المنفَى؛ حياة يأكلها الشتات

أكثر المصادر إثارة للحزن والتعاسة
عبير اليوسفي
February 11, 2024

المنفَى؛ حياة يأكلها الشتات

أكثر المصادر إثارة للحزن والتعاسة
عبير اليوسفي
February 11, 2024
.

عُرف المنفى منذ الحضور الأول للخليقة حين طُرد آدم من جنته التي مثّلت له الوطن، ومع امتداد الحضارات ظلّ حاضرًا مع مشاعره المضطربة مهما اختلفت مسبباته. قديمًا نُفي الشاعر الروماني (أوفيد) في أواخر عمره لأسباب تبدو مجهولة، ونُفي الأندلسي (ابن رشد) بتهمة الإلحاد، وأرسل إلى "أليُسانة" مدينة اليهود، وصاحِب الكوميديا الإلهية (دانتي) نُفي عن إيطاليا، و(إدوارد غالينو) نُفي قسرًا خارج بلاده على يد النظام العسكري. 

وفي عام 1922، نفت روسيا 160 فيلسوفًا وأديبًا وموسيقارًا بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية (البلشفية)، وأُطلق على القارب الذي نقل أول دفعة منفيين "القارب الفلسفي"، فالمنفى كان المصير المحتوم لكثير من الفلاسفة. اختبر (فرانز فانون) القادم من المارتينيك في فرنسا التي كانت تحتقر البشرة السوداء، مشاعرَ النفي والاختلاف، وتعزّزت تلك المشاعر أثناء عمله في مصحة للأمراض العقلية في الجزائر، حفزت لديه سردية الكتابة، ليخرج عمله "معذبو الأرض"، ويصبح من أهم الأعمال التي تحاكي الاستبداد والنضال وآثار الاستعمار والاغتراب. 

في تعريف (النفي) نجد أنه إقصاء يتعرض له الفرد، واستبعاد تمارسه السلطة الدينية أو السياسية، لفصل المنفي عن مكانه الأول ومجتمع هو أهله، عبر إرساله إلى مكان بعيد يكون فيه غريبًا. كانت مشاعر النفي دافعًا أساسيًّا للكتابة وإيجاد نص سردي للتعبير عن تلك القسوة والاغتراب، مما ساعد في تشكيل "أدب المنفَى" الذي احتضن أحاديث الحروب والاستعمار والديكتاتوريات السياسية. 

امتاز هذا النوع بأن كاتبه يخوض تجربة المنفَى، ولأن (إدوارد غالينو) يرى أن على الكاتب الكشف عن المناطق المستورة، يصبح من واجب "الأدب المنفي" الكشفُ عن كل ما هو فظيع مارسته السلطة، وتصبح التجربة واقعية مرتبطة بهُوية المَنفِيّ ومكانه وبيئته والظروف الاجتماعية المحيطة، وطرح قضايا القمع السياسي والاضطهاد للحريات والآراء المخالفة. 

الهُوية وخلل المنافي

في الرواية العربية، ارتبط المنفَى بسردية الهجرة والاغتراب، فالانتقال من بيئة لأخرى ومحاولة التأقلم وتكوين وطن جديد، عالجته بعضُ الأعمال، ولعل أشهر الأعمال في هذا الجانب، رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال". كما نرى في ظل الحروب الأخيرة، ازدهار أدب المنفَى في الرواية السورية التي تحاكي صراع الإنسان للنجاة من الحرب، ومعاناته بعد خروجه من الوطن، وآثار الانتقال من مجتمع ديكتاتوري مغلق إلى ديمقراطي أكثرَ انفتاحًا. 

في رواية مها حسن "مترو حلَب"، تحدثت عن التشرد في المنافي الذي سببته مآسي الحرب وفشل الثورة، وعن الحياة قبل أن يأكلها الشتات وأزمة الاندماج مع ثقافة مختلفة. تشابهت الروائية مع بطلتها في أنهما تركتا حلب إلى باريس -رغم أن الكاتبة تركت حلب قبل الحرب- وأسمت حالة التيه والتخبط التي يعيشها اللاجئون مع ثقافة الهوية والمكان "خلل المنافي"، فلا هو القادر على تخطي بلده الأصلي، ولا هو القادر على الاندماج مع بلده الجديد.

تقول: "حين يحصل ونجد مكانًا نحمل بلدنا معنا، ونقارن تفاصيل الحياة في كل مكان مع حياتنا السورية، فلا نعرف كيف نعيش؛ ثقيلة هي صفة اللاجئ التي تدمغنا". 

كانت العودة إلى الوطن "التيمة" الأكثر حضورًا في الأعمال المرتبطة بالقضية الفلسطينية وموضوع النكبة، كما في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"؛ حيث يعود فيها الفلسطيني سعيد وزوجته صفية بعد عشرين سنة إلى حيفا بحثًا عن ولدهما الذي فقداه في أحداث 1948، شعور الأسى هي أول المشاعر التي داهمت شخصية الرواية وفتحت صناديق ذاكرته، لتكون العودة مرفقة بخسارة الوطن والابن الضائع، فلا شيء كما كان، حتى المنزل تنكر له. 

المفكر إدوارد سعيد أكثر من تناول إشكاليات النفي والاغتراب والعودة، ورسم ملامح وآثار المنفى على الفرد، وكيف قد يساهم في إنعاش الحركة الثقافية، وفي تعريفه للمنفَى عَدّه من "أكثر المصادر إثارة للحزن والتعاسة"؛ كونه أقسى التجارب الإنسانية التي تفصل المنفِيّ عن مجتمعه وعائلته قسرًا. ظلّ شعور النفي كامنًا في نفس إدوارد منذ خروجه الأول وهو صغير من القدس، لم يستطع التخلص من تلك المشاعر حتى عند عودته لزيارة منزله الأول وهو يحمل الجنسية الأمريكية. يقول في "تمثيلات المثقف": "يعيش المنفِي في حالة توسط فهو غير متوائم مع مكان إقامته الجديد، وليس باستطاعته في الوقت نفسه أن يتخلص من مكانه القديم".

الكتابة من المنفى هي محاولة للإبقاء على حضور الوطن في الذاكرة، والنجاة من العزلة والاضطراب الذي يسببه الاقتلاع القسري من المكان، وإيجاد شعور الفرد بذاته.

المنفى الداخلي والنجاة من العزلة

تعدّدت صور المنفَى من إجباريّ يُفرض على المرء، إلى اختياري كما اختاره (توماس مان) و(جيمس جويس)، و(حنا آرندت) حين اختارت الولايات المتحدة منفى، وقد يكون تعبيرًا عما يكون عليه الوطن، وهو ما يطلق عليه "المنفى الداخلي"؛ كما حدث تحت حكم النازية حين أطلق على المثقفين الألمان "منفيو الداخل"، وهي إشارة إلى المثقفين الذين عاشوا مع التزام الصمت دون اعتراض على المواقف السياسية. 

استعرض محمود درويش صورة المنفى الداخلي وهو يعيش في فلسطين، في قصيدة له: "ولكنني أنا المنفي خلف السور والباب/ خذيني تحت عينيك/ خذيني أينما كنت/ خذيني كيفما كنت/ أردّ إليّ لون الوجه والبدن/ وضوء القلب والعين/ وملح الخبز واللحن/ وطعم الأرض والوطن". تجد في القصيدة تصوير مشاعر ومعاني النفي داخل الوطن المحاصر أمام غزو الاحتلال.

وفي مقالة له عبر فيها عن المنفى:

"منذ طفولتي عشتُ تجربة المنفى في الوطن، وعشت تجربة المنفى الخارجي. وصرت لاجئًا في بلادي وخارجها. وعشت تجربة السجن. السجن أيضًا منفَى. في المنفى الداخلي حاولت أن أحرر نفسي بالكلمات، وفي المنفى الخارجي حاولت أن أحقق عودتي بالكلمات.

صارت الكلمات طريقًا وجسرًا، وربما مكان إقامة. وحين عدت مجازًا اختلط المنفى الخارجي مع المنفى الداخلي، لا لأنه صار جزءًا من تكويني الشعري، بل لأنه كان كذلك واقعيًّا".

لكل امرئ منفاه، كما أنشد الشاعر الصيني (يانغ ليان)، ولأدباء أمريكا اللاتينية منافيهم مع الاضطرابات السياسية التي عاشوها، أسماء شامخة في أدبهم؛ مثل (غابرييل ماركيز) الذي أسس حركة البوم الأمريكي اللاتيني، و(كارلوس فوينتيس)، و(خوليو كورتاثار)، تجد غزارة أعمالهم التي حاكت الصراع السياسي وأزمة الهُوية وغربة المكان، قد نشأت بعيدًا عن أوطانهم. في سيرة التشيلية (إيزابيل الليندي)؛ "بلدي المخترع"، ذكرت السبب الذي دفعها للكتابة: "هي محاولة لاستعادة وطني الضائع، لجمع المشتتين، لبعث الموتى". محاولة الكتابة من المنفَى هي محاولة للإبقاء على حضور الوطن في الذاكرة، والنجاة من العزلة والاضطراب الذي يسببه الاقتلاع القسري من المكان، وإيجاد شعور الفرد بذاته. 

حين سُئل العراقي محسن الرملي، في منفاه الذي اختاره بعد الحكم بإعدام أخيه حسن مُطلك لأسباب سياسية، عما أعطاه المنفى وما أخذه منه، أجاب: "أعطاني الحرية والأمان ومعرفة الآخر المختلف وثقافته عن قرب، وأخذ مني دفء العائلة والأهل والأصدقاء والأحلام الأولى وتصوراتي عن الوطن، كما أخذ من عمري أعوامًا طويلة تمت التضحية بها من أجل ترتيب حياة جديدة".

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English