صدرت، مؤخرًا، رواية "زواج فرحان"، للكاتب اليمنيّ بسام شمس الدين، عن دار "إي كُتب" البريطانية في لندن؛ وهي الرواية الثامنة في إصداراته، والثانية له خلال هذا العام بعد رواية "نهاية رجل غاضب" الصادرة عن دار نشر محلية. وتمثل رواية "زواج فرحان" على صعيد البناء السردي مرحلة متطورة في تجربة بسام الذي يثابر على تطوير أسلوبه من رواية إلى أخرى، لكنه، يتساهل في تجويد الخطاب الذي يشوبه، أحيانًا، هفوات منطقية وأخطاء معلوماتية غير متوقعة، بما فيها إقحامه لبعض الأحداث دون هدف درامي؛ وهو أمر لا يقلل من القيمة الفنية لتجربته السردية.
الرواية عمل سردي بقدر ما يشتغل على المشاعر والقيم الإنسانية هو يحاور العقل والمنطق أيضًا؛ وبالتالي لا بد أن تأتي أحداثها منسجمة ومقنعة، كما يجب أن يكون استحضارها لهدف تكتمل معه الحبكة، ويرتفع من خلالها منسوب الخطاب. وهنا يتوجب على أي كاتب عرض روايته قبل نشرها على مَن يرى أهمية قراءاتهم المسبقة، بما يمكن معها معالجة أي قصور قبل النشر.
بدا بسام متميزًا، وهو يصعد بالسرد متوهجًا على طول مسار الرواية؛ وهو أمر يحسب له كساردٍ متمكن.
لكن في بعض أحداث هذه الرواية؛ لم يكن المنطق حاضرًا في صوغ سيرورتها، بما فيها أحداث اعتبرها الراوي محورية في السرد؛ فاستحضار العضلة الذكورية الكبيرة كجزء من قصة وشخصية بطل الرواية (فرحان) لم يكن له ما يبرره؛ إذ تنتهي الرواية، ولا يتجلى أي هدف عالجه من خلال ذلك الاستحضار؛ مما يبدو معه ذلك الاستحضار مفتعلًا، مما ترك فجوة ضمن فجوات كثيرة في فضاء الرواية، إذ كانت هناك حكايات تحضر وتتوقف دون معرفة فحواها، كقصة القطة التي في منزل وضحى بنت النمس، مثلًا، إذ لم يتضح أي هدف من استحضارها، في الأساس، ضمن السياق الدرامي لسيرورة الأحداث، كما أن الكاتب تركها ولم يغلقها، كغيرها من السرديات التي بقيت مفتوحة ضمن هذا العمل.
البناء
على صعيد البناء السردي جاءت الرواية معتمدة على تصاعد الحدث الدرامي؛ فبدأت من حكاية "أبكر" والد فرحان في قبيلة بني سعد، ومعاناته من تهميش اجتماعي كونه لا ينتمي لعشيرة القبيلة، بينما يحتفظ أبكر حسب الرواية بوثائق تُثبت انتماءه لسلالة السلطان غزوان الخولاني، وهو قائد شجاع أسهم في مقارعة الأتراك خلال احتلالهم لتلك المنطقة في اليمن؛ وتلك المنطقة سبق لغزوان حكمها عنوة قبل غزو الأتراك لليمن، واستمر حكمه، وفق قصة أبكر، حتى تآمر عليه بعض أفراد قبيلة بني سعد ممن كانوا يعملون خدامًا في قصره، فوشوا به لدى الأتراك حتى حاصروه في مخبئه. لكن هذه القصة التي ظلت تُلازم أبكر لم ينهِها الكاتب؛ لنعرف هل كانت صحيحة أم ادعاء، كما كان يتهمه أفراد قبيلة بني سعد. خلال الرواية يقع فرحان بن أبكر في حب ابنة النمس كبير قبيلة بني سعد، وتعالج الرواية مشكلة زواجهما في ظل ما يفرضه المجتمع من تقاليد لا قيمة لها، والتي استمر السارد في الاشتغال عليها في معظم صفحات الرواية إلى أن تزوجا.
تجلّى الحدث الدرامي متواترًا، ولا يشعر معه القارئ بهدوء؛ ولهذا تظل القراءة مستمرة استجابة لسرد كان متميزًا.
ثمّة ضبابية أحاطت بزمن ومكان الرواية؛ إلا أنه يتضح من خلال التمعُّن في السرد أن المكان في ضواحي منطقة يريم وسط اليمن، كمكان اشتغل عليه الراوي في أكثر من رواية، باعتباره قريبًا من مسقط رأسه. وعلى اعتبار أن الرواية تعالج مشكلة اجتماعية يمنيّة، فعلى الأقل -زمنيًّا- لم تتضح، بشكل مباشر، ملامح المرحلة التاريخية التي توقف عندها؛ إلا أن ما يظهر في بعض الإشارات، كبدء شق الطرق للسيارات يوحي بأن الأحداث وقعت في الريف خلال ستينيات أو سبعينيات القرن العشرين الماضي.
سخرت الرواية من كثيرٍ من التقاليد، وكأن سيرورة أحداثها التي لم تسر في دوائر مكتملة تعبّر عن اقتناع الكاتب أن ما يشهده الواقع الاجتماعي في بلاده ليس مقنعًا إنسانيًّا؛ وبالتالي من غير الطبيعي أن تسير أحداثه في دوائر مكتملة
جدير بالتنويه إلى أن توظيف الكاتب لشخصية "أبكر" كحكّاء ماهر كان توظيفًا ذكيًّا، إذ حضرت من خلاله قصصٌ عززت من القيمة السردية للرواية، كما رفعت الستار عن كثير من هموم المجتمع في آن.
الخطاب
على صعيد الخطاب السردي؛ حاول الكاتب معالجة قضايا كالتهميش الاجتماعي، وما يترتب عليه من معاناة، وما يمارسه عِلية القوم بحق بسطاء الناس، علاوة على تأثير الماضي على الحاضر في كيفية تعاطي المجتمع مع الواقع. كما توقفت الرواية على ما تعانيه النساء من استضعاف يجعلهن يدفعن ثمنًا باهظًا في مجتمع متخلف. تمثل الرواية نقدًا واضحًا ومكثفًا لحياة المجتمع في علاقته بالماضي والسلطة والمرأة؛ هذه العناصر التي تختزل إشكالية ثقافية أعاقت المجتمع اليمني عن قطع خطوات حقيقية للأمام، ويمكن من خلالها قراءة أبعاد واقع التخلف الذي يعاني منه هذا المجتمع.
أسقط الكاتب في خطاب الرواية المقابلات الموضوعية، وتحديدًا خلال توقفه عند بعض القضايا، بما فيها قضية التهميش؛ ففي الوقت نفسه الذي عالج فيه الخطاب مشكلة أبكر وعائلته كضحايا للتهميش الاجتماعي في المجتمع اليمنيّ، التي ما زالت مستمرة بوجوه مختلفة، وقع أبكر نفسه في ممارسة التهميش من خلال الحديث عن كونه ينتمي لسلالة قائد عظيم قارع الأتراك، وأن أفراد قبيلة بني سعد، وفق ادعائه، كانوا يعملون خدامًا في قصر جده، وهو هنا مارس التهميش من خلال قصة تتهم مَن يضطهده بأنهم في الحقيقة كانوا خدمًا لجده. كما تعامل، هنا، مع خِدمة الناس باعتبارها مهنة غير مقدرة، وهو هنا يرد على التهميش بتهميش آخر. مما نفهمه، هنا، أن مشكلة المجتمع أعمق بكثير مما نراه؛ أو هكذا أراد أن يقول السارد.
خلال تتبع أحداث الرواية، تتجلى قراءات مختلفة، لكنها قراءات صغيرة في دوائر غير مكتملة، ولا تشي بحقيقة واضحة، مما يقود إلى أسئلة عديدة، ولعل الكاتب أراد إثارة تلك الأسئلة. وربما أراد، أيضًا، منح القارئ فرصة للململة ما أراد قوله من خلال تلك القراءات المتعددة لما حدث، وربما ترك الكاتب الأمر مفتوحًا على كل شيء كون الواقع بلا منطق أساسًا، لكن لماذا ترك السارد أحداثًا وقصصًا صغيرة مفتوحة أيضًا ولم يغلقها، وهل يغيب المنطق عن الواقع! أسئلة تتشظى عند كل وقفة؛ فثمة سؤال هنا وآخر هناك تنفتح معها الرواية على قراءات لا تنتهي.
لقد سخرت الرواية من كثيرٍ من التقاليد، وكأن سيرورة أحداثها التي لم تسر في دوائر مكتملة تعبّر عن اقتناع الكاتب أن ما يشهده الواقع الاجتماعي في بلاده ليس مقنعًا إنسانيًّا؛ وبالتالي من غير الطبيعي أن تسير أحداثه في دوائر مكتملة، وهنا يتشظى السؤال إلى أسئلة عديدة تنبت في كل زاوية من زوايا الرواية؛ وكأن الكاتب أراد ذلك؛ فالرواية ليس بالضرورة أن تكون جوابًا؛ فأحيانًا قد تكون هي السؤال عن مآل مجتمعه، الذي ما زال أسيرًا لماضيه القريب والبعيد؛ فالماضي ما زال يطلُّ متحكّمًا بالحاضر، بما فيها تلك التقاليد البالية التي يفترض أن المجتمع قد تجاوزها، وما زالت تفرض حضورها؛ ما يجعلنا نسأل: أين نحن؟ لماذا نعطي الماضي هذه السطوة؟ أين الحاضر مما نعيش؟ وهنا يمكن العودة إلى تمظهرات الذات التي عبّرت عنها شخصية أبكر؛ وهو يحاول أن يندمج مع المجتمع الذي عاش فيه تارة في "بني سعد" وتارة مع المجتمع الذي تنتمي إليه زوجته "بني فليم" دون جدوى، وكذلك حرصه على التماهي مع المواقف وإثبات حضوره من خلال اختلاقه لكثيرٍ من القصص التي تستغيث بالماضي. وتعكس تلك التمظهرات ما يفرضه الواقع على الذات من معاناة، مما يضطرها للتمظهر بعيدًا عن قناعاتها بما يمثل تخففًا من الحمولة الثقيلة للألم الإنساني الذي يفرضه الواقع الاجتماعي المتخلف على أبنائه.