في دكانٍ صغير بمنطقة "صينة" بمدينة تعز (جنوب غربي اليمن)، تقضي لطيفة عبدالرحمن (28 سنة)، وأطفالها الخمسة، وزوجها المقعد، أيامها نازحةً مثقلةً بعبء إعالتهم كمسؤوليةٍ طارئة ومنهِكة فرضتها الحرب، التي طالتها بآثارها الكارثية.
أجبرت الأوضاع المأساوية التي انحدرت إليها البلاد، عشرات الآلاف من النساء على العمل في منازل الآخرين، بينما اضطرت أخريات إلى العمل في مهنٍ منزلية، تدِرُّ عليهن عائدًا زهيدًا يمكنهن من إعالة أسرهن في ظل تطاول أمد الحرب في بلد يعيش أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وفقًا للأمم المتحدة.
لا يقتصر الأمر على "لطيفة"، تقول رئيسة فرع اتحاد نساء اليمن في تعز صباح راجح، لـ"خيوط": "مع أنه لا يوجد رقم محدد لعدد النساء المعيلات لأسرهن، لكن من خلال عملنا، تُبيِّن المؤشرات أنّ النساء أصبحن معيلات لأسرهن بشكل ملفت وكبير.
ووفقًا لأحدث بيانات مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، تعول النساء أسرة واحدة من بين كل أربع أسر نازحة، في بلدٍ يشكِّل فيه عددُ النساء والفتيات نحو نصف إجمالي النازحين البالغ عددهم أكثر من 4 ملايين شخص، أجبروا على النزوح من مساكنهم في مختلف مناطق البلاد منذ بداية الحرب؛ منهم 92% لا يملكون أي مصدر للدخل على الإطلاق، بحسب المنظمة الأممية.
مثل كثير من نساء اليمن، تتجسد في قصة "لطيفة" المسؤوليةُ والمعاناةُ معًا؛ فإلى جانب مأساة النزوح وبؤس التشرد، تتكالب عليها مآسٍ متراكمة؛ من إعاقة الزوج، ومرض طفلتها الصغرى "أبرار" (3 سنوات)، وضيق المسكن، وانعدام الحيلة، وغياب وسائل الحماية.
تعمل لطيفة في المنازل، وتجتهد بكل ما أوتيت من قوة، لتوفر احتياجات أطفالها المرهقة؛ أدوية ابنتها "أبرار" تكلفها شهريًّا أكثر من 11 ألف ريال، فيما يحتاج أشقاؤها مستلزمات المدارس، وتكاليف رعاية والدهم المقعد، فضلًا عن متطلبات الغذاء والمعيشة، وإيجار البيت (الدكان)، الذي يكلفه 20 ألف ريال شهريًّا.
من حياة الاستقرار إلى دوامة النزوح
بدأت مأساة أسرة لطيفة من مدينة البرح (غربي محافظة تعز) قبل أربع سنوات. هناك كانت تسكنُ بيتًا يملكه عمها (والد زوجها) في منطقة "الكنب"، "كان حالنا ميسورًا، فلدينا عمارة، وزوجي يشتغل في أحد دكاكينها، حتى جاءت الحرب، وحصل أن أصابت قذيفةٌ الدكانَ؛ سببت لزوجي مضاعفات نفسية خطيرة"_ لطيفة لـ"خيوط".
زوجها محمد حسن، صار مقعدًا وعاجزًا عن إعالة أطفاله، فضلًا عن مضاعفات حالته النفسية التي خلّفتها القذيفة التي دمّرت دكانه ومنزله ومستقبل أسرته. بذلك تحملت لطيفة الحياة بكل ثقلها، كأمٍّ وزوجة وجدت نفسها في وضع لم يكن في الحسبان.
"نزحنا إلى "جبل حبشي" بحثًا عن الأمان في طريق طويلة محفوفة بالعراقيل مع كثرة التفتيش في النقاط، خصوصًا أننا انتقلنا بما تبقى لدينا من عفش، حتى وصلنا في ظروف صعبة للغاية، ولم يكن أمامنا سوى الاستقرار في منزل والدي قرابة عام"، تستطرد.
قصة لطيفة، ليست سوى واحدة من معاناة آلاف النساء اليمنيات، اللاتي وجدن أنفسهن فجأة في مواجهة ظروف طارئة وقاهرة فرضتها الحرب، فهي تحلم بزوال الأسباب التي دفعت أسرتها إلى هذا البؤس
ما فاقم مأساة أسرة لطيفة أن "أبرار" (أصغر أطفالها الخمسة)، أصيبت بضمور في الدماغ أعاق قدرتها على النطق، نتيجة مضاعفات رافقت الأم مع تعسر الولادة ونقص الأكسجين على الجنين، أثناء رحلة نزوحها الثاني من جبل حبشي إلى تعز؛ المدينة المقطعة الأوصال، بحثًا في أحد مستشفياتها عن خدمة صحية ملائمة، وتسبب بُعد الطريق وكل تلك العوامل المتشابكة، في إعاقةٍ دائمة لطفلتها.
بإيمانٍ وثقة، تقول لطيفة: "الحمدلله، نحاول أن نسند أنفسنا بالممكن؛ أشتغل هنا وهناك، اشتغل بالخياطة (قص أو تعديل)، من أجل جمع إيجار الدكان، وعلاجات ومصاريف للأولاد وللبيت، والحمد لله، ربي لا ينسى أحدًا".
مشروعٌ متواضع بجهد ذاتي
تعلمت لطيفة الخياطة منذُ الصغر ببيت والدتها، إذْ كانت تقوم بخياطة الملابس مع شقيقتها، واستمرت بالعمل بعد النزوح لمدينة تعز مع صديقةٍ عرفتها لاحقًا، ساعدتها على شراء ماكينة خياطة بالتقسيط بما تيسر شهريًّا، بعد أن عرفتْ قصتها المؤلمة.
المشكلة، وفقًا للسيدة لطيفة، تكمن في كثرة التزاماتها المنهِكة، حيث لم تستطع استثمار عملها في الخياطة لتحسين دخلها كما ينبغي؛ لعدم قدرتها على توفير الأقمشة والخيوط التي تحتاجها للعمل، إضافةً إلى عدم امتلاكها منظومة طاقة شمسية لتشغيل آلة الخياطة وقتًا كافيًا، إذ بالكاد تكتفي بالعمل وقت الظهيرة فقط، وهو ما يجعل عملها محدودًا وقليل الجدوى، ويحتاج إلى إمكانيات ليست في حدود استطاعتها، للاستفادة من عملها بشكل أفضل.
في السياق، تؤكد صباح راجح، أن الفتيات والنساء أثبتن أنهن أكثر مسؤوليةً والتزامًا في رعاية الأسرة والبحث عن مصادر الدخل، وهو ما يحتم ضرورة الاهتمام بتأهيل وتمكين النساء بمشاريع مدروسة، لتشكل مصدر دخل يساعد على الاستمرار ومواجهة صعوبات الحياة.
مشيرةً إلى أن الاتحاد يعمل على التشبيك مع جهات عدة، لتقديم التأهيل والتدريب والتمكين الاقتصادي للنساء، إضافة إلى ما يقدمه من برامج الحماية والدعم القانوني والنفسي، حد قولها.
دعم المشاريع المنزلية
وقياسًا على حالة لطيفة، تشدد راجح، على ضرورة اتساع التدريب على الحرف، ليشمل أيضًا مهارات التسويق، وأن تتبنَّى الجهات الحكومية والمنظمات، مسؤولية تشجيع مشاريع النساء المنزلية، مثل توفير احتياجاتهن من الملابس، أو الهدايا الأخرى كالبخور، والحلويات، من النساء العاملات، حتى تتكامل مشاريع التمكين للمشاريع المنزلية الصغيرة.
قصة لطيفة، ليستْ سوى واحدة من معاناة آلاف النساء اليمنيات، اللاتي وجدن أنفسهن فجأة في مواجهة ظروف طارئة وقاهرة فرضتها الحرب، فهي تحلم بزوال الأسباب التي دفعت أسرتها إلى هذا البؤس، وتأمل أن تتمكن من "ستر أسرتها وحفظ كرامتها"، حتى يكبر أطفالها الذين تزداد احتياجاتهم يوميًّا، لعلهم يحملون عنها جزءًا من العبء، الذي لا يبدو أنه سينزاح عن كاهلها قريبًا، مع التأكيد أن جزءًا من المسؤولية يقع على الجهات المعنية، في مد يد العون إلى "لطيفة" ونظيراتها من النساء المعيلات لأسرهن.