عصام خليدي، فنان إشكالي (معرفيًّا) -أي غير نمطي- بالمعنى الفني الإبداعي، والمعنى الحياتي والمواقف؛ ففي الجانب الفني الإبداعي هو فنان مختلف عن أقرانه من حيث رؤيته الواعية لطبيعة مجاله (الأغنية) باعتبارها شكلًا من أشكال الثقافة بمعناها العام، فهو يدمج مع الطبيعة الفطرية وموهبة الفنان رؤيةً ثقافية في بنية الأغنية ودور الفنان ومساهمته في نقل رسالة (غنائية) موسيقية ونغمية وطربية تجاورها رسالة ثقافية وسياسية ومجتمعية تؤدّيها الأغنية عبر تكوين الذائقة وتراكم الوعي الوطني والإبداعي، وهما تتكاملان عند نقطة اللحظة التاريخية التي تنشأ فيها.
ولذلك فقد اجتمع فيه صفة الفنان الغنائي والمحلل الموسيقي والكاتب المقتدر. فهو فنان مغاير في طبيعته لمكونات وأغراض وأهداف الواقع الفني الرسمي وأدواته الإعلامية، كما أنه كاتب تعدت كتابته الشأن الغنائي إلى الشأن العام، وبالخصوص في عدن.
عن البدايات والشهرة الفنية
سبقت بدايات الشهرة الفنية بزوغ موهبة الفنان منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، في المسارح المدرسية والعامة. لكن بدايات الفنان عصام خليدي ودخوله عالم الشهرة كانت مع بداية الثمانينيات عندما جمعته صحبة والتقاء فني وثقافي مع الإعلامي العدني الشهير جميل مهدي، المذيع الشهير صاحب المواهب المتعددة، ومنها موهبة الفن الغنائي ومقدم السهرات الغنائية الناجحة في تلفزيون عدن.
كان للأستاذ جميل مهدي دورٌ في التعريف بالفنان الشاب الموهوب ذي الحنجرة المبدعة والثقافة العالية في تحليل مسار الغناء والفن في الوطن محليًّا، وفي واقع وتاريخ الموسيقى العربية عمومًا، وإيمانًا بهذا الشاب الموهوب قدّمه لأساطين الفن، أمثال أحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي، وكان الأخير قد انبهر بموهبة الخليدي وتبنّاه بمنحه أول أغنية من تلحينه (ياما سألت العين)، وتوالت موهبته بالصعود حتى صار أحد فناني جيل ما بعد الرواد وحامل لواء الأغنية الجديدة مع أقرانه من الفنانين الآخرين، واستطاع تجاوزهم بموهبته وثقافته، ولكنه لم يستطع أن يجاريهم أو بعضًا منهم في الظهور المستمر في تسجيل الأغاني والمشاركة في الحفلات الغنائية الرسمية إلا اللمم، لأسباب لا علاقة لها بالفن والغناء، وإنما بالأوضاع عمومًا؛ ومنها أوضاع الساحة الغنائية التي كانت تتردى من سيّئ إلى أسوأ، وظل يكافح أسباب الحرب المعلنة وغير المعلنة عليه، ومحافظًا على مكانته الفنية حتى نقش اسمه بخصوصية وفرادة غنائية، وسمت فنه باعتراف كبار الفنانين (المرشدي، وأحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي، ومحمد سعد عبدالله، وآخرين).
أنا كأديب ومثقف، مؤمن بأن الغناء ثقافة أو جزء ومكون من مكونات الثقافة، وبالتالي جزء من الحضارة، وليس تسلية وتطريبًا على المقيل أو المسرح أو حفلات الزواج. والتقينا أنا وعصام على هذا الموقف وعند هذه الرؤية
وفي مرحلة لاحقة ارتقى إلى مستوى التلحين لأغانيه وأغاني فنانين كبار. فالفنان عصام خليدي لم ينَل حقه في الساحة الغنائية كفنان وملحن ينتمي من حيث الصفات والمعايير لتجارب الرواد الغنائية والموسيقية، والسبب في ذلك تغير المناخ العام في ساحة الغناء المحلي الذي سلك أحد مسلكين؛ إمّا الغناء المسلوق في الحفلات الغنائية الرسمية التي تتبناها الدولة وهي معدودة في الكم ومزاجية ومتسرعة في التقديم والتنفيذ دون شروط فنية معتبرة، وفي الجانب الآخر لجوء معظم الفنانين والفنانات إلى أغاني المقايل والأعراس التي ذبحت الفن الغنائي والمواهب الغنائية بالسطحية والمجانية في ترديد أغاني الماضي وأغاني الشرح والرقص بأسوأ تقديم.
وهذان المسلكان في تقديم الأغنية المسلوقة والهابطة، رفض الفنان الخليدي التعامل معهما رفضًا قاطعًا، وارتضى أن تحبس أغانيه وألحانه في أدراج مكتبه على أن يساير وضعًا غنائيًّا متردّيًا، وبذلك ظل الخليدي محافظًا على نقاوة مشروعه الغنائي رغم ما أصابه من تهميش في التسجيل أو في بثّ أغانيه من الإذاعة والتلفزيون، وعدم المشاركة في حفلات عامة، وظل مقاومًا صلبًا وباقيًا على عهده بتلحين الأغاني وبنشر التحليلات الفنية الغنائية والموسيقية الجادّة لأغاني الفنانين الرواد والقراءات الفنية لواقع الغناء والفنّ منذ خمسينيات القرن الماضي .
واليومَ، وجد الفنان عصام خليدي طريقه لنشر وبثّ أغانيه وألحانه عبر موقع في اليوتيوب كأحد المتنفسات المتاحة للنشر والذيوع
سيرة ذاتية وفنية
- الاسم الرباعي: عصام سعيد سعيد مقبل خليدي
- الميلاد: 6/ 8/ 1960، عدن
- حاصل على دبلوم هندسة ميكانيكا في عام 1979، من كلية التكنولوجيا (المعهد الفني سابقًا) بالمعلا.
- متزوج وأب لثلاثة من الأبناء (بنتان وولد).
- الوظيفة: مستشار نادي ضباط الشرطة، ومشرف الفرقة الفنية الموسيقية في وزارة الداخلية، عدن.
- حاصل على وسام الدولة- الاستقلال الوطني الـ(30 نوفمبر) من الدرجة الأولى (كأحسن صوت) في مهرجان الفنون السابع المقام على خشبة المسرح الوطني في التواهي عام 1987، وذلك تقديرًا لإسهاماته الفنية وقدراته الإبداعية في الأداء الصوتي والإجادة في مختلف الألوان الغنائية واللهجات اليمنية بخصوصية وتفرُّد .
- حاصل على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية والميداليات الذهبية والفضية والدروع التي حصدها في داخل الوطن وخارجه.
- فنان وملحن وشاعر مجيد بدرجة (امتياز) معتمد من إذاعة وتلفزيون عدن، منذ عام 1979.
- له العديد من المشاركات الفنية في كل المناسبات الوطنية وبأعلى مستوياتها منذ بداياته الفنية وبشخصيته المستقلة في عام 1979.
-قام بالإشراف الفني والموسيقي والغنائي في عدد من الفرق الموسيقية الفنية اليمنية، وقدّم لها الأعمال والألحان الفردية والجماعية الإنشادية الناجحة الموثقة في أجهزة الإعلام اليمني.
- تولى قيادة وتأسيس الفرقة الفنية والموسيقية المركزية في جامعة عدن خلال الأعوام من 1997، حتى 2003، واستطاع بخبراته وإمكاناته وجهوده الإبداعية أن يُخرجها من النشاط الصفي التقليدي الداخلي في إطار الجامعة ليدفعها ويقدّمها في الاحتفالات المركزية الوطنية الرسمية في عموم الوطن، وحقّق نجاحًا منقطع النظير، كما أنه اكتشف العديد من المواهب والأصوات الشابة التي قدّم لها ألحانه الخاصة وتبنّاها ورعاها فنيًّا.
- لديه العديد من الكتابات الفنية والقراءات الموسيقية الجادّة الموضوعية العلمية والنقدية والدراسات المنهاجية والبحوث لرواد الغناء اليمني، نشرت في معظم الصحف والمجلات اليمنية والعربية بشكل متواصل ونوعي وهادف.
-تعامل (كملحن) مع غالبية الشعراء اليمنيين الكبار بعطائهم الإبداعي الفني المشهود في ساحة الغناء اليمني، منهم على سبيل المثال الأساتذة: أحمد الجابري، مبارك حسن خليفة، أحمد بومهدي، محمود الحاج، محمد سعد عبدالله، محمد سعيد جرادة، محمد عمر باطويل، علي حيمد، عبدالرحمن السقاف، علي عمر صالح، القرشي عبدالرحيم سلام، وغيرهم.
- كما تعامل وارتبط فنيًّا وإنسانيًّا بمعظم رواد الغناء اليمني من الفنانين العمالقة: محمد سعد عبدالله، محمد مرشد ناجي، أحمد بن أحمد قاسم، محمد عبده زيدي، إسكندر ثابت، وغيرهم.
-دعم وقدم الحان وساند كثير من الأصوات الشابة
-شكّل الفنان عصام خليدي ثنائية فنية متألقة مع الفنان الكبير محمد سعد عبدالله في بداية التسعينيات من القرن الماضي، عبر ثلاثة نصوص غنائية؛ "فل نيسان"، "يا حادي العيس"، "مطالب شعب". كما لحن للفتانة أمل كعدل عدد من الأغاني أهمها "دل الرشا"، و"الله يهديه".
يعتبر من أفضل الفنّانين اليمنيين الذين يجيدون بإتقان وبراعة أداء كل ألوان الغناء اليمني، بالإضافة إلى التلحين بكل إيقاعاته ومفرداته ولهجاته المتعددة المتنوعة .
- حاصل على البطاقة (الذهبية) من جمعية الفنّانين العرب في (بريطانيا) في عام 2003م، بعد مشاركته بنجاح في العديد من الحفلات والندوات البحثية والعلمية في مجال الغناء والموسيقى اليمنية .
- قدّم لفرقة الإنشاد الوطنية الجماعية العديد من الأعمال الوطنية والعاطفية، وتم توثيقها في الإذاعة والتلفزيون، أبرزها أنشودة "العشق اليزني" و"اليمن الخضراء" وغيرها.
-يقوم حاليًّا بتأليف كتاب يؤرخ تاريخ الغناء اليمني الحديث، ويؤكد الدور التنويري الريادي المعرفي التأسيسي الفني الإبداعي في (مدينة عدن) وتأثيراته في عموم اليمن والخليج والجزيرة العربية.
- له العديد من الأعمال العاطفية والوطنية والتراثية الموثقة في تلفزيون عدن، وفي القنوات الفضائية اليمنية .
- شارك في العديد من المحافل والمهرجانات الدولية والعربية؛ منها على سبيل المثال: السعودية، العراق، عمان في مهرجان الخريف، الكويت، لبنان. وتجدر الإشارة إلى أنه قد التقى أثناء مشاركته في الكويت بمسرح (الأندلس) الذي غنّى به الموسيقار فريد الأطرش وكوكب الشرق أم كلثوم، والفنان العدني أحمد قاسم، والتقى أيضًا بالفنان الموسيقار الكبير د. عبدالرب إدريس، الذي تنبّأ له حينها بمستقبل فني رائع، خاصة بعد اللقاء الذي جمع بينهما في منزله بالكويت عام 1990 .
-شارك في مهرجان الأغنية العربية العاشر في الأردن (عمان)، في الفترة من 11 حتى 25 أغسطس/ آب 2002، ونال المركز الثاني تلحينًا وأداء عن أغنيتي (الحلم)، وأنشودة فلسطين (صرخة) التي واكبت مصرع ومقتل الطفل محمد الدّرة .
المشاركات الخارجية
-كان للفنان عصام خليدي العديد من المشاركات الدولية والمهرجانات في تمثيل اليمن، منها: بيونج يانج في كوريا، موسكو، اليونان، اليابان، قبرص، بريطانيا. ونال شهادات وأوسمة رفيعة هامّة في جميع المشاركات المشار إليها أعلاه .
-عضو مؤسس في رابطة أصدقاء جامعة الدول العربية
- قدّم العديد من الأعمال الغنائية الموسيقية (ذات الطابع العربي القومي)، وقام بصياغتها كلمات وألحانًا وغناء متفاعلًا مع ما يدور ويحدث من أحداث مؤلمة ومؤسفة في فلسطين ولبنان والعراق وقدَّم عددًا من الأناشيد، أهمّها: "صرخة"، "لبنان"، "رعاك الله يا بغداد" وغيرها. سجّل من خلالها موقف الفنان الملتزم وقدسية رسالته الفنية وتم توثيقها للإعلام العربي واليمني والمحطات الفضائية .
-استخدم مختلف المقامات العربية والشرقية، إضافة إلى (المقامات الغربية)، ووظّفها موسيقيًّا ونغميًّا في ألحانه، لعل من أبرزها: مقام الراست، البيات، الحجاز، والحجاز كار كورد، الهزام، السيكا، راحة الأرواح، ومقام الحسيني على درجة (لا). أما المقامات الغربية فتعامل مع مقام النهوند، والماجير. وغيرها بشكل متطور علمي منهاجي مدروس ومتفرد .
-عُرِف عن الفنان عصام خليدي قدرته على توظيف وإعادة استخدام واكتشاف وتقديم العديد من الإيقاعات اليمنية بتوزيع موسيقي وثوب ورداء نغمي ومقامي جديد وحلة قشيبة، ومن أبرز الإيقاعات التي استخدمها على سبيل المثال وتألق بتنفيذها الإيقاعاتُ اليمنية التالية: المشجاصي، العدة، الشرح العدني، الشرح البدوي، والإيقاع الشحري، وإيقاع الغية، وإيقاع الدمندم، إضافة للعديد من الإيقاعات اليمنية الأصيلة في (ألحانه) التي قدّمها في مشواره الإبداعي الحافل والزاخر.
-مُنح العديد من التكريمات والشهادات التقديرية داخل الوطن وخارجه، والتي تشيد وتثمن عاليًا أهمية دوره المؤثر في مجال تطوير الغناء والموسيقى اليمنية (والعدنية).
على ضفاف الفن بين الشاعر والفنان
ما الذي جمعني بالفنان المبدع عصام خليدي؟
في أوائل التسعينيات، كان لنا لقاءات أنا وهو ومجموعة من المهتمين بالفنّ والثقافة، أمثال عبدالله باكدادة، وعلي حيمد، والفنان نجيب سعيد ثابت، والرياضي الراحل عوضين، وقبلهم الأستاذان الراحلان أحمد بو مهدي، وأحمد سيف ثابت وغيرهما كثيرون. كانت تدور نقاشات عامة حول الفن الغنائي العدني بالخصوص، والغناء اليمني ثم الغناء العربي.
رؤية الغناء من منظور ثقافي
ومما أثار انتباهي أن عصام خليدي كان ينظر للفن من منظور ثقافي، وهو البعد الذي كنت أنظر إليه، وأتعداه إلى رؤية الفن العدني كحالة ثقافية معبرة عن المجتمع السياسي والاجتماعي.
وابتدأت رؤيتنا في التلاقي عندما نظرنا إلى أنّ الحداثة الغنائية في عدن التي ابتدأت في الخمسينيات وتواصلت في الستينيات، كانت حداثة ثقافية رعاها عمداء الأدب والشعر، كالشاعر محمد عبده غانم، والشاعر لطفي جعفر أمان، وكانت -حسب ما رأينا- مطلبًا ليس ثقافيًّا فحسب، وإنما سياسي لفهم الهُويات الوطنية لمجتمع ما قبل الاستقلال الوطني.
وهذا موضوع ربما يكون لنا وقوف معه في مجال آخر.
بالطبع، اللقاء بيننا كان في الرؤية الثقافية بمفهومها العام لحداثة الغناء في عدن بما سمّي الأغنية العدنية، وندواتها الخاصة في الخمسينيات.
كان عصام خليدي بالنسبة لي قد خرج عن أقرانه من الفنانين كالفنانين المؤدين المطربين، إلى الفنان الواعي لمهنته الغنائية، وكان قارئًا جيدًا لحالة الغناء في اليمن وفي الوطن العربي وما وصلت إليه.
ولذلك جمعتنا، وإياه، لقاءات شخصية منفردة، أنا أحببت الغناء كمتلقٍ متذوق، ذائقة زرعها فـيّ أستاذي الجليل أبوبكر القرشي المغرم حتى نخاعه بالغناء العربي وأساطينه وعلى رأسهم أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، والذي كان يجادلني أنا الطفل في الصف الثاني ابتدائي عن أغنيات العصر الفني الجميل من الفنانين العظماء أم كلثوم إلى كارم محمود إلى محمد فوزي، وقبلهم جميعًا موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وفي قليل من الحديث عن سيد درويش.
من الأستاذ القرشي، تربت ذائقتي الغنائية كمستمع .
عندما علم الصديق عصام في حواراتنا الخاصة هذه الخاصية التذوقية للغناء لديّ، دلق عليَّ ماء تجربته قبل الاحترافية، قبل امتهان الغناء، كان عصام حافظًا لكل أغاني عبدالوهاب ومعظم أغاني محمد فوزي، وقائمة طويلة من الغناء العربي وقبله الغناء اليمني، وصار بالنسبة لي مكتبة غنائية بشرية أستمتع بسماع مقتطفات منها في كل مرة نلتقي فيها ونتحاور حول الغناء، وكان أكثر حفظًا لأغاني القصائد الفصحى.
ما كان يميز الفنان خليدي أنّ الرجل لا يحفظ الأغنيات، ومنها الأغنيات العصماء والقصائد عالية الشعرية كالجندول والنهر الخالد.
إنما ميزته الحقيقية أنه كان ينظر إلى الأغنية كنص غنائي قابل للتحليل الغنائي والايقاعي وأيضًا -وهذا ما كان مشتركًا بيننا- رؤية الغناء والمغني ليس كطرب ومطرب، وإنما كعمل ثقافي بامتياز.
لقد كانت ثقافة الخليدي الفنية والغنائية هي ما تزيد إلى ذائقتي الفطرية ثقافة غنائية متخصصة تسمو بي إلى عوالم آسرة من فهم للأغنية وللمغني والموسيقار والملحن وللغناء بكليته كثقافة، أنهل من لسانه الذرب أعذب وأنضج ما سمعت وتلقيت من معلومات.
هناك الكثير من الفنانين العظماء، ولكنهم لا يتعدون حدودهم الحرفية كالغناء والتلحين، وبالكاد فهم فنّ الموسيقى. لكن الخليدي كان يرى أبعد من كل ذلك، إلى الرؤية الثقافية والمجتمعية لحرفة الغناء.
لقد زادت ثقافتي الغنائية كثيرًا على كونها رؤية فطرية للغناء اليمني والعربي والعالمي، رؤية تذوقية، إلى فهم كيفية صناعة الغناء، وربطه بالمجتمع، عامًّا كان أو نخبويًّا. وهنالك الكثير من القصص المرتبطة بعوالم الفنانين والموسيقيين التي كان يرويها وتحمل معانيَ ورؤى وتحليلًا لحالة أو قضية تبدأ غنائية، ولا تنتهي ثقافية أو اجتماعية أو سياسية.
كلُّ ذلك ما جمعني بالفنان عصام: رؤيتي لفن الغناء كحالة ثقافية، فوجدتها من خلال تحليلات ورؤية الخليدي كذلك، وبذلك أصبح لدينا أنّ الأغنية مثلها مثل القصيدة والقصة، والفيلم، والمسرحية، لا تنقص عن أحدها بشيء من القيمة. والطريق إلى هذا الفهم وجدته عيانًا في رؤية وتحليلات الفنان عصام خليدي التي تجلت فيما بعد في رؤى نقدية وتحليلية لفنانين يمنيين وتحليلات لبعض الأغاني، كان لي شرف نشرها على الصفحة الثقافية لصحيفة (14 أكتوبر) عندما كنت رئيسًا للقسم الثقافي والملحق الثقافي في منتصف التسعينيات.
الكثير من معشر الشعراء والأدباء والكتاب الصحفيين وحتى السياسيين، كانوا يلقون السؤال ذاته، ما الذي يجمعك بعصام؛ أنت شاعر وهو فنان قد يلتقيان ويتصادفان على المستوى الإنساني والشخصي، ولكن علاقتكما أبعد من ذلك؟
فعلًا، أنا كأديب ومثقف مؤمن بأنّ الغناء ثقافة أو جزء ومكوّن من مكونات الثقافة؛ وبالتالي جزء من الحضارة وليس تسلية وتطريبًا على المقيل أو المسرح أو حفلات الزواج. والتقينا أنا وعصام على هذا الموقف وعند هذه الرؤية.
الحساسية بين المطرب والفنان
كانت هذه الحساسية عالية عند الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، كان يقول عن نفسه: "أنا لست مطربًا ولا فنّانًا، أنا رجل سياسة وثقافة"، هنا الإنكار كان سببه النظرة الدونية المجتمعية للمغني وللغناء عمومًا، والمرشدي فنّان مثقف لا يريد أن يحصر موهبته الغنائية كواحدة من أدواته الثقافية في التطريب والتسلية.
كان يرى نفسه أكبر من مسلٍّ وراء الميكروفون، ويرى في صوته وألحانه قيمة ثقافية؛ ولذا احترف العمل السياسي وصادقَ في حياته الخاصة كبار السياسيين، ومن أصدقائه الأقربين كان الشاعر محمد سعيد جرادة، وعبدالله فاضل فارع، وسياسيون كبار، أمثال محمد سالم باسندوة.
هذا التعالي والسمو في النظر إلى وظيفة الغناء وأهدافه كان خطًّا مشتركًا، ابتدأه الفنان الكبير المرشدي، وواصله بتفرّده الخاص الفنان عصام خليدي.
بين ريشة العود ورشة اليراع
الخلاف مثلًا بين الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم والفنان محمد مرشد ناجي، أنّ الأول كان مبدعًا ومجدِّدًا وحداثيًّا في الموسيقى والغناء لا يضاهيه أحد من أقرانه، لكنه كان كل هذا الإبداع في مجاله الخاص (الغناء، الموسيقى)، أما المرشدي فكان فنّانًا مثقّفًا يحترف الغناء كما يحترف الكتابة، ابن الوسط الغنائي والموسيقي كما هو ابن الوسط السياسي والثقافي في كل مراحله.
أحمد قاسم ابن حالته الموسيقية والغنائية، وقد لا تجده في حديثه الخاص ما يدل على رؤية ثقافية، ولكنه يصنعها بفنه وغنائه، أما المرشدي فكان يصنع هذه الحالة، وفي قدرته أن يحلل: لِمَ، ومتى، وأين، وكيف، وما خلفيتها. المرشدي صاحب ريشة عود ويراع كتابة. وهذا ما هو عليه عصام خليدي.
لذلك المرشدي كمثقف أصدر كتبه في فنّ الغناء اليمني، وله كتابات ثقافية وأدبية وتاريخية، أما أحمد قاسم فكان موسيقار غنائه وموسيقاه، ولا يتعداها إلى التحليل المكتوب.
كان الخليدي أميل إلى المرشدي في تكوينه الذاتي، وزاده أنه له رؤية نقدية لتحليل النص، والهارموني لأغاني الفنانين الرواد الذين يحلل تكويناتهم ونصوص أغنياتهم الأدبية والموسيقية الهارمونية.
وقد تفرّد عن الجميع بهذه الخاصية بمن فيهم الرواد، أمثال المرشدي، فانتقل بسلاسة إلى مستويين متقابلين كفنان مطرب ومحلل كاتب. وأتمنى أن تجمع كتاباته التحليلية والنقدية في كتابٍ سيكون رافدًا للمكتبة الغنائية والثقافية والتراثية اليمنية.
أتفق أن الفنان الخليدي بحاجة إلى من ينظر إليه كقيمة غنائية تنتمي إلى زمن الفن الجميل كجيل المرشدي وأحمد قاسم والزيدي والعطروش والعزاني وغيرهم، ولكنه مصدوم بواقع مجافٍ للإبداع والفن
الخليدي لا يتمسح بالأدباء والمثقفين لكي يقال عنه مثقف، ولكنه اختار صداقاته معي ومع غيري من المثقفين، لأنه يجد فيهم قاسمًا ثقافيًّا مشتركًا. وهذا ما لم يفطنه العامة أو ترى الواحد منهم يقول: ما الذي يصنعه للدخول في عالم الكتابة والصحافة وهو ليس مجاله، وليتفرغ للغناء فقط وهو مجاله؟! كما يزعم الكثير ويثرثر به الغائبون عن حقيقة مكونات الخليدي ورؤاه ومرجعيات نشأته ومكونات ثقافته وحرفته.
الخليدي جمع بين الفنان المطرب بصوته العذب، والملحن الماهر بموسيقاه وإيقاعاته الخاصة، وإلى ذلك المجال الاحترافي الغنائي، يضع على نفسه مسؤولية ثقافية للتعريف بالفنّ الغنائي والفنانين وتحليل إنتاجهم الغنائي، وتبيان إنجازات كل فنان وموسيقي في تاريخ الغناء. وهو مسؤولية ناتجة عن مكونة النقدي والتحليلي لعالم الموسيقى والغناء.
البعض يعتقد أن الخليدي ترك الغناء والموسيقى، واتجه للكتابة بعد أن أنهى دوره في حرمة الغناء والموسيقى. وهذه نظرة ليست قاصرة بل ظالمة.
فالفنان الخليدي لديه إنتاج غنائي مذاع ومعلن، ولكنه لا يبثّ لأسباب تتعلق باللحظة التاريخية والسياسية التي تعيشها عدن والجنوب، واليمن عمومًا.
كما لديه إنتاج غنائي وموسيقيّ غزير لم يرَ النور، ولم يستطع أن يظهره للناس للأسباب السابقة نفسها.
زمننا الحالي ضد المواهب الإبداعية، فما بالك بضدِّيّته للقامات المبدعة، ولذلك عندما ضاقت على الخليدي وسيلة نشر إبداعه الموسيقي والغنائي، كانت الكتابة وسيلته للتواصل مع الجمهور العام والنخبوي الخاص.
ويخطئ من يقرر أن عصام خليدي فنان ترك مهنته الغنائية والموسيقية واتجه للكتابة الصحفية والثقافية والفنية رغم أن ذلك ما يبدو على السطح.
أخذ الفنان خليدي على عاتقه التعبير عن ذاته، ومنها ذاتيته الغنائية والموسيقية أو الإنسانية والاجتماعية بأشكال متعددة، ومن ضمنها الكتابة التحليلية، وحتى الكتابة العامة التي لا تمت للغناء بصلة.
وربما يكون من اللائق لوم الواقع الغنائي والوسط الموسيقي المجدب في بلادنا أن جعل من الخليدي كمًّا مهملًا في تقديم إبداعاته، ودفعه دفعًا إلى التعبير والتنفيس عبر الكتابة.
أتفق أنّ الفنان الخليدي بحاجة إلى من ينظر إليه كقيمة غنائية تنتمي إلى زمن الفن الجميل كجيل المرشدي وأحمد قاسم والزيدي والعطروش والعزاني وغيرهم، ولكنه مصدوم بواقع مجافٍ للإبداع والفنّ.
إذن، لماذا لا يُظهر الخليدي إنتاجَه الفني؟ سؤال دائمًا ما يطرحه محبو الفنان، فيرد: "أنا لم أتوقف عن التلحين وإنتاج الأغاني، ولكنني توقفت عن بثّ هذا الإنتاج المخبوء حتى لا يظهر مشوهًا". ويعدد الخليدي أسباب عزوفه عن الظهور الفني -كما رواها لي- إلى:
- سياسة السلق الفني التي تتبعها الجهات الحكومية، وخاصة في المناسبات التي تنعدم فيها كل مقومات إنتاج أغنية محترمة، ومنها حفلات المناسبة بأغانٍ معادة.
- عدم وجود فرقة موسيقية متخصصة للإذاعة والتلفزيون لتقوم بتسجيل أغاني الفنانين بصورة لائقة، واعتمادها على ما توفر من الإمكانات، والظهور في الشاشة أمام الميكروفون كما يظهر الفنان في حفلة مقيل.
- عادة الحفلات والمقايل الخاصة التي تقتل الصوت المبدع، والمواهب الواعدة.
- عدم وجود سياسة للدولة، ممثلة بوزارة الثقافة تجاه الرقي بالفن الغنائي وأدواته وآلياته.
- عدم وجود شركات محلية خاصة تنتج الأغاني الناجحة بإمكانات موسيقية متكاملة تُظهر العمل الغنائي في أحسن صورة، لا أن تظهر الأغاني على إيقاع.
- تعمّد بعض الجهات معاداة الفن الحقيقي وجريها وراء الفن الهابط.
- الضعف بل العدم في تلبية الحقوق المادية للفنان ليكمل ضياع الحقوق المعنوية له.
ولذلك لجأ الخليدي إلى الصمت والسكون الغنائي محتفظًا بنوتات أغانيه على الورق، وبروفاته الخاصة على الشريط أو الديسك بالصوت والعود.
الخليدي يتمنى أن تكون وراءه فرقة موسيقية لائقة، وأن يكون هناك توزيع هارموني للأغنية يظهر الجماليات التعبيرية للموسيقى، وأن تظهر الأغنية متكاملة الأركان.
بجملة، يعتبر عصام خليدي أنّ هذا الزمن هو الأردأ في الحياة الفنية المعاصرة، وقدره أن يكون في تلابيب هذا الزمن الفني الرديء الذي يريد أن يغرقه في أوحاله، وهو يحاول التشبث بقشة الأمل في غدٍ لامع.