في حين أدّى طلبة الثانوية العامة الاختبارات المقررة من وزارة التربية في حكومة صنعاء في شهر مايو المنصرم، ومن ضمنهم طلبة مدارس مديرية سامع، الذين يفترض أن يكونوا قد استمتعوا بأوقات طيبة خلال العطلة الصيفية، وشرعوا في إعداد الخطط للمرحلة القادمة من حياتهم العلمية- كان للحرب رأي آخر، وشاءت أن تقع منطقتهم وسط نارين، وتخضع لسيطرة طرفَي الصراع في اليمن؛ لذلك لا يزال عليهم خوض اختبارات وزارة التربية والتعليم في حكومة عدن التي تجري حاليًّا.
دشّنت وزارة التربية والتعليم في الحكومة المعترف بها دوليًّا، الاختبارات النهائية للثانوية العامة لهذا العام، بدءًا من يوم 30 يونيو/ حزيران، والمقرر انتهاؤها يوم 18 من شهر يوليو/ تموز الجاري، فيما دشنت وزارة التربية والتعليم في حكومة صنعاء العام الدراسي الجديد، يوم 13 يوليو/ تموز الجاري.
هذه الازدواجية وما تخلّفه من أعباء على العملية التعليمية هي أحد انعكاسات الصراع المسلح في اليمن، الذي اندلع في خريف العام 2014، وتصاعَدَ في ربيع 2015، وأدّى إلى انهيار مؤسسات الدولة، ومنها التعليم، الذي شهد أكبر كارثة للعملية التعليمية في تاريخ البلد، حيث توقّفت المئات من المدارس عن أداء خدمتها، وأصبح الملايين من الطلاب يواجهون مستقبلًا مجهولًا.
تقع مديرية سامع في إطار الجزء الجنوبي لمحافظة تعز، وخلال سنوات الحرب بقيت بمنأى ولم تشهد مواجهات وقتالًا فعليًّا داخلها، وعلى الرغم من نجاح الأهالي في تحييد المنطقة، بحيث لا تتبع أيّ طرف من أطراف الصراع، لم يكن بمقدورهم تحييد عملية التعليم فيها؛ ما ضاعف من تعقيداتها، فهي لم تكن في أحسن حالاتها حتى قبل الحرب.
نحو 150 طالبًا وطالبة من الثانوية العامة في مدرسة السلام، بعزلة حوراء- مركز مديرية سامع، ومثلهم في كل مدرسة من مدارس المديرية، يخوضون الاختبارات بشكل مزدوج للعام الدراسي الخامس على التوالي، بعد أن طبعت كل حكومة رقمَ جلوسٍ خاصًّا بها، وأصبح الطالب يحصل على رقمَي جلوس، ما يعني تأديتهم اختبارين وفق نظامين مختلفين؛ الأول يتبع وزارة التربية في صنعاء، ويعتمد نظام النماذج المتعددة، ويخوض الطالب الاختبار من 100 درجة، فضلًا عن أنّ هذا العام اختلف، حيث اعتُمد (80) درجة عن الاختبارات النهائية، و(20) درجة محصلة نصف العام؛ فيما الآخر يتبع وزارة التربية في عدن، ويعتمد نظام النموذج الواحد، يخوض فيه الطالب الاختبار من (50) درجة، و(50) درجة تراكمية لسنوات الثانوية الثلاث.
يعود استمرار الازدواج إلى كون مواعيد الاختبارات الدراسية التي تقرها الحكومتان مختلفة، ما يتيح لبعض الطلاب خوض تجربتين في وقت واحد، ما أطال فترة الدراسة وسبّب لكثير من الطلاب إنهاكًا نفسيًّا وذهنيًّا.
صراع على جثة هامدة
خلال سنوات الحرب الأولى، اجتمع عقلاء ومشايخ المديرية، وبينهم مديرو المدارس، ووقّعوا على اتفاق يقضي بتجنيب المديرية وصول الحرب إليها، من خلال رفض التمترس مع أيّ طرف؛ وهذا هو السبب في وجود نظامين مختلفين للاختبارات، حسب ما يؤكد مدير مكتب التربية في مديرية سامع.
في حديثه لـ"خيوط"، يقول صادق أحمد هائل، المعين من الحكومة المعترف بها، أنّ مكتب التربية في المديرية لا يستطيع منع الازدواج، يقول: "يختلف وضع مديرية سامع عن أي مديرية أخرى، وأي إجراء قد نتخذه تقوم الدنيا علينا؛ لذلك نتغاضى عن القرارات التي تصدرها جماعة الحوثي لعموم مدارس المديرية".
ويعود استمرار الازدواج إلى كون مواعيد الاختبارات الدراسية التي تقرها الحكومتان مختلفة، ما يتيح لبعض الطلاب خوض تجربتين في وقت واحد، ما أطال فترة الدراسة وسبّب لكثير من الطلاب إنهاكًا نفسيًّا وذهنيًّا.
إلى جانب أنّ هناك اختلافًا في نظام احتساب الدرجات، يشير صادق هائل إلى إيجابية نظام احتساب الدرجات التراكمية للثانوية العامة الذي أقرته وزارة التربية والتعليم؛ وذلك لأجل تمييز "الطالب المجتهد عن الطالب المهمل"، وأنّ مكتب التربية بالمديرية يقوم بتنفيذ "توجيهات وزير التربية والتعليم في الحكومة الشرعية".
ويؤكد صادق لـ"خيوط": "إنّ الحكومة الشرعية استطاعت الحد من عملية الغش، وجَعْل الطالب يجدّ ويجتهد في الصف الأول والثاني الثانوي، وعندما يصل إلى الصف الثالث الثانوي يصبح على علم بدرجات معدله، وهذا يصب في مصلحة الطالب على وجه الخصوص، والمصلحة العامة للتعليم، من أجل بناء جيل واعٍ بقيمة التعليم. وإن هذه الإجراءات التي تتخذها الحكومة الشرعية، تجعل كثيرًا من الطلاب الذين يدرسون في المديريات التي تخضع لسيطرة جماعة الحوثي، يتوافدون للاختبارات في مراكز الشرعية".
وفي حين لا تزال وزارة التربية بحكومة صنعاء تعتمد الاختبارات الوزارية للصف التاسع، ألغت تربية حكومة عدن الاختبارات الوزارية للصف التاسع، في مارس/ آذار العام 2019، وقامت باعتماد اختبارات المدرسة باحتساب (50) درجة لكلٍّ من الفصل الدراسي الأول والثاني، فيما يخوض طلاب مدارس المديرية الاختبارين على السواء.
خيار الطلاب الوحيد
بدأت ازدواجية الاختبارات في العام 2018/2019، وكان العام الدراسي الأول منها هو الأسوأ من الأعوام التي تلت، حيث تزامن وقت اختبار مادة القرآن الكريم لكلٍّ من وزارتَي عدن وصنعاء، الأمر الذي جعل الطلبة يشعرون بالإحباط وينقسمون في قرارهم. ففي الوقت الذي كانت تُجرى فيه اختبارات الحكومة المعترف بها في مركز خاص بها بالمديرية، كانت اختبارات حكومة صنعاء تجري في مركز آخر، وكان أمام الطلبة خيار واحد، وهو الذهاب إلى أحد المركزين لأداء الامتحانات.
يصف محمد قائد، وهو طالب مجتهد، لحظة اتخاذ القرار بأنه كان صعبًا للغاية، يقول: "كانت من أصعب اللحظات التي عشتها، فقد خضت حربًا نفسية عصيبة لاتخذ قراري". حسم محمد قراره قبل دقائق من تسليم دفتر الامتحان الخاص بحكومة صنعاء، وفضّل الانسحاب والذهاب لمركز اختبارات الحكومة المعترف بها، يتحدث لـ"خيوط": "أتذكر أنني استيقظت صباح الاختبار ولم أحدّد وجهتي بعد، ومشيت بعد جموع الطلاب إلى مركز اختبارات الحوثيين، وصلت وجلست على مقعدي، وفي غمرة من القلق والحيرة والتردّد، وقبل تسليم نماذج الاختبار بدقائق، اتخذت قراري وذهبت إلى مركز الحكومة".
على الرغم من أنّ خيار خوض الاختبارين أصبح متاحًا في الأعوام التي تلت، وباتت الاختبارات تُجرَى في مركز واحد، فإنّ ذلك خلّف آثارًا نفسية وذهنية على الطلبة. ففي الأعوام التي تلت، كان الطلاب يخوضون اختبارات بعض المواد في نفس الوقت، بسبب التطابق الزمني للاختبارات، ثم أصبحت تُجرى يومًا بيوم؛ يوم نموذج صنعاء، ويوم نموذج عدن، أما عن عدم تطابق جدول الاختبارين، فمأساة أخرى.
في زاوية أخرى، يرى رامي منير، أحد طلاب مدرسة السلام، أنّ الازدواجية ليس لها تأثير على الطالب، وأنها فرصة جيدة، حيث "يصبح أمام الطالب فرصتان، إن لم يوفق في إحداهما، تبقى لديه فرصة للتعويض، ويتخرج بشهادتين يستطيع أن يتقدم بهما في أيّ جهة، سواء في صنعاء أو في عدن للدراسة الجامعية"؛ بحسب تعبيره. أما ما يُقلق رامي بصفته طالبًا مجتهدًا يستعد لخوض غمار آخر صفوف الدراسة، هو تفشي ظاهرة الغش، حيث إنّ "الطالب أصبح لا يُبدي للمذاكرة أي اهتمام، بل همُّه الأكبر هو كيف يجد شخصًا موثوقًا بمقدوره أن يعتمد عليه في حل امتحانه"، وهذه سمة موحدة في كلا النظامين.
يشعر أهالي المنطقة بالقلق على مستقبل أبنائهم، في ظل هذه الازدواجية وتردي العملية التعليمية، ويتحدث أحد الآباء لـ"خيوط": "منذ بداية الحرب، لم ألاحظ تحسن بمستوى التعليم عند أبنائي الثلاثة، حيث إنّهم يفتقدون أبسط أساسيات التعليم، ولم تعُد الدراسة تعنيهم، رغم محاولاتي توعيتهم بأهميتها".
تعاني مدارس سامع من الكثافة الطلابية المرتفعة، وعدم توفر البيئة التعليمية الملائمة، ونقص الكادر التربوي وغياب وتواضع مستحقاته، وضعف المنهج، وغياب المرافق الصحية، وارتفاع نسبة التسرب في جميع الصفوف الدراسية، وعدم توفير الكتاب المدرسي.
كشفان بنتائج الامتحانات
لم تقتصر ازدواجية الاختبارات على الثانوية العامة والصف التاسع فقط، بل امتدت لتشمل كافة صفوف المراحل الدراسية الأساسية والثانوية، ابتداءً من العام الفائت، بعد أن قررت الحكومة المعترف بها دوليًّا تأخير موعد الدراسة عن حكومة صنعاء بنحو شهر، وعلى مدى الأعوام السابقة كان يتم رفع كشفَين بنتائج الامتحانات للجهتين، ما ضاعف من تعقيدات العملية التعليمية، وجعل إدارة المدارس في حالة حرجة جدًّا.
عند الحديث عن مساوئ الازدواجية، يمكن أخذ مدرسة "السلام" في عزلة "حوراء" نموذجًا، حيث تستوعب نحو 1800 طالب وطالبة، التي تمثل أكبر كثافة طلابية من بين مدارس المديرية البالغ عددها 35 مدرسة عامة وأساسية، في ظلّ افتقارها لأبسط مقومات التعليم المدرسي.
عبدالباري أحمد يوسف، مدير مدرسة السلام، يقول لـ"خيوط": "إن العملية التعليمية برمتها تمرّ بمنعطف خطير؛ بسبب إدخالها في الصراع القائم، وكان الأَولى بطرفَي الصراع تجنّب قطاع التعليم، حتى تؤدّي العملية التعليمية رسالتها العلمية والتربوية على أكمل وجه، بدون مناكفات وشعارات سياسية"، ويضيف: "على الأطراف السياسية المتصارعة أن تعمل على تحسين وتطوير العملية التعليمية والتربوية برمتها، وتحسين المستوى المعيشي للكادر التعليمي ما يكفي احتياجاته المعيشية في ظل الغلاء وتفاقم الأزمة الاقتصادية، والعمل على توفير المناهج الدراسية لجميع الطلاب، وتوفير مصادر التعليم المختلفة لكافة المدارس، وإقامة الدورات التأهيلية للكادر التعليمي".
ويستطرد الأستاذ عبدالباري: "إدارة المدرسة تقف عاجزة لا حول لها ولا قوة، ولا تستطيع أن تفعل شيئًا حيال هذه الازدواجية والتغيرات التي طالت العملية التعليمية في المديرية، لا سيما بعد أن وقّعنا جميعًا وثيقة تقر على حياد المديرية، وبذلك نكون قد تعاملنا وفق ما تقتضيه المصلحة، وبما من شأنه أن يعزّز الأمن والاستقرار للمديرية وأبنائها".
مدارس عرضة للفشل
ليست ازدواجية الاختبارات المشكلةَ الوحيدة في مدارس المديرية، فمشهد اكتظاظ الطلاب في الفصول صورٌ معتادٌ عليها بشكل يوميّ، وعامًا بعد آخر في مدرسة السلام بعزلة "حوراء"، وهذا أمر جعل من الاستيقاظ صباحًا والذهاب للمدرسة بالنسبة للأستاذ عز الدين مؤرقًا، ويتطلب جهدًا كبيرًا.
عز الدين هو أحد المتطوعين للتدريس إلى جوار أربعة آخرين كانوا ذات يوم طلابًا مجتهدين في المدرسة، وعندما لم يجدوا وظيفة حكومية بعد نيلهم الشهادة الجامعية، عادوا لتغطية نقص كادر مدرستهم.
يُدرِّس عز الدين مادة الرياضيات للمرحلة الثانوية، يقول لـ"خيوط": "أشعر بضغوطات كبيرة ولا أستطيع ضبط الحصة وإيصال المعلومة لجميع الطلاب". وهذا حال كثير من أساتذة المدرسة، وكذلك الطلاب في مدرسة السلام، الذين يشتكون من عدم استيعابهم الدروس.
لا يختلف حال بقية مدارس المديرية، فهي تعاني جميعها من الكثافة الطلابية المرتفعة، وعدم توفر البيئة التعليمية الملائمة، وتدني مستوى التحصيل العلمي، ونقص الكادر التربوي وغياب وتواضع مستحقاته في ظلّ غلاء المعيشة والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وضعف المنهج، وغياب المرافق الصحية، وارتفاع نسبة التسرب في جميع الصفوف الدراسية، وعدم توفير الكتاب المدرسي. وأصبح الطلاب "يتوارثون" الكتب المهترئة، طالبًا بعد آخر، والمئات من طلاب هذه المدارس يفترشون الأرض لعدم وجود مقاعد لهم، وكثير منها بحاجة إلى عمليات ترميم وتدخل لوضع حدٍّ لانهيارها، إضافة إلى أنّ جميع المدارس في المنطقة لم تعُد تحتفي بالمناسبات الوطنية وأعياد الثورات اليمنية مثل بقية مدراس المحافظة الواقعة في ظل سيطرة الحكومة الشرعية، وباتت تكتفي بالعطل الصامتة، ورفع السلام الجمهوري المهترئ، وبإذاعة موجزة تقتصر على القرآن، وما ليس له قيمة.