تشهد بعض مناطق اليمن حراكًا تنمويًّا واضحًا ذا طابعٍ تعاوني خلال سنوات الحرب، حيث بادر الأهالي وبجهود ذاتية، لإنجاز العديد من المشاريع التي تكثفت في شق وتعبيد الطرقات وإنشاء السدود وترميم المدارس، في صورة أعادت إلى الأذهان تجربة التعاونيات التي شهدتها البلاد خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي.
لمحاولة فهم جذور وعوامل العمل التعاوني في المجتمع اليمني، ومعرفة الظروف التي رافقت تجربة التعاونيات بعد ثورة سبتمبر وعوامل نجاحها ومسار تعثرها والسياسات التي قادت إلى تصفيتها ومناقشة الأدوار التي يعول عليها المجتمع على العمل التعاوني لتجاوز مأزق الحرب، أجرت "خيوط" حوارًا مع صاحب المبادرات والرؤى الوطنية، وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والشباب، في فترة ازدهار التعاونيات منتصف سبعينيات القرن الماضي، وأستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة صنعاء، أ. د. حمود العودي.
قيمٌ أصيلة
انتشرت المبادرات التعاونية خلال سنوات الحرب المتواصلة التي دمرت مقدرات البلد، ما أبرز العوامل التي تقف خلف هذا الانتشار؟ وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة في المستقبل؟
- العمل التعاوني كان يشق الطريق الترابية المرصوفة، ولم يعبد الطريق. أما عن انتشارها، فإن التعاون بين الناس في اليمن هو من القيم الأصيلة في اليمن واليمنيين عبر التاريخ؛ لأنّ البيئة الجغرافية الصعبة لا يمكن التغلب عليها إلا بالتعاون، وبإنشاء الطرق والمدارس والمياه والخدمات الصحية في عهدنا (السبعينيات والثمانينيات) من القرن الماضي، حيث كانت الضرورة ملحة بعد انتهاء الحرب الملكية الجمهورية بانتصار الجمهورية، إلى جانب الرعاية والدعم السياسي من قبل الدولة بتحويل 50% من تحصيل الزكاة في كل المناطق لصالح العمل التعاوني.
كنت وكيلًا لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في فترة الرئيس الحمدي، التي ازدهرت فيها العملية التنموية والتعاونيات، حدثنا عن خصوصية تلك المرحلة.
لقد كان العمل التعاوني على وجه الخصوص وكل المشاريع التنموية بعد الحرب الملكية الجمهورية الشيء المنطقي، حيث كان من الواجب أن تنطلق مشاريع البناء على أنقاض الحرب وانتصار الجمهورية؛ لأنّ الانتصار في البناء أكثر أهمية من الانتصارات في الحرب.
كان للمجتمع اليمني دورٌ بارزٌ في التعاونيات في السبعينيات، أعطنا لمحة عن ديناميكية المجتمع ودوره في تفعيل واستمرار العمل التعاوني، كونها تجربة يمنية خالصة، وما أهم إنجازاتها والمؤسسات التي قامت عليها؟
ديناميكية المجتمع اليمني في العمل التعاوني، تعبير أصيل عن قيم اجتماعية وتاريخية عميقة في حياة وتاريخ هذا المجتمع، في مجالات الزراعة والإنتاج، وحتى في الحرب والمخاطر، أما عن أهم إنجازات العمل التعاوني في تلك الفترة، فيكفي على سبيل المثال لا الحصر، أن قامت بشق أكثر من خمسين ألف كيلو متر من الطرق الفرعية في مختلف المحافظات والمديريات والقرى، وفي أكثر مناطق اليمن وعورة، إضافة إلى تنفيذ أكثر من 30% من خطط التنمية وقتها، وبجهود تصل إلى 90% من التكلفة من الناس في خدمة أنفسهم بأنفسهم.
في تجارب خطط التنمية العالمية، كتجربة الصين في محاربة الفقر في الأرياف، وهي من أنجح التجارب العالمية، الدولة هي من تولت مسؤولية دعم التعاونيات، ولم تحمل المجتمع ولا المستثمرين مسؤولية الدعم لها، فلماذا غاب ذلك في تجربة التعاونيات للرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، وهل تسبّبت خطته في إحيائها بتعطيل بعض وظائف الدولة؟
لا وجه للمقارنة بين اليمن والصين، ولا داعي لذلك؛ لأنّ الدولة هناك كل شيء وتعمل كل شيء، والدولة في اليمن أيام إبراهيم الحمدي -رحمه الله- لم تكن غائبة قط، بل كانت حاضرة وداعمة ومشجعة على الزراعة، ولا شك أن الجانب السياسي أثر في كل شيء سلبًا وإيجابًا.
تمت جريمة تصفية تجربة التعاون في ثمانينيات القرن الماضي ثأرًا وغيرة من الأعداء السياسيين لإبراهيم الحمدي من جهة، وتكاتف القوى الرجعية التقليدية الفاسدة في المحليات من مدراء وحكام ومشايخ لأن التجربة شكّلت تهديدًا خطيرًا عليها من جهة ثانية، إلى جانب الكثير من كبار السياسيين المرتبطين بالغرب.
كما أنّ التنمية والتقدم تصنعه الشعوب، وليس النظم السياسية التي يتوقف دورها على التنظيم والتنسيق والتسهيل والدعم، والقائل بأن العمل التعاوني تعطيل لوظيفة الدولة، غيورٌ أو حاقد على العمل التعاوني وقيام الناس بخدمة أنفسهم.
كان لدول عربية وأجنبية، إضافة إلى مبادرات المغتربين اليمنيّين، دورٌ في دعم التنمية ودعم الاقتصاد والاستثمار في ذلك الوقت، كيف تقيمون هذا الدور من قبل تلك الدول والمستثمرين لإنجاح عملية التنمية؟
أولًا، يجب أن نفهم بأن العمل التعاوني لم يكن له أيّ دعم من أية دولة عربية أو أجنبية أو أي منظمة دولية، وإن دعم المغتربين للتنمية قد تمثل في دعم مناطقهم وقراهم من خلال العمل التعاوني وبصورة مباشرة وغير مباشرة بالدرجة الأولى عبر أسرهم، أمّا تقييم دور الدعم والاستثمار الخارجي لإنجاح مشاريع التنمية الحكومية الرسمية فقد كان موجودًا، لكنه لا يساوي ١٠% من دور العمل الشعبي والتعاوني، الذي كان ثورة تنموية بكل معنى الكلمة والذي حورب بثورة مضادّة من الداخل والخارج، وقد كتب في ذلك الكثير كما كتب غيرهم.
لهذه الأسباب تمت تصفية التعاونيات
كيف تنظرون للدور الذي لعبه الشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي، ومن معه في تلك التجربة، وهل كان لحادثة اغتياله دورٌ في انحسارها فيما بعد، أواخر السبعينيات؟
أولًا، من الخطأ الربط الكلي لثورة العمل التعاوني بإبراهيم الحمدي كشخص، لسببين رئيسيين: الأول- إن العمل التعاوني كان قديمًا في كثير من المناطق قبل وصول الحمدي إلى السلطة، ولا سيما مديريات كلّ من الحجرية وآنس وغيرها، الثاني- إن إبراهيم الحمدي كان راعيًا ومحفزًا وداعمًا للتجربة التعاونية، لكنه ليس مبدعها؛ لأنّها موجودة ومستمرة في حياة اليمنيين عبر الزمن، قبل وبعد الحمدي أو غيره، ومشكلتنا في اليمن الشخصنة في الخير والشر، وإبراهيم الحمدي استفاد من التجربة التعاونية كشخص بقدر ما أفادها إن لم يكن أكثر، وقد تم تغييب الحمدي بتصفية التجربة التعاونية التي ارتبطت باسمه.
يشير الكثير إلى أن تحول هيئة التعاونيات إلى المجالس المحلية كان بداية انحسار العمل التعاوني والمؤسسي وتصفيته؛ كيف تم تهميش العمل التعاوني وتصفيته، ومن المسؤول؟ وهل لعب الخارج في إضعاف وتصفية تجربة النموذج الاجتماعي اليمني؟
تمت جريمة تصفية تجربة التعاون في ثمانينيات القرن الماضي ثأرًا وغيرة من الأعداء السياسيين لإبراهيم الحمدي من جهة، وتكاتف القوى الرجعية التقليدية الفاسدة في المحليات من مدراء وحكام ومشايخ لأنّ التجربة شكلت تهديدًا خطيرًا عليها من جهة ثانية، إلى جانب الكثير من كبار السياسيين المرتبطين بالغرب، والمعادين للنظام في الجنوب واليسار والوطني في الشمال؛ لأنّهم كانوا ينظرون أن هذه التجربة قد تقود للتحول الاشتراكي في الشمال كما في الجنوب.
كيف انعكس تهميش العمل التعاوني على البلاد تنمويًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وصولًا إلى الصراعات التي شهدتها البلاد؟
كان الانعكاس الطبيعي لتصفية تجربة العمل التعاوني، وليس مجرد تهميشه، كما جاء في السؤال وهو خسارة أهم وسيلة علمية لتجاوز حالة التخلف إلى التقدم والاستقرار والازدهار، واستبداله بصراعات وحروب العنف والكراهية والخراب والدمار التي بدأت ولم تنتهِ بعد.
طريق السلام
بالعودة إلى المبادرات التعاونية التي يقوم بها المجتمع اليمني حاليًّا، كيف يمكن لها أن تتلافى جوانب القصور في تجربة التعاونيات السابقة؟ وتحويلها إلى عمل منظم؟ وكيف لها أن تسهم في حلّ مشاكل السلطة والثروة؟
سبق التأكيد بأن العمل التعاوني ظاهرة اجتماعية وتاريخية مستمرة، وهناك الكثير والكثير من الأعمال الخيرية والتعاونية في أكثر من منطقة، ولكنها تتم بمعزل عن أي دعم أو رعاية سياسية من قبل الدولة، بل لم تعد هناك دولة، وإذا وجد من يقول إن هناك دولة، فإنّ العمل التعاوني المشمول برعاية رسمية آخِر ما يمكن أن يفكر به السياسيّون اليوم، إذا لم يكن البعض ما يزال يكل تهم الاشتراكية والشيوعية -مع الأسف- الشديد لمثل هذه المبادرات.
بصفتكم رئيس مجلس المصالحة، أيمكن التعويل على دور التعاونيات في الدفع نحو السلام؟
العمل التعاوني هو بناء وتنمية، وليس سياسة للتوافق والسلام بين المتصارعين؛ لأنّه السلام نفسه، وإذا ما كان موجودًا خارج الرعاية الرسمية فهو حاضر بشكل محدود، ولا سبيل لليمن للخروج من محنته وتخلفه، غير النظام الاتحادي في السلطة والعمل التعاوني في التنمية.