أصل الحكاية
جلس سعد أمام شاشة التلفاز يشاهد هول الكارثة التي حلّت على –الأخوين اللدودين- تركيا وسوريا. سعد يعرف مِن تجربته ماذا يعني أن يداهم الزلزال قريةً ما. لقد عايش في صباه زلزال ذمار حينها كان صحبة خاله، الذي كان ذاهبًا لوكيل المغتربين ليسأل عن أخبار والده. وهو يشاهد التلفاز، رفع يده بالشكر لله الذي نجّاهما حينها. لقد عايش سعد تجربة زلزال ثانية وكان قد استوى على عوده، إنّه يتذكر تفاصيل أكثر عن زلزال العدين، من ذكراها يأتيه وجه والدته.
زلزال العدين مأساة سعد التي لا تفارقه، يحملها وتحمله. أوجاعها وذكريات الألم الغائرة تسكن أعماق أعماقه. باغته ذلك الوحش الجائع الذي ابتلع في لحظة من الجنون دارَ جدِّه وأهلها، بمن فيهم أمّه آمنة، التي أدمن حبّها وصراخها وضحكها وصفوف اللؤلؤ المنسدلة من ثغرها حين تشرق فيه شموس الابتسامة. ما زال يتذكر كيف تقطّعت به السبل بعدها نتيجة تصدعات الأرض وانتشار الهلع بين الناس. يتذكر جيدًا كيف تنادى الناس من أرجاء البلاد لنجدة أهل العدين، لكن النجدة لم تُعِد له ما فقده. ومرة أخرى يرفع يديه متضرعًا لله بتمتمات الدعاء الخفي.
في المراعي الخضراء التي تنساب في ذاكرته من ينابيع الطفولة الأولى، تتهادى كل أنواع الماشية، حين يدللها بغصن الحور الرفيع قبل أن تخطئ الطريق في منحنيات الجبل وتزل حوافرها سواء السبيل، ثم لا تدركها إلا وقد تناهشتها "الحدادي" الخبيثة ونسور السماء المجنحة، وحتى عصافير القحط. حياة المراعي حافلة بأشياء جميلة وذكريات سوداء.
من أين جاء الجبل؟"؛ سأل الصبي أمّه ذات العشاء بعد أن راضته بحلو حديثها، كان قد تعب يومها من تعرجات ومنزلقات وصخور ونتوء ذلك الجبل، الذي تنام قريته في أحشائه وهي تتوسد صخوره، ويأتي خرير الماء من شقوقه بعذوبة الفردوس.
سعد كان راعيًا، الرعي حرفة كلِّ أطفال البلاد تقريبًا. كانت قريته تفترش مكانًا متوسطًا في جبل وحشي تبرز شماريخه مخيفة "كأنّها رؤوس الشياطين". الآن وقد غزا الشيب مفرقيه، يتذكر صوت أمه الحاني وهي تفسر له جوهر نظرية الزلزال ببساطة شديدة لا تستعصي على الفهم.
حدود مخيلة الكون
يمرّ شريط طفولته في ذاكرته متوازيًا مع ما تعرضه الشاشة من مآسي زلزال اليوم. كان ذلك في زمن سحيق، حين عاد عند الظهيرة من رحلة الرعي خائر القوى يسكنه الخوف من ردّ فعل أمّه عندما تعلّم أنّ آخر نعجة تمتلكها قد ابتلعها الوادي السحيق؛ لأنّها هوت من منحدر شاهق حادّ. كانت أمّه قد علمت من عصفورة النميمة بما حصل للنعجة الشرود، لقد استنتجت مسبقًا بماذا انشغل سعد، لا أحد يعرفك مثل أمك. ولذلك أعدّت له (عجورة)(1) خضراء تليق بالمصاب الجديد. فقط علينا أن نتخيّل كيف قامت (العجورة) بعملها الإبداعي على جسد سعد النحيل، ضربتان كانتا كافيتين لإشباع جوعه والخلود إلى نوم عميق حتى مغيب الشمس.
الكون حينها لا يتجاوز حدود مخيلة سعد الصغيرة. مخيلته لم تتجاوز آخر منحدرات تلك القرية المعلقة بين الجبال الشامخات، تتلألأ بالاخضرار كأنه السندس الملازم لإستبرق الجنة الموعودة.
حينما بدأ يفيق من نوم العلقة الدسمة التي نالها، كان وجه أمّه آمنة يطلّ عليه مخضّبًا بدموعها تجوب خديها وترسم عليها علامات الندم على قساوتها معه. ما زالت آثار (العجورة) متشبّثة بجلده الغضّ.
"سعدي، سعدي". نادت الأم ولدها بصوت متهدج حزين. هكذا كانت تناديه في أغلب الأحيان، آه كم يفتقد سعد لهذا النداء.
من أين جاء الجبل؟
"من أين جاء الجبل؟"؛ سأل الصبي أمّه ذات العشاء بعد أن راضته بحلو حديثها، كان قد تعب يومها من تعرجات ومنزلقات وصخور ونتوء ذلك الجبل الذي تنام قريته في أحشائه وهي تتوسد صخوره، ويأتي خرير الماء من شقوقه بعذوبة الفردوس، أو قُل ربما هي قطرات متسربة من الحوض الذي وُعد به ابن عبدالله.
"لقد نبت الجبل من الوادي"، أجابت الأم.
يضرب تركيا وسوريا زلزال مدمر؛ كيف نفرق بين الكافرين والمؤمنين، كي نعرف على من كان الزلزال عقوبة ولمن كان ابتلاء؟!
"مَن أكبر: ثورنا "زهر" وإلا ثور الأرض؟!"، سأل الولد أمه وهو منبهر من المفاجآت التي تدسّها في سمعه. هو لا يتذكر ملامح أمه حين سمعت سؤاله، لكنها ظلّت مبتسمة.
لكنّ سعدًا علم اليوم فقط أنّ نظرية الثور هذه نظرية عالمية، أي إنّ هناك شعوبًا تحتفظ ذاكرتها الوطنية بنفس الأسطورة التي سمعها من أمّه عن كيفية اهتزاز الأرض.
حينما يتعب الثور
حكمتك يا رب. قال سعد في قلبه: "الأرض على قرن ثور، وحينما يتعب الثور تهتز الأرض، أحيانًا يكون الثور متعبًا جدًّا فيكون اهتزازها متناسبًا مع ذلك التعب، لأنّه حينما ينقل الأرض من قرن إلى آخر وهو في حال من التعب، فإنّه يقوم بذلك بصورة عنيفة، وربما شديدة العنف، ولا يعلم بالطبع نتيجة تصرفه. هذا ثور بهيمة لا يعلم! وهو ليس مؤاخذ عليه.
مأزق توظيف التأويل
تعجب سعد: هكذا، الزلزال عقوبة حينًا، وابتلاء حينًا آخر. يعاقب الله الكافرين بالزلازل، ويبتلي المؤمنين. لكن الزلازل تحدث باستمرار، بعضها لا نشعر بها. تكون على أعماق بعيدة في جوف الأرض والبحار والمحيطات، وربما تحدث في القطبين. عندما تحدث بعيدًا حيث لا يعلم بها أحد، ماذا تكون حينها؟!
يضرب تركيا وسوريا زلزال مدمّر؛ كيف نفرق بين الكافرين والمؤمنين، كي نعرف على من كان الزلزال عقوبة ولمن كان ابتلاء؟!
ما يقارب 45 ألفًا من القتلى ونحتسبهم عند الله شهداء، وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين، وخسائر لا تحصى، انتبه الذين اعتادوا "توظيف التأويل" في كلا الضفتين -للتدليل على أنّهم الموكلون بالدين- أنّهم غير قادرين على رمي خصومهم بالكفر، فالزلزال إنّما يغطّي أرضًا يستبيحها الفريقان... أهو ابتلاء، إِذَن؟!
في سوريا المذبوحة بسواطير القريب قبل البعيد، لا يمكن أن تفرق بين أبي لؤلؤة وبين ابن ملجم. ذهب كل أولئك يحمل بعضهم بعضًا وزر الدمار. ويفصّلون للنّاس صور الدمار: "هذا ليس من فعل الزلزال، هذا من عمل النظام"، "بل من أفعالكم" (ردّ الآخرون). يا للخفة النفسية. أليس في كل ذلك شيء ممّا اقترفت أيديكم؟ بشار ورث نظامًا ديكتاتوريًّا ظالمًا عصيًّا على الإصلاح، لا جدال في ذلك، العالم تحكمه المصالح. لكنكم لم تسلكوا الطريقة الفضلى للصلاح، ليس فيكم أفضلية، كإخوانكم رغم اختلاف وجوهكم فعلتم ما فعلوه في كل مكان؛ في تعز، في مأرب، في أبين، في المكلا، في طرابلس الغرب، وفي تونس ومصر... إسرائيل وحدها لم تتأذَّ!
لماذا تاهت مهنية الإعلام؟ سأل سعد نفسه وهو يتابع التغطية الإعلامية المرئية للكارثة، وأخذه العجب من توهان المهنية. ظهر الإعلام العربي على وجه الخصوص أسيرًا للخصومة مع سوريا الدولة أكثر من انحيازه لإنسانية الموقف الجلل، بدا متسخًا بإرث الخصومة السياسية معيقًا لنجدة الضحايا، وقف فاصلًا بين ناس وناس.
وأنت تتابع عمليات الإنقاذ هناك عبر تلك الرسائل، تشاهد من أولى اللقطات القادمة عبر الأثير، سيناريو الانحياز السياسي المتجاهل للبعد الإنسانيّ لما يحدث. يسعى لتلميع طرف وتقبيح آخر على حساب أرواح الضحايا. لا يمكن أن يغيب الطابع الاستعراضي لعمليات الإنقاذ في الشمال السوري عن أعين المتابعين العاديين، فما بالك بخبراء الإعلام؟!
لا عزاء
الذين سارعوا بشحنات الأسلحة إلى سوريا قبل وأثناء الحرب وفتحوا خزائن الأموال لثوار الغفلة في هذا البلد، بل وشاركوا فعليًّا في الحرب بشعار مساندة الشعب السوري- هم أنفسهم اليوم يحثّون بسطاء الناس على التبرع للمنكوبين. ألم يكن من الأسهل لكم فتح حسابات دعم أعمال التخريب في الدول الأخرى أو حتى بعض بنودها لدعم هؤلاء الضحايا؟ فربما تُكتب لكم بها صدقة جارية حقيقية، فصدقاتكم السابقة تقودكم إلى جهنم، لا محالة!
هوامش: