صاحبت ثورة فبراير في اليمن إصدارات عدة لأغانٍ وأناشيد ثورية، لكن أكثر ما لامس الساحات كانت تلك الآتية من زمن آخر؛ تحديدًا أناشيد أيوب. فالأطفال العائدون من الساحات كانوا يترنمون بها، بينما لم تحقق الإصدارات المواكبة للثورة ذلك الزخم. ومع أن تناول حدثًا ثوريًّا يثير الكثير من الحساسية، لطبيعة الأحمال حوله تلك المتعارضة بين التقديس والتجريم. وطالما كان للثورات بريقًا يوتوبيًّا يطغى على الواقع، بينما الأغاني الثورية تروي عن روح الثورة دون أي زينة، وإن اتخذت أيضًا طابعًا خطابيًّا أو أعطت الشعار أولوية على حساب الفن.
قبل سنوات سألني زميل كان يريد نشر مناظرة مختزلة عن التأثير الذي تتركه الثورات على الفن، وبينما أشرت إلى جوانب معظمها سلبية، تحدث آخر عن مساهمته الإيجابية في ازدهار الفنون. هل ازدهرت الفنون الأوروبية على سبيل المثال مقارنة بما كانت عليه بعد الثورة الفرنسية. ومع أن الرومانتيكية لم تكن مجرد تعبير عن إرهاصات ثورة سياسية، إنما أيضًا كانت تعبيرًا عن ثورة بورجوازية وتحول طبقي. وما فعلته تلك الثورة أنها وسعت المشاركة الشعبية في الفن، واستبدلت الموسيقى طموحها الأوروبي بتعبيرات قومية. غير أن الجانب الإيجابي في الثورة هو في مساهمة البورجوازية بتحرير الفن من سيطرة الطبقة الارستقراطية.
فرضت علينا اليوتوبيا الثورية تصورات محدودة، مثل أن الثورة تساهم في ازدهار الفن، تلعب الثورات على الفن، وتهتم به، لكن من أجل السيطرة عليه
وبدلًا من تبعية الفنان للبلاط أو المعبد، وقيود ذائقة تلك الطبقة، أصبح فنه خاضعًا لذائقة فئات شعبية أوسع، وبالتالي تحول إبداعه إلى سلعة. وتغيرت الصورة الطبقية للفنان، إذ أتاحت رسملة الفن بمداخيل كبيرة على الفنانين ذائعي الصيت، وغيرت قاعدة عمله من خدمة فئة اجتماعية إلى مساحة أوسع من عامة الشعب. مع هذا لم تكن المدرسة الرومانتيكية أفضل من الموسيقى في العهود السابقة للثورة الفرنسية. وإذا استثنينا أعمال بيتهوفن وشوبرت وبعض أوبرات فيردي وفاجنر، كانت الموسيقى تعيش خارج العصر الذهبي للفن الأوروبي. وهذا أيضًا ينعكس على الفن، ففي القرن التاسع عشر اتبعت بعض أعمال ديلاكروا حسًّا استشراقيًّا، وبالقياس لأجساد روبنز الفتية والملتوية المأخوذة بالزخرف الباروكي، ستأتي أجساد ديلاكروا باهتة. ولم تكن الألوان المُشرقة لدى فان جوخ في مسحة انطباعية قادرة على مضاهاة بريق مواطنه فيرمير. وباستثناء الرواية التي كانت بطابعها فنًّا برجوازيًّا لا يميل للزركشة أو الاعتناء اللفظي، فإنها عاشت بعض ملامح تطورها. لكنها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في روسيا كانت ما تزال تخضع لظروف إقطاعية.
تثير لنا رواية "الآلهة عطشى" للفرنسي آناتول فرانس، الجانب الأسود من الثورة الفرنسية، كيف صفقت الجماهير لخطاب روبسبير حين ألقى بخصومه للمقاصل، وعادت لتصفق لمصيره تحت حد المقصلة. ماذا يمكن لنا القول عن اللحظة التي استباحت الثورة البلشفية جميع أفراد أسرة القيصر؛ الأطفال والنساء بجانب القيصر وحاشيته. لكن الفن أيضًا في روسيا لم تحقق له الثورة ازدهارًا، أتذكر أني غيرت قناعتي حول العلاقة بين الثورات والفنون، حين قرأت رواية سوفيتية "كيف سقينا الفولاذ"، كانت التجسيد الأبرز لمفهوم الواقعية الاشتراكية، أو الالتزام الثوري. يحلل الفرنسي رولان بارت خطاب الواقعية الاشتراكية باعتباره صورة أخرى من برجوازية صغيرة. ذلك أيضًا ما كانت عليه الموسيقى في العهد السوفيتي، محاكاة أكثر غنائية للرومانتيكية. وكان إيجور سترافنسكي استثناءً، فهو لم يعد إلى روسيا بعد الثورة، ومثلت موسيقاه أحد الأصوات الأكثر معارضة للرومانتيكية في القرن العشرين.
مع هذا، اتبعت تلك التحولات في الأساليب أنماطًا تدل على نشوء طبقات جديدة، وتغيير عام، إضافة إلى ثورية في الأساليب الفنية. فالمدرسة الرومانتيكية عبرت، عن طفح بالقوالب الموسيقية الراسخة، تحطيم الشكل واتبعت تصويرًا إيحائيًّا لمضامين مُتخيلة، لكنها شرودًا في العواطف، تقدس الهارمونية اللحنية. أصبحت الفنون بدورها تعبيرًا عن حماسة الانفعال بعد أن كانت ميزانًا للأشكال، ولا يعني أنها لم تكن تبيح للعاطفة أو الشعور مساحة، لكن بميزان.
فرضت علينا اليوتوبيا الثورية تصورات محدودة، مثل أن الثورة تساهم في ازدهار الفن. تلعب الثورات على الفن، وتهتم به، لكن من أجل السيطرة عليه. تثير قائمة أوباما عن أفضل الأفلام مثلًا، خطابًا سياسيًّا، الاهتمام بمضامين محددة، مثلًا الأقليات، لكن الفنون لا تبلي حسنًا حين يكون هاجسها الالتزام برسالة. فكل ما هو خطابي أو مباشر يفسد ما هو إبداع. ماذا قالت لنا أغاني الثورة في فبراير، أو حتى ما قالته في نسخ الربيع العربي. في مصر مثلًا استعادت الثورة أغاني عبدالحليم حافظ، الثورية. وكوني أنتمي لأسرة ناصرية، كان تصوري أن الغناء الثوري تجسيدٌ للإبداع الأكثر رقيًّا. لكن هناك بعض الأغاني الثورية الجميلة، لولا ما فيها من إنشاد حماسي، يصبح الكورال المحموم فيها عملية متسارعة بتحويل الغناء إلى شكل من الهتاف.
لكن ماذا يمكننا القول عن أغاني الشيخ إمام، فمن حيث الخطاب واللحن لا يمكن أن ترقى للأغنية الرسمية، وإن عبرت عن تمردها واتكأت على ثيمات لحنية حدية وهاتفة، ومُباشرة تشبه رداء المجاميع الشعبية، وأصواتهم. مع هذا أيضًا لم تكن هناك أغنية في ساحات الربيع العربي، وفي ثورة فبراير، جاءت الأغاني بنسق كان نوعًا من الخلط بين النشيد الإسلامي الذي تشكل لدى فرق الإنشاد التابعة لتيار الإصلاح. ثم جاء نشيدٌ آخر من الجبال، محملًا بروح قبلية وأيديولوجية المذهب، يتم ترديدها بالزامل وأحيانًا بصوت يشبه أناشيد حزب الله اللبناني، أي بدلالته الشيعية. كانت الساحات التي قامت من روح الشعب، تعاني من عدم التجانس، بينما كانت الأصوات الأكثر تقليدية تتربص بالثورة. واستطاعت منصاته ترويج الأغاني الوطنية، مع هذا ظلت ساحات التغيير تُردد أناشيد المرشدي والآنسي وأيوب.
وظهرت أغانٍ تتحدث عن الزبادي وأيضًا عن اللحمة والبيضة، وتستعيد تلك الهتافات عن التغيير ثيمة "ارحل" لكنها لم تصنع حتمًا أي فن. وبموازاة ذلك، ظهر مغنون يرتدون الجينز، ويحملون الجيتار، بصورة لا تشبه مظهر الأضرعي بالمطلق. غير أن أغانيهم الريجيتيم البلوز لم يكن محكومًا بجودة الصوت أو العزف أو حتى اللحن. واقتصر حضور البعض على مساحات محدودة. وبينما اتخذت الرسوم شكلًا مباشرًا حتى أن بعضها وضع صورة الجندي والعلم مثل كتاب مدرسي للأطفال، كانت الأناشيد كذلك. ربما كانت أغنية أمين حاميم "يمانيون" أكثر احترافية، لكنها على مقام الراست كانت مزيجًا من الغناء الشعبي والنشيد الإسلامي.
وبينما اتبعت بعض الأغاني ثيمة محددة، تبدأ بلحن يشبه مطلع النشيد الوطني للجمهورية اليمنية. وعبر فوهة المدفع أخذت جماعة أنصار الله "الحوثي" تتمدد، وحلت الزوامل مكان تلك الأغاني التي لم تخرج عن الساحات، وأحيانًا لم تتجاوز منصات تيار سياسي بعينه. بينما كان الارتكاز الشعبي يستعيد الأغاني الوطنية القديمة، تلك الأغاني التي نعرفها بلون سبتمبر وأكتوبر. ربما انحسار ثورة فبراير والارتداد عنها جعل نشيدها غير قادر على الصمود، لكن انتشار الزامل وحضوره اليوم، كان تجسيدًا لصورة إحيائية، التهمت ثورة فبراير، وكات ستلتهمه أيضًا بصورة الآخر. فالشعارات الباحثة عن دولة مدنية حديثة تجسدها العدالة والمواطنة، كانت تُضمر في مستويين الخلافة أو العدالة. لعل مقولة فوكو عن روح الثورة الإيرانية تستعيد زخمها في يوتوبيا الدم والشهيد.
كان فشل الغناء الثوري، خطابيًّا من جانب آخر، فلم تعبر كلماته عن شعار الثورة السلمية، بينما اتبع خطاب الزامل تلك الألفاظ الأشد قسوة وعنفًا، بغرض أن تكون نشيدًا وظيفيًّا للحرب. وربما كان الهتاف ساذجًا، تلك الأصوات التي صفقت تمجيدًا لروبسبير، ثم عادت وصفقت لموته تحت المقصلة. ما عنيته أن الثورة ليست بالضرورة كما تقوله، تجسيدًا للكمال، فهناك جانبًا أسود منها، وآخر هزلي، وآخر مشرق. وفي ثورة فبراير لم يكن في الجانب المشرق أي غناء أو شعر أو موسيقى، كان فقط صوتًا مزلزلًا لنظام ساد وبغى. مع هذا، لم يرقَ أي نشيد صاحب ثورة فبراير، رغم ما يستمده من روح الجماهير والشعب، بأغنية ضحلة تمجد صالح "عهدًا يا علي عبدالله" للثلاثي الكوكباني، فالأخيرة مسترسلة بلحنها البسيط وراقصة، بينما ساد النشيد الإسلامي بطابعه المدرسي والطفولي، وحماسته، على الألفة التلقائية للغناء خارج الثورة.