(2-2)
في الجزء الثاني والأخير من الحوار مع الدكتور صالح أبوبكر بن الشّيخ أبوبكر، سنتوقف عند العديد من المحطات في حياته منها استقراره في عدن منتصف السبعينيات وعمله محاضرًا في كلية التربية العليا ومركز البحوث التربوية، ومشاركته في إعداد كتب التاريخ اليمني الموحد لطلاب المدارس الابتدائية، ثم عمله في برامج صندوق الأمم المتحدة للسكان داخل وخارج اليمن لسنوات طويلة، وأخيرًا محطة عمله في رئاسة فريق حضرموت لدراسة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية.
الاستقرار والعمل في عدن
حال وصول الدكتور/ صالح مدينة عدن أواخر العام 1975، قدّم أوراقه للعملِ في كلية التربية العليا (التي تأسست في العام 1970)، ولم تكن قد تأسست حينها جامعة عدن بمختلف كلياتها. ومن جميل القدر أنه في نفس العام لوصوله عدن وتحديدًا في منتصف العام 1975 تأسس (مركز البحوث التربوية). وهو صرح ومنارة علمية وتعليمية كانت لها أهميةٌ كبيرةٌ في (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) آنذاك، وله شخصيته الاعتبارية كمؤسسةٍ علميةٍ تربويةٍ تُعنى بشؤون التعليم العام المختلفة؛ لما كان يقدّمه من خدماتٍ كبيرةٍ لتطوير العمليتين التربوية والتعليمية. من تلك المهام التي كان يضطلع بها: إعداد وتجربة المناهج الجديدة للتعليم العام، وتقييمها على ضوء تطبيقها في الممارسة التعليمية التربوية في المدارس، وضمان تطويرها باستمرار بما يتواكب مع المتطلبات المتنامية للتطور الاجتماعي للبلاد والمنجزات المعاصرة للعلم والثقافة، ووضع الخطط الخاصة بتأليف الكتب المدرسية والمراشد العلمية والوسائل التعليمية المساعدة للمعلم، وبالمجمل كل ما تطلبه وزارة التربية والتعليم من أبحاثٍ ودراساتٍ للارتكازِ على نتائجها في اتخاذ قراراتِ اللوائحِ والنُّظمِ، بما يكفل التطوير الدائم لمضامين وطرق وأساليب تنظيم التربية والتعليم في البلاد.
وكان مؤسس المركز يومها ومديره العام المرحوم الدكتور/ حسن أحمد السّلامي، الذي درس هو الآخر في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وتولى في 1980-1985، وزيرًا للتربية والتعليم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقًا، وبحكم معرفته وعلاقته المسبقة بالدكتور صالح فقد سرَّهُ وجوده في عدن كثيرًا، وطلبه من فوره للعمل في المركز؛ كون المركز في مرحلة التأسيس، وفي حاجةٍ ملحةٍ وشديدةٍ للكوادر والخبرات.
وعليه فقد كان أولَ عملٍ للدكتور صالح في اليمن، في مركز البحوث التربوية بعدن، بوظيفة (رئيس قسم العلوم الاجتماعية)، ويومًا بعد آخر تطوّر وضعه الوظيفي ليُصبح السكرتير العلمي للمركز. وفي الوقت عينه، كان يعملُ كمحاضرٍ في كلية التربية العليا لمادة التربية المقارنة (وهي فرعٌ من فروع التّربيةِ يُعنى بالدّراسات التحليلية للأنظِمة التّعليمية المختلِفة في العالم؛ بهدف الوصول إلى تطوير نظم التعليم وتعديلها بما يتماشى مع الظروف المحلية للبلاد). ثم انتسب بعدها بفترةٍ كمدرسٍ في قسم اللغة الألمانية ومعهد اللغات بجامعة عدن؛ ليقدّمَ فيهما للطُّلابِ حصصًا في اللغة الألمانية.
أول كتاب مشترك في (التاريخ) لمدارس الشطرين
يروي الدكتور/ صالح حدثًا هامًّا وبارزًا في مسيرة عمله في مركز البحوث التربوية، كان هو شخصيًّا شاهدًا وفاعلًا فيه. محور هذا الحدث هو توافق رئيسَي شطري اليمن؛ سالم رُبيّع علي (رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقًا)، وإبراهيم محمَّد الحَمدِي (رئيس الجمهورية العربية اليمنية سابقًا)، اللذَينِ تمكّنا بالفعل من الانتقال بالعلاقة بين الشّطرين من مرحلة التّوتر والخلافات إلى مرحلة العلاقات الودية والخطوات الوحدوية والتنسيق المشترك في الموقف من مختلف القضايا، وصولًا إلى البَدء بصياغة مشاريع وحدوية حقيقية ذات أرضيةٍ مشتركةٍ.
ولدى حضور كلا الرئيسين أعمال المؤتمر الخامس لوزراء خارجية الدول الإسلامية، والمنعقد في مدينة كوالالمبور بماليزيا في العام 1974، تفاهما بشكلٍ وديٍّ وخاصٍّ، واتفقا على العمل على مشروعٍ يساهم في إيجاد مدخل حقيقي للوحدة بين الشّطرين، تكون بدايته مع الطُّلابِ، ومن المدارس، أيّ من خلالِ وزارة التربية والتعليم، وبالفعل قررا توحيد كتاب التاريخ المدرسي بين الشّطرين.
ومن أجل ذلك شُكِّلت لجنةٌ مشتركةٌ بين الشطرين لبدء الإعداد والتأليف للكتاب. فكانت لجنة الشّطر الجنوبي برئاسة الدكتور/ حسن السّلامي- مدير مركز البحوث التربوية يومها، وعضوية كلٍّ من: الدكتور/ صالح أبوبكر- الذي كان سكرتيرًا علميًّا للجنة، والأستاذ/ عيدروس بلفقيه-أستاذ الجغرافيا بجامعة عدن، والأستاذة/ إنصاف محمّد عبدالله- الباحثة في قسم العلوم الاجتماعية بمركز البحوث التربوية، بالإضافة إلى المؤرخ والكاتب/ سلطان ناجي، والمؤرخ/ عبدالله محيرز. كما شُكِّلت لجنة الشّطر الشّمالي من كلٍّ من: القاضيين/ عبدالله الشماحي، وزيد بن علي عنان، والأستاذ/ علي العنسي، والدكتور والباحث وعالم الآثار/ يوسف محمد عبدالله -أستاذ التاريخ بجامعة صنعاء، والأستاذ الدكتور/ سيد مصطفى سالم- أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة صنعاء، (وهو مصري الجنسيّة، ومن أوائل الأساتذة المعارين لجامعة صنعاء من جامعة عين شمس).
الصّدمة الشديدة التي وقعت قبل وصول الكتابين من المطبعة، كانت باغتيال الرئيس/ إبراهيم الحمدي الرّجل الذي كانَ يحملُ رفقةَ سالم رُبيّع علي رؤيةً عميقةً لقضيةٍ محوريةٍ كانتا شُغلهُما الشّاغِل وهي وحدة اليمن، حيثُ كان الرئيس/ الحمدي يتحدث في لقاءٍ صحفيٍّ منشورٍ قبل اغتياله بخمسةَ عشرَ يومًا عن الخطوات المهمة، ومن ضمنها: توحيد المنهج الدراسي، وتحديدًا كتاب التاريخ.
وعلى الفور بدأت اللجنة عملها، وقامت بزياراتٍ متبادلةٍ إلى الشمال والجنوب، والعكس. وخلُصت إلى أن تكون بداية هذا المشروع بتأليف كتابين اثنين؛ الأول للصف الخامس الابتدائي يتناول التاريخ اليمني القديم، والثاني للصف السادس الابتدائي يتناول التاريخ اليمني الوسيط. وبالفعل بدَؤُوا في العمل والتّنفيذ، وسط سؤالٍ واهتمامٍ دائمينِ واطلاعٍ عن كَثبٍ وقُربٍ ومتابعةٍ ملحوظةٍ من كلا الرئيسين عن التّقدم المحرز في العمل حتّى أُنجِز.
ودون أدنى شكٍّ فقد كان لهذا المشروع معارضين وَمعارضة شديدة في كلا الشطرين، لا سيما في ظِلِّ مرحلةٍ مفصليّةٍ وحسّاسةٍ من العلاقات بينهما. حيث كانت تُخيّم في الشّطر الشّمالي أجواءٌ متردّدةٌ من تبعاتِ وانعكاسات هذا المشروع المستقبلية؛ بسبب الرّيبة من طبيعة النظام (الاشتراكي اليساري) وتوجهاته في الجنوب. وتُخيّم أجواءٌ أخرى من الشكوك والاتهامات المتبادلة في مسارات العلاقة بالشّمال في الشّطر الجنوبي، والواضِح بأنه لم تكن الرغبة والحماسة راسختين في كلا الشّطرين تجاه هذا المشروع.
ولكن اللجنة واصلت عملها، ومن خلفها القيادة السّياسية في كلا الشّطرين تتابع باستمرارٍ، وتقدّم دعمًا وتسهيلًا لا محدودًا، حتّى جاءت مرحلة طباعة الكتابين، والتي تمّت في مدينة بيروت بِلُبنان، وعلى نفقة الجمهورية العربية اليمنية سابقًا، وكُلّف بالإنجاز والإشراف فنيًّا على هذه المرحلة الدكتورين/ صالح أبوبكر (عن الجنوب)، ويوسف محمّد عبدالله (عن الشّمال).
إلّا أنّ الصّدمةَ الشديدةَ التي وقعت قبل وصول الكتابين من المطبعة، وهي اغتيال الرئيس/ إبراهيم الحمدي في 11 أكتوبر 1977. الرّجل الذي كانَ يحملُ رفقةَ سالم رُبيّع علي رؤيةً عميقةً لقضيةٍ محوريةٍ كانتا شُغلهُما الشّاغِل وهي وحدة اليمن. حيثُ كان الرئيس/ الحمدي يتحدث في لقاءٍ صحفيٍّ منشورٍ قبل اغتياله بخمسةَ عشرَ يومًا عن الخطوات المهمة التي بدأت نحو الوحدة بين الشّطرين، والتي توافق عليها مع نظيره رُبيّع، ومن ضمنها: توحيد المنهج الدراسي، وتحديدًا كتاب التاريخ، وأنّ الكتاب باتَ جاهزًا، وهو تحت الطباعة.
فكان هذا الحدث له وقعه وتأثيره الكبير، خصوصًا على اللجنة، وهو ما جعلها تعيش حالةً من الإحباط الشديد، والاعتقاد بأن المشروع الذي عمِلوا عليه صباحَ مساء قد مات قبلَ حتّى أن يُولد، وأن مخرجاته قد ذهبت أدراج الرياح. لكنّ أخبارًا سارّة وصلتهم تِباعًا عبر سفارتيهما في بيروت من القيادتين السياسيتين في كلا الشّطرين كانت عكس ذلك تمامًا، ومفادها التّشديد على اللجنة بضرورة الاستمرار والمضي في إنجاز المشروع في أسرعِ ما يُمكِن. وبالفعل وصل الكتابان من بيروت، موقّعٌ في مقدّمِتهما في كل نسخةٍ بعبارةٍ موجهةٍ للتلاميذِ: "أبواكم: إبراهيم الحمدي، وَسالم رُبيّع علي"، ودشن التّدريس بالكتابين خلال العام الدراسي 1978/1979، واستمرَ تدريسهما في مدارس الشّطرين حتّى منتصف الثمانينات تقريبًا.
عودة ثانية إلى ألمانيا؛ للحصول على الماجستير والدكتوراة منها
أسهم وجود اتفاقٍ سابقٍ بين مركز البحوث التربوية بعدن، وبين جمهورية ألمانيا الديمقراطية، الخاص بتوفير منحٍ لبعض الكوادر من المركز للدراسة هناك، على حصول الدكتور صالح على منحةٍ للدراسات العليا، لكِنّها كانت عن بعد (أي الحضور للمناقشة وفق جدول زمني)؛ بسبب حاجة المركز إلى بقاء الباحثين على رأس أعمالهم، حيث يتم قدوم الباحث إلى الجامعة في ألمانيا؛ لمناقشة فصول البحث المقدّم منه، وهو (مشروع تخرجه). وبالفعلِ فقد أكمل الماجستير أولًا، فالدكتوراة في التربية، وعلم النفس ثانيًا، وتحديدًا في العام 1985 من جامعة إرْفُرت Erfurt بجمهورية ألمانيا الديمقراطية.
العمل في الجانب التّنموي
في العام نفسه؛ أي 1985، انتقلَ الدكتور صالح بشكلٍ نهائيٍّ من العمل في مركز البحوث التربوية إلى العمل مديرًا لمشروع (التربية السكانية Population Education)، وهو أصلًا مشروع دوليّ موَّله صندوق الأمم المتحدة للسّكان UNFPA، وأشرفت عليه منظمة الأمم المتحدة للتّربية والعلم والثقافة UNESCO، ونفذته وزارة التربية والتعليم، وبدأ تنفيذه في اليمن تحديدًا في العام 1979.
ويهدف هذا المشروع إلى تكوين قيمٍ ومعارف ومواقف لدى التّلاميذ تساعدهم في التّفاعل وتشكيلِ فهمٍ جيّدٍ بخصوصِ تأثير المشكلات السّكانية المختلفة، ومنها: المواليد، الوفيات، الزواج، الطلاق، الزيادات السكانية غير المنتظمة أو العشوائية، ... وغيرها، على خطط التنمية الاقتصادية الاجتماعية؛ بهدف تنمية السّلوك الصّحيح لبناء الأسرة، والحفاظ على البيئة، والمصادر الطبيعية للبلاد، وتحسين نوعية حياة الفرد من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والصحية والإنجابية؛ تلبيةً لمتطلبات التنمية البشرية المستدامة لمواجهة الفقرِ والبطالة.
وفي العام اللاحق؛ أي العام 1986، انتقلَ الدكتور/ صالح للعمل كموظفٍ دوليٍّ في صندوق الأمم المتحدة للسّكان UNFPA بوظيفةِ نائبِ المُمثِّلِ القُطريِّ Assistant Representative للصندوق في اليمن ومكاتبه الأخرى في الخارج حتّى العام الذي تقاعدَ فيه، وهو العام 2008.
مشروع دراسة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية
تجربة رئاسة الدكتور/ صالح لفريق حضرموت في مشروع: "دراسة ظاهرة الهجرة اليمنية وتأثيراتها المتبادلة خلال القرن العشرين"، والتي موّلها رجل الأعمال الراحل علوان سعيد الشيباني بواسطة مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية بصنعاء- رسخت لديه الكثير من القناعات عنها، أهمّها أنّ هذه الهجرات كانت عبارةً عن ظاهرةٍ جوهريةٍ، باهرةٍ، وفريدةٍ من نوعِها، وأنه لا بدّ من تسجيلها وتوثيقها؛ لما تتمتّع به من دروسٍ وعبرٍ مهمَّة، بالذات تلك الهجرات التي كانت إلى جنوب غرب آسيا والهند وشرق إفريقيا والتي أعطت الكثير والكثير، لكنها لم تأخذ شيئًا من حقّها على الإطلاق، على الرّغم من فرادتها وريادتها.
وفتح المشروع أيضًا لديهِ صفحاتٍ تاريخيّةٍ منسيّةٍ لم تُقدّر ولم يُلتفتُ لها ولم تُعطَ حقّها بشكلٍ كافٍ لأدوارٍ رائدةٍ وبارِزةٍ لعددٍ كبيرٍ من المهاجرين اليمنيين، هذه الأدوار خدمت اليمن كموطنٍ أُمّ، وخدمت أيضًا الأوطان التي هاجروا إليها.
وبالتالي، فإنّ هذا المشروع جعلَ هذه الهجرات مَحَطَّ اهتمامٍ كبيرٍ، عندما حصر كل جهود التّوثيق السابقة للهجرات اليمنية -على قلتها- والتي كانت مبعثرةً هُنا وهُناك، وأصبحت جميعها موثقّةً بشكلٍ علميٍّ منهجيٍّ صحيحٍ، مكّن من رؤية آثارها في واقعنا الذي نعيشه، خصوصًا بعد مقاربة القضايا التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أفرزتها هذه الهجرات في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، وما مثّلته من وصلٍ حضاريٍّ معاصرٍ للمهاجرِ اليمني في بلدان المهجر، وانعكاس إرث الهجرة والاغتراب والشّتات وتأثيراته المختلفة على الداخل الوطني.
تجربة العمل السِّياسي في اليمن خلال العقود الستة الماضية فاشلةً لنُخبٍ متخلّفة ونفعيّة، قدّمت مثالًا بائسًا لأحزابٍ وأنظمةٍ وسياساتٍ وتياراتٍ مختلفة، صُوِّر وخُيّلَ لنا فيما مضى أن لها ثِقلًا سياسيًّا، لكنها مع كامل الأسف أثبتت من خِلالِ الأزمة الحاليّةِ التي تمر بها البلاد باِنطباق وصف الزَّعيم الصيني ماو تسي تونغ عليها تمامًا بأنّها: "نمورٌ من ورقٍ".
لماذا كتاب "كلام عن المكلا وأهلها"؟
احتفت الأوساط الثقافية اليمنية مؤخرًا وخلال هذا العام 2023، بصدورِ كتابٍ للدكتور/ صالح، بعنوانِ: (كلامٌ عن المُكَلّا وأَهلِها) عن دار حضرموت للدراسات والنشر، قدّم فيه سردًا شيّقًا لتاريخَ المدينةِ منذ نشوئها، مستعرضًا جملةَ المتغيّراتِ التي طرأت عليها، والتي يُعزى سبب تأليفه لهذا الكتاب إلى حبه لها باعتبارها مدينته ومسقط رأسه التي يعز عليه أن يراها متعثرة ومتأخرة في نموها الحضاري رغم سبقها في تاريخ المدن اليمنية الحديثة بعد عدن.
فهو إلى جانب تتبّعه الدّقيق لتاريخ المدينة يعرّج على حالاتٍ من تخلّف نمو العقل الجمعي فيها، والمتمثّل في مستوى التّدني السلوكي والبيئي، بمعناه العلمي لا الأخلاقي، الذي وصلت إليه المدينة، على الرّغم من اعتقاد أهلها بأن ما هم فيه هو "عزّ الطلب" في ظلّ حالةٍ من التّخبُّط الواضِح، وعدم الوعي، وفشل السلطة المحلية والدولة، وبل وعدم القدرةِ على مقارنةِ وضعهم الذي يعيشونه بأوضاعِ مجتمعاتٍ أخرى، رُبما نشأت بعدهم بمراحل مُتأَخِّرة.
من أجل هذا جاء تأليفه للكتاب بمثابةِ الصّرخة الموضوعيّة الودودة لأهل المكلا؛ لأنه -كما يقول- لا يريد مجاملتهم، ولذا فقد استندَ في كل ما طرحه في الكتاب إلى الواقع والوقائع وضرب الأمثلةِ، وليس تجنّيًا لا على المدينةِ، ولا على أهلها.
كُتّاب اليوم من الشباب والأكاديميين
أما عن رأيه في كُتَّاب اليومِ من الشّباب وكتاباتِهم فيرى بأن "لديهم شيءٌ من الجُبن، أفرزَ ذلك عدم تعرضهم في الكتابة لقضايا المجتمع". أمّا المجتمع الأكاديمي فيراه هو الآخر بأنه "كسول، غيرُ منتجٍ، ومُنْزوٍ على نفسه، وإن كتبَ كان نتاجهُ ضعيفًا قليلًا، وفي مواضيعَ مكرّرةٍ مستهلكةٍ، لا تمسُّ احتياجات المجتمع وتطلعاته، ولا تنشد التّغيير فيه من خلال الفكر والثقافة والقلم".
تجربة العمل السياسي في اليمن
يرى الدكتور صالح أنّ تجربة العمل السِّياسي في اليمن خلال العقود الستة الماضية بأنها تجربة فاشلة لنُخبٍ متخلّفة ونفعيّة، قدّمت مثالًا بائسًا لأحزابٍ وأنظمةٍ وسياساتٍ وتياراتٍ مختلفة، صُوِّر وخُيّلَ لنا فيما مضى أنّ لها ثِقلًا سياسيًّا، لكنها مع كامل الأسف أثبتت من خِلالِ الأزمة الحاليّةِ التي تمر بها البلاد بانطباق وصف الزَّعيم الصينيّ ماو تسي تونغ عليها تمامًا بأنّها: "نمورٌ من ورقٍ".
ولأجل كلّ هذه المعطيات مجتمعةً فهو يرى بأن مستقبل اليمن في ظل هذه الأوضاع هو "غِشاش، غيرُ قابلٍ للتنبؤِ، على مُستوى كلِّ الأصعدةِ". ويختم الحديث عن هذه الجزئية التي لسوئها -في نظره- لم يطُل كثيرًا في الحديث عنها، قائلًا: "حتّى وإن أردنا التّفاؤل، فإنني لا أرى إطلاقًا أيّ مقدمات أو بوادِرَ للتفاؤل تلوحُ في الأفقِ في الوقت الحالي".
ختامًا:
استعرضنا فيما سبقَ سيرة ومسيرة الكاتب والمثقّف والأكاديمي اليمني البارز الدكتور/ صالح أبوبكر بن الشّيخ أبوبكر، وما فيها من محطاتٍ هامَّةٍ ولافتةٍ، وكيف تشكّل معرفيًّا وثقافيًّا في ظلِّ مسارٍ موازٍ للسّياسة، ولماذا قرر بعدها طوعًا وإلى اليوم الابتعاد عن العمل والحراك السياسي الحزبي؟ رغم أنّ له رؤية وطنية قومية عربية في بناء الأوطان والدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي أساسها العلم والمعرفة والحرية. وتعرّضنا لتجربته الغنيَّة في معظم المجالات التّي خاضَ غِمارها خلال حياته العريضة المؤثرة، فكانت بحقٍّ مسيرةُ مثقّفٍ، بتحولاتها المختلفة، ومحطاتها الرئيسة؛ منها لفهم هذه التجربة الرائدة المحنّكة، ومنها لفهم الحالة الثقافيّة بشكلٍ عام.