قبيحة هي الحرب، إلا أنّها تبدو أكثر قبحًا عندما لا تراعي مصالح المواطنين الأبرياء، الذين لا تربطهم أية صلة بها، وتصبح مجردة من أخلاقياتها، عندما تتحول إلى سلوك انتقامي يتعمد الإضرار بمصالح المواطنين العزّل، الذين باتوا يعيشون كغرباء في مناطقهم.
كل جندي أو محارب، يمتلك من وجهة نظره قضية، يقاتل من أجلها، إلّا أنّ هذه القضية تتجرّد من أهميتها وتفقد قيمتها، حين تتحول إلى وسيلة أو أداة يمارس من خلالها التسلط والعبث بأرزاق المواطنين الذين يأملون صون حقوقهم وحفظ كرامتهم.
في هذا التقرير، سنتطرق لصورة تعكس واقع حال عشرات المزارعين في مناطق متفرقة من محافظة الضالع، ممّن يتعرضون بين الحين والآخر، للظلم والاضطهاد من قبل أطراف الصراع، فيما يتعلق بممتلكاتهم وحقولهم الزراعية، التي تعدّ بالنسبة لهم مصدر دخل أساسيّ يُعتمد عليه في توفير سُبل المعيشة ومتطلبات الحياة.
أودية الموت
في منتصف العام 2019، توسعت رقعة الصراع في محافظة الضالع، وتحوّلت عدة مناطق جغرافية إلى مناطق عسكرية قتالية، تدور فيها مواجهات مسلحة بين الأطراف المتصارعة، والأشدّ من ذلك أنّ هذه المواجهات تركّزت على مساحات واسعة تشكّل في مجملها أودية زراعية كانت إلى ما قبل الحرب تمثّل مصدرَ دخلٍ أساسيّ لأصحابها.
فمنذ سنوات قليلة ماضية، وخلال فترة الحرب، أصبحت أودية زراعية عدة مهجورة، بعد أن توقفت الزراعة فيها، لوقوعها على خط التماس، وأصبح الوصول إليها من قبل المزارعين يشكّل خطرًا كبيرًا على حياتهم، وفي كثير من الأحيان تكون تكلفة الوصول إليها إمّا القتل أو الإصابة، إذ يوجد العشرات من أبناء المنطقة ممّن فقدوا حياتهم وهم إما في طريقهم إلى أوديتهم أو يمارسون أعمالهم اليومية وسط حقولهم الزراعية.
عقاب جماعي
تحوُّل مناطق زراعية واسعة، في الضالع، إلى مساحات مهجورة يابسة، بفعل الحرب، حيث تصحّرت عددٌ من الحقول الزراعية، وأصبحت يابسة كليًّا لعدم قدرة أصحابها على الوصول إليها، خشية تعرضهم للاستهداف والقنص؛ نتج عن ذلك الإهمال يبَاس مساحات واسعة من أشجار القات التي تزخر بزراعتها.
وعلى الرغم من حجم المعاناة التي أثقلت كاهل المزارعين، جراء تعرض حقولهم لليباس بسبب وقوعها على خط المواجهات، وما نتج عن ذلك من تدهور في الجانب الاقتصادي، ومواجهة المزارعين ظروفًا معيشية غاية في الصعوبة، فإنّ هذا لم يكن كافيًا ليشفع لهم من سلوك الانتقام، الذي تمارسه أطراف النزاع، وفي مقدمتها جماعة أنصارالله (الحوثيين) التي قامت بإحراق الحقول الزراعية، والقضاء على مصدر دخل أساسي يعتمد عليه الأهالي في توفير متطلبات المعيشة لأسرهم وأطفالهم.
فمنذ ثلاث سنوات، يقوم مسلحو الجماعة بإحراق مزارع المواطنين الواقعة ضمن دائرة المواجهات المسلحة، وتحديدًا في مناطق شمال وغرب مديرية قعطبة، آخرها ما حدث في شهر مارس/ آذار من العام الماضي، عندما أحرق مسلحون حوثيون عددًا من الحقول الزراعية في "وادي صولان" بمنطقة مريس شمالي الضالع، أسفر ذلك عن تدمير أغلب المساحة المزروعة في المنطقة.
يقول المواطن ناصر أنعم (اسم مستعار): "في شهر مارس من العام الماضي، فوجئنا بتصاعد كثيف لأعمدة الدخان من وادي صولان، تبيّن لاحقًا أنّ مسلحي جماعة الحوثي المتمركزين على تخوم شمال منطقة مريس، قد أحرقوا عددًا من حقول القات الزراعية التي أصبحت أشجارها يابسة بعد مضي ثلاثة أعوام دون ريّ هذه الحقول بالماء أو الاهتمام بها، بسبب صعوبة الوصول إليها من قبل مُلّاكها؛ لكون هذه الحقول تقع ضمن دائرة المواجهات المسلحة".
وأضاف: "أغلب الحقول الزراعية التي تعرّضت للإحراق في المرة الأخيرة تتبع آل الهادي، والبعض منها تتبع آل الحميدي، وكذلك آل الصهبان، وجميعها تقع في وادي صولان الذي تعطلت فيه عملية الزراعة منذ ثلاثة أعوام، بسبب وقوع الوادي في نطاق المواجهات المسلحة"، مشيرًا إلى أنّ هذه هي المرة الثانية التي يقوم الحوثيّون بإحراق المزارع في ذات الوادي.
وأشار إلى أنّ إحراق حقول القات نجم عنه خسائر كبيرة، ومن ذلك إتلاف كليّ للأشجار؛ الأمر الذي قد يتطلب حرث الأرض وإعادة زراعتها من جديد، وهذا يكلف أصحابها الكثير من الجهد والمال، بالإضافة إلى الأموال التي حُرم منها المزارعون، لو أنهم باعوا محاصيلهم، في الوقت الذي كانت فيه هذه الحقول تعد مصدر دخل وحيد لهم، يجنون منها عشرات الملايين سنويًّا، قبل أن تتسبب الحرب بحرمانهم منها.
ذاتها عملية إحراق الحقول الزراعية في شمال منطقة مريس، تتكرر بنفس الطريقة من قبل الحوثيين أنفسهم غرب مدينة قعطبة، وتحديدًا في منطقة الفاخر وعزلة بلاد اليوبي، إذ تعرضت العديد من حقول القات لعمليات إحراق متكررة، حيث لم يكد يمرّ عام منذ 2019، دون أن يقوم الحوثيون بإحراق عددٍ من الحقول الزراعية، بطريقة لا يمكن تفسيرها سوى أنّها عقاب جماعي وسلوك انتقامي.
حقول مستباحة
الاعتداء على ممتلكات المزارعين في مناطق شمال الضالع، ليست سمة خاصة بجماعة أنصارالله (الحوثيين) فقط، إذ تحدث بين الحين والآخر أعمالٌ مشابهة، وإن لم تكن بالإحراق، تُنفذ على أيدي جنود تابعين لقوات الحكومة المعترف بها دوليًّا وقوات الحزام الأمني و(المقاومة الجنوبية) في المناطق الخاضعة لسيطرتها في المحافظة.
ويتم مشاهدة بعض الجنود المحسوبين على هذه القوات، وهم يقتحمون حقول القات ويقومون بقطاف أغصانه والعبث بمحاصيله، ويحدث هذا الاعتداء في الغالب دون موافقة أصحاب الحقول، العاجزين أصلًا عن حماية حقولهم أو منع هؤلاء الجنود من اقتحامها والعبث بها، وذلك كما حدث لمرات عديدة في وادي حبان، وأودية أخرى مجاورة تقع في منطقة الفاخر غرب مدينة قعطبة.
(تعاون نشر مع مواطنة)