حقيبتان صغيرتان، وكيس بلاستيك يحوي عددًا من الإصدار الأول من مجموعة قصصية لكل واحد منا. الزمن كان بعد الخامسة والنصف بقليل من بعد عصر أحد أيام الخريف، والمكان كان قاعة اتحاد الأدباء في صنعاء. كانت فعالية يوم الأربعاء في لحظاتها الأخيرة، وغروب الشمس تبقى له بضع دقائق أيضًا. وهو وأنا كنا نجلس بجوار الحقيبتين والكيس البلاستيكي بانتظار نهاية الفعالية.
ومع انتهاء الفعالية، تحركنا باتجاه محطة انتظار سيارات الأجرة المتنقلة بين المدن. حينها كانت كل الإشارات لا تزال خضراء، وبعد أقل من ساعة كانت سيارة الأجرة تتحرك باتجاه مدينة تعز التي وصلناها بعد العاشرة ليلًا بقليل. وتعز التي لا تنام لم تتركنا ننام أيضًا، ومن "استراحة الأخوة" المطلة على مدينة تعز القديمة إلى أزقة "سوق الصميل"، ومن ثَمّ الصعود إلى منزل محمد عبدالوكيل، والعودة إلى أزقة حوض الأشراف. كان المكان أكثر يقظة منا، وكلما فكّرنا بالعودة للفندق لأخذ قليل من الراحة، كان تفصيلٌ ما من المكان يُشعل يقظتنا.
بعد الثالثة فجرًا، كنا نحدّق من شرفة الفندق -بشغف- في الشارع المنحدر للأسفل وفي الشارع المقابل له المتجه للأعلى.
ومع طلوع الضوء، كان ضجيج الشارع يرتفع رويدًا رويدًا؛ خليط من أصوات البشر والسيارات ونداء البائعين، وفي الأفق كان جبل "صَبِر" يتأمل المدينة بهدوء.
كان الوقت قبل الظهيرة، عندما اتجهنا مع (محمد عبدالوكيل) إلى مقر فرع اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في تعز. المقر كان مستأجرًا، ولا يختلف عن المساكن العادية في مدينة تعز، أعطينا نُسخًا من كتابينا لمن كان موجودًا في مقر الفرع، واقترحوا تنظيم فعالية احتفائية للمجموعتين القصصيتين. كنا لا نزال منتشيَين بالمكان، وتركنا الاحتفائية لمرة قادمة، خصوصًا أنه كان لدينا رغبة بالصعود إلى جبل "صبر"، وتناوُل طعام الغداء هناك والبقاء هناك حتى المساء.
ونحن نتأمل المدينة وتدرجها بين الارتفاع والانحدار في الأسفل، والضوء يتخلص من سطوعه القوي، كان القرار بالانزلاق إلى البحر، إلى بحر عدن.
ومع غروب الشمس، كانت سيارة الأجرة التي استقليناها تنعطف من مفرق "الحوبان"، باتجاه مدينة عدن.
ومع توقف السيارة في موقف السيارات في "الشيخ عثمان" بعد الثامنة والنصف مساء بقليل، تلفتنا حولنا لنحدد الوجهة القادمة. قرار السفر إلى عدن كان ارتجاليًّا كأحد توابع لحظة "النيرفانا" التي غمرتنا ونحن أعلى جبل "صبر"، فكلانا لا يعرف إلى أين نتجه في عدن، لا نحمل اسم فندق، وليس لدينا عناوين لأحد فيها.
رفيقي كان أكثر تلقائية مني؛ أخرج دفترًا صغيرًا -يسجل عليه أفكاره، وكذلك أرقام هواتف أصدقائه ومعارفه- وبعد أن قلّب صفحات الدفتر استقر على صفحة، ثم أخذ بالبحث عن محل اتصالات هاتفية.
أمسك بسماعة الهاتف وضغط على الأرقام، وبعد ثوانٍ ارتفع صوته: "كيف حالك أستاذ عبدالرحمن، أنا في الشيخ عثمان، في عدن...".
استمرت المحادثة لعدة دقائق، شاركتُ فيها بإلقاء التحية وبعض عبارات. وفي نهاية المكالمة كانت لدينا نقطة استقرار في عدن، وركبنا باص أجرة إلى واجهتنا، وفي بداية ساحة العروض بـ"خور مكسر" أوقفنا الباص، واتجهنا عبر الشارع الفرعي إلى مقر فرع "اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بعدن". في استقبالنا كان مصطفى غيلان، وأخبرنا أن الأستاذ عبدالرحمن عبدالخالق سيأتي بعد قليل.
كانت هناك لوحات للجاوي، والقرشي سلام، وعدد من رموز الاتحاد، والطاولة التي كانت تدار من ورائها فعاليات الاتحاد، تلك الطاولة التي طالما رأيناها في الصور الفوتوغرافية للفعاليات الثقافية التي أقيمت هنا.
ضمن حركة النشر التي تبناها الاتحاد، تم نشر العشرات من الكتب لأدباء من أغلب المناطق اليمنية، وربما كان هناك قليل من التحيز في النشر لأسماء بعينها، لكن التحيز كان لأسباب إبداعية أو إنسانية بحتة، ففكرة الاتحاد الوحدوية كانت قد جذّرت الكثير من الأطر الوحدوية
بعد ما يزيد قليلًا عن ساعتين، كنا (أنا ورفيق السفر) على "ساحل أَبْيَن" نسمع ذلك الهدير الصاخب وسط الفراغ الأسود الهائل، كان الأمر أشبه بحلم، كنا في قمة جبل قبل ساعات والأفق أسفل منا، والآن نحن على البحر والأفق أعلى منا.
وتساءلنا هل نحن هنا فعلًا؟!
في الصباح، كان ياسر عبدالباقي في انتظارنا، والوجهة كانت كالتالي: (المعلا- التواهي- الساحل الذهبي)، والمكوث في النادي الدبلوماسي حتى الظهيرة.
عصرًا، كان مقر الاتحاد في عدن يعج بالشعراء والأدباء؛ أسماء التقينا بهم في صنعاء مع فعاليات اتحاد الأدباء المركزية، أو الانتخابات الدورية لأعضاء المجلس التنفيذي للاتحاد والأمانة العامة، وأسماء قرأنا لهم: عبدالرحمن إبراهيم، شوقي شفيق، مبارك سالمين، ميفع عبدالرحمن، مبارك الخليفة وعمرو الإرياني... وآخرين، سواءً في تلك الجلسة أو في جلسات تكررت عبر السنوات التالية، وكانت فرصة لتوزيع المجموعتين القصصيتين، والاستماع لآراء ونقاشات أدبية وسياسية أيضًا.
مساءً، كنا بمعية دليلنا (ياسر) في شوارع وأزقة "كريتر"، وفي اليوم التالي كنا في "البُرَيقة". وعندما لم نعد قادرين على تحمل واستيعاب المزيد، استقلينا سيارة الأجرة باتجاه صنعاء، مع وعد أكيد بالعودة خلال فترة قريبة، بعد أن نستوعب كل ما حدث لنا في تلك الرحلة.
الإشارات كانت خضراء، ومهّدها لنا مفكرون وأدباء في بداية سبعينيات القرن العشرين؛ التقوا واتفقوا على وضع نقاط استقرار لبعضهم بعضًا، يستطيعون استخدامها عندما يعجز أهلهم عن احتمالهم فيستطيعون العبور إلى الطرف الآخر للاحتماء، وتكون، بالوقت نفسه، بمثابة قناة للتواصل بين الفرقاء في جهتي البلاد، بمعزل عن الحساسيات والمماحكات، ويمكن الحديث هنا أيضًا عن أن أحد أسباب السماح بإنشاء اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين من قبل السلطة في شطري اليمن، هو استغلال هذا الاتحاد في التغلغل في الجزء الآخر ومحاولة التأثير عليه تحت ستار الثقافة والأدب.
وفي أتون كل ذلك، انتظمت شريحة الكتّاب ضمن الإطار الثقافي "اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين"، ومع تداخل الساسة للتأثير على مسيرة الاتحاد -وجعله نقطة أيديولوجية ضمن الصراع؛ أولًا ضمن نظامين سياسيين قبل الوحدة، وثانيًا ضمن صراع الأحزاب الحاكمة بعد الوحدة- كان الناتج الأدبي يحاول التوازن والتخفيف من حدة ذلك التأثير، وهو يتغذى من الفكرة الأصيلة التي تجمع اليمنيين ككيان واحد، ويعمق من الشعور بالوحدة للمنتسبين للاتحاد، وفعلًا في الانتخابات الخاصة بالاتحاد كان الاصطفاف حزبيًّا وليس مناطقيًّا. أيضًا كان للاتحاد موقف في الدفاع عن الثقافة والكتّاب، بحسب الإمكانيات والهامش المتاح له. وضمن حركة النشر التي تبنّاها الاتحاد، تم نشر العشرات من الكتب لأدباء من أغلب المناطق اليمنية، وربما كان هناك قليل من التحيُّز في النشر لأسماء بعينها، لكن التحيز كان لأسباب إبداعية أو إنسانية بحتة، ففكرة الاتحاد الوحدوية كانت قد جذرت الكثير من الأطر الوحدوية. وساهم الاتحاد في بلورة تجارب أدبية، وجدت في الاتحاد حاضنة لها عبر الفعاليات التي كان يقيمها الاتحاد، أو عبر النشر، وقيام عدد من أعضاء الاتحاد المهتمين بجوانب النقد الأدبي بتقييم التجارب الأدبية الجديدة والمخضرمة.
والآن كلما سمعتُ اسم أحد فروع الاتحاد في المدن اليمنية، أتساءل هل كنا هناك فعلًا؟!