمة، في إطار دولة الناس الحديثة، دولة الرفاه والنماء والمواطنة والعدالة، لذلك، تتوارد إلينا بين الفينة والأخرى، من ذلك العالم، أنباء الإطاحة بهذا المسؤول أو ذاك، بإجراءات صارمة، بسبب اكتشاف واقعة من وقائع الفساد.
وعلى النقيض من ذلك تمامًا؛ فالنظام العام في مجتمعاتنا، يوفر بيئة صديقة لكل أشكال الفساد، التي تتظلل تحت أفياء ثقافة عامة متسامحة مع حيل ومهارات الفساد، ويستند العاملان على ثالث، هو أفدحها، متمثلًا بممارسات النظام القمعي والشمولي المنفلت، المتخلف في بُناه وآلياته، والفاقد للحد الأدنى من الكفاءة والفاعلية والشرعية والمشروعية، والذي يجعل وجوده، من الفساد، غولًا نافذًا مُدجّجًا بالسلاح وكل وسائل القسر والإكراه والشعارات الجوفاء، بصورة لا تجعل أي مجال من مجالات الحياة، بمعزل عن مخالبه ولوثاته.
وكنموذج حيّ لما يمكن أن تفعله تلك العوامل، مجتمعة ومنفردة، فإنّ المجال العام في اليمن أشبه بغربال، مليء بالثقوب السوداء، التي تلتهم الموارد والطاقات والفرص العامة والخاصة، والذي شكّل إحدى المقدمات التي تولت جر اليمن إلى جحيم الاحتراب والانهيار، وهو وضع يجعل من أوجب واجبات جيلنا، المبادرة إلى إنجاز تجارب نموذجية، مؤسساتية وفردية، تمتثل لأعلى معايير الحوكمة والنزاهة ومكافحة الفساد، ابتداءً من تجاربه الصغيرة، كمقدمة لازمة، لإصلاح حوامله العامة في إطارها الأوسع.
أي تجربة، فردية أو مؤسسية، تقوم بأي نشاط بمعزل عن الإجراءات المالية والإدارية طبقًا للأعراف والأصول المحاسبية الحديثة، في كافة عملياتها، تكون بالضرورة، جزءًا من حالة الفساد والإفساد العامة.
وربطًا بما سبق، يمكن الاستدلال هنا، بفقرة استوقفتني مرات عديدة صادفتها في مقدمات تقارير جهات التدقيق الخارجي، في تقديم افتتاحي، لبيان مسؤولية جهة التدقيق الخارجي، أقتبس منها: "مهمة المدقق الخارجي، التحقق من سلامة العمليات والبيانات المالية من أي تحريفات جوهرية، سواءً بسبب الاحتيال أو الخطأ"، وتضع الفقرة بطريقة مباشرة وصارمة، ميزان فحص سلامة ونزاهة العمليات المالية، لكل المؤسسات والجهات، وفق محدّدين أساسيين؛ يشمل المحدد الأول طيفًا واسعًا من وقائع وممارسات الاحتيال، ويشمل المحدد الثاني جملة من الممارسات الخاطئة، والتي تضرب سلامة وأهلية ونزاهة العمليات المالية، بذات القدر الذي تفعله وقائع الاحتيال، ومن ذلك عدم وجود دورة مستندية دقيقة وشفافة، كثغرة كاشفة تدل على وجود الاحتيال والخطأ، معًا.
لذلك، فإنّ أيّ تجربة، فردية أو مؤسسية، تقوم بأي نشاط إغاثي، أو تنموي، أو توعوي، أو بحثي، أو حقوقي، أو أي شكل من أشكال العمل الخيري والإنساني، بمعزل عن الإجراءات المالية والإدارية طبقًا للأعراف والأصول المحاسبية الحديثة، في كافة عملياتها، ابتداء من طريقة التحصيل، ومرورًا بطريقة حفظ الإيرادات وإثباتها، والعمليات ذات الصلة بتنفيذ الأنشطة والتدخلات وأوجه الصرف، وانتهاء بعمليات التدقيق الداخلية، وعمليات التدقيق الخارجي، تكون بالضرورة، جزءًا من حالة الفساد والإفساد العامة، بغض النظر عن حقيقة النوايا والدوافع والمبررات الحقيقية لذلك الوضع.
قبل سنوات، وخلال مناقشات داخلية عن سُبل تعزير آلياتنا المؤسسية للتدقيق الداخلي، وكمدير لإحدى مؤسسات النفع العام، أمام العشرات من زميلاتي وزملائي، قلت:
"إذا رأيتموني يومًا أمتلك فيلا وسيارة فارهة، فارفعوا في وجهي أحذيتكم، لأني سأكون حينئذٍ، فاسدًا، اختلست مالًا عامًّا اؤتمنت عليه، كمدير لمؤسسة غير ربحية تُدير مالًا عامًّا، في الحد الأعلى لراتب وظيفته، يكفيه، بالكاد، ليعيش حياة معقولة، قطعًا لا يمكن وتحت أي ظرف، أن يحقق له الثراء، ولو بالحد الأدنى منه".
وبشكل دوري أتوقف كثيرًا، للتحقق من مؤشرات تلك البوصلة، ومن سلامة الخطوات في مسارها الواضح، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى المؤسسي، ليس باعتباره خيارًا بين عدة خيارات، بل باعتباره الخيار الوحيد.
وهو امتثال، بالنسبة لي على الأقل، مُلزم وأبدي، غير مرتبط بمجال أو ظرف زمني أو مكاني، أو موقع، بقدر ارتباطه بذاتي، أرى فيه سبيلًا لخلاصنا الفردي والجماعي، بل وأبعد من ذلك، أرى فيه سبيلنا الأمثل، لرد اعتبارنا وجبر ضررنا، كأمة، كابدت طيلة السنوات الماضية من كبوتها المشهودة، طوفان من الأمواج المتلاطمة بأشكال متعددة من الاستباحة والسحق، الجارحة لذات وكبرياء أي أمة ومجتمع.
لذلك، سأكون دومًا، مع اعتبار كل ثراء، لأي عامل في مؤسسة غير ربحية، أو أيٍّ من مؤسسات الخدمة العامة، كناتج، لحيل الإثراء غير المشروع، كأحد أسوأ أشكال الفساد على الإطلاق، كونه يلوث أحد أهم قطاعات الخدمة العامة، الرامية لتحسين حياة الفئات الضعيفة، وهو مجال يُفترض بكل من ينخرط فيه، الامتثال الكامل لمبادئ النزاهة والشفافية، وأن يتمتع بقدر مضاعف من الحساسية الضامنة للامتثال التام، لتدابير مكافحة الفساد، بل وأبعد من ذلك، المبادرة بمسؤولية الإسهام الفعّال في تطوير آليات المساءلة والمحاسبة الرادعة لكافة أشكال الفساد والإثراء غير المشروع، الفردي والمؤسسي، داخل البُنى المؤسسية لجهات النفع العام، بآلياتها وسياساتها وإجراءاتها وهياكلها، ومن ذلك، تصميم آليات للتدقيق في الذمة المالية للعاملات والعاملين فيها، وعلى رأسهم قيادات تلك المؤسسات، وهي التزامات تمثل بمجموعها، بعضًا من شروط الاستدامة لأي مؤسسة نفع عام.
ويجب ألّا تتوقف ولاية آليات التدقيق والمحاسبة عند علامات الإثراء غير المشروع المباشرة، كمؤشر دال على الفساد في أي مؤسسة نفع عام، بل يتعداه إلى العديد من العلامات الدالة على وجود أشكال متعددة من الفساد وسوء الإدارة، منها، على سبيل المثال: عدم وجود إدارة للعمليات المالية طبقًا لسياسات ولوائح حاكمة، ووفق دورة مستندية خاضعة للتدقيق الداخلي المصاحب أولًا، وللتدقيق الخارجي المستقل ثانيًا، وثالثًا لأشكال إضافية من آليات وإجراءات التقييم والتدقيق، للتحقق الدوري من سلامة العمليات، وجدواها، ونزاهتها، وشفافيتها، وخلوها من عمليات الاختلاس وحالات تضارب المصالح، وامتثالها التام لأفضل المعايير والمبادئ.
إنّ مجال عمل مؤسسات المجتمع المدني بمختلف تخصصاتها، هو الاختبار الفعلي لكفاءة ونزاهة وجدارة الأجيال الجديدة، غير الملوثة كما يُفترض، حيث يتعين عليهم، إنجاز تجارب نموذجية في مهنيتها وكفاءتها ونزاهتها، في بُناها المؤسسية الممتثلة للحوكمة ومبادئ الإدارة الرشيدة والمساءلة الداخلية والتدقيق المالي الداخلي، والتدقيق المالي الخارجي، طبقًا لأفضل المعايير والممارسات، وبقدر أهمية أنشطة المؤسسات غير الربحية وعملياتها، وأهمية جودة وأثر تدخلاتها لصالح قطاعات عريضة من الناس، تكتسب ذات القدر من الأهمية، درجة سلامة ونزاهة ودقة وشفافية عملياتها المالية والإدارية.
يجب مباشرة حُزمة متوازية ومتزامنة من المعالجات للتشوهات البنيوية في المجال العام لنشاط وعمليات هذه المؤسسات، في إطار رؤية واضحة، غايتها الأساسية، خلق مؤسسات مجتمع مدني، مستقلة، ونزيهة، محوكمة، وقوية، فاعلة، وكفؤة، ومتخصصة.
تأسيسًا على كل ما سبق، فإنّ استدعاء مؤشرات عمل المئات من المؤسسات غير الربحية خلال السنوات العشر الماضية، والتي شاركت في إدارة موارد مالية ضخمة مُنحت لتنفيذ أنشطة متعددة، نُفّذت تحت إدارة أجيال جديدة من اليمنيات واليمنيين، كتجربة جديرة بالتوقف على تفاصيلها، وإخضاعها للدراسة والتحليل والتقييم والتدقيق، ابتداءً من حجم تلك الموارد، وجودة الأنشطة المُنفذة، والأثر المُحقق لصالح الفئات المُستهدفة من برامجها وعملياتها، والتطور المؤسسي للأوعية التي استقبلتها وأدارتها كجهات نفع عام، وحال العاملات والعاملين فيها وقادتها، وحال الذمة المالية لهم، ووضع سياساتها ولوائحها وهياكلها وبُناها، وحال دوراتها المستندية، وعمليات التدقيق الداخلي، وعمليات التدقيق الخارجي، ونقاط القوة التي اكتسبتها في مختلف جوانب عملها، ونقاط الضعف التي لازمت مسيرتها، وانتهاء بجاهزيتها المؤسسية والبنيوية لأدوار أكثر فاعلية في المستقبل القريب.
ومع الإدراك لكل الأدوار الإيجابية والخلاقة التي تصدت لها منظمات المجتمع المدني في اليمن بمختلف تخصصاتها، خلال سنوات الحرب، يجب في الوقت ذاته، مباشرة حُزمة متوازية ومتزامنة من المعالجات للتشوهات البنيوية في المجال العام لنشاط وعمليات هذه المؤسسات، في إطار رؤية واضحة، غايتها الأساسية، خلق مؤسسات مجتمع مدني، مستقلة، ونزيهة، محوكمة، وقوية، فاعلة، وكفؤة، ومتخصصة، كمكون أساسي، بتلك المضامين والمحددات، من مكونات المجتمع الحديث، القوي والمتطلع والحالم.