لقد تم اقتلاع الإنسان من جذوره، كما لو كان خلاصة عدمية لا تمتلك حق الابتكار أو بداهة القول والفعل، عبر تاريخ من الاشتراطات العلموية الحدية والمصادرات المستبطنة، لصالح مركزيات متوهمة ضاعفت انقساماته وتفتته ونفيه في (مداريات حزينة) من التصورات والمفاهيم المكرسة بلغت ذروتها الشائكة في التوجهات التقنوية الأخيرة المتسارعة، بصفتها حالة أو وضعية من التطابق والاستنساخ والانغلاق تتم بحرفية ودقة عالية، وتدشينا للحظة كونية عارمة من التحكم والسيطرة والفنتازيا المأخوذة بنفسها، تستنزف اكتمالاتها ومخزونها الهائل من التأويل.
إنه تجريف قاس لذاكرة لم تعد قادرة على النسيان، وسعي محموم لتقويض جسور الوردة ووعودها المعلقة، واستيطان لعزلة تنزلق على زجاجها الدماء والأشلاء.
لا شك أن الجدل الديالكتيكي سيستغرق كافة الأطروحات والنقاشات السجالية المتعلقة بأولويات الوعي والمادة والبنى التحتية والفوقية وصراع الطبقات وحتمية التاريخ واحتماليته، والتي يتحكم بها في الغالب منطق سوفسطائي يأخذ بعين الاعتبار مجموعة الصيرورات التاريخية القائمة بين الثابت والمتحول، وعلاقات الإنتاج بوسائله وسياقاته النوعية المختلفة المؤثرة، لتفضي بنا إلى متوالية لانهائية من الأسباب والنتائج وتبادل الأدوار والمواقع.
ليس الشيء أو الموضوع وحده ما يبهج أو يدمي القلب، الشيء أو الموضوع مضافا إليه زمننا الخاص.
بعيدون .. بعيدون جدا، ولكن ليس بالقدر الذي يسمح أو يكفي لاقترابنا.
الشريد يغمرني بابتسامة باكية لم تصنعها مرآة المتفرج أو فضول الناجي أو غرور المقهور، إنها ابتسامته هو (الشريد)، فرحتنا وسعادتنا الغائبة الملازمة لانكشاف وعينا بإنسانيتنا المفقودة.
فكّر كيف يمكنه أن يبتلع ليل مدينة متسرطنة، دون أن يلحق الأذى بكركرات الطفل الصغير؟!
في الحقيقة نحن لا نرى الأشياء إلا من خلال ذواتنا، ولذا لا بد للذات من صقل مرآتها وجلائها باستمرار، وليس تهشيمها، فالتهشيم فعل عدمي فوق قدرتنا باعتبارنا بشرا، فالإنسان كائن اجتماعي أو تاريخي يفكر باللغة داخل اللغة، وما وراء اللغة هو في اعتقادي لغة، أو بالأصح لغة اللغة، لذا حين نمتلك الشجاعة ونشرع في فهم (فهمنا) نكون -قريبين من العالم- قد شرعنا في اكتشاف الوجود والتحقق به، ولامسنا ندوب كينونتنا المتشظية الهشة وعنفواناتها المعلنة أو المضمرة في الآخر.
في هذا المستوى من الفهم أحاول تأسيس وتشييد رؤيتي الشعرية الوجودية للعالم وإقامة حواري الإبداعي معه وفيه. أما حين نراكم ذواتنا ونكدس أنواتنا فحتما ستصدأ مرآة وجودنا وتمتلئ بالأصباغ الحاجبة، وتستحيل معها ذاتنا عجلا صناعيا بثقوب وأفواه كثيرة تخور وتترنح على حطامها شوكة العدم.
أميز بين مفهومين: العالم والوجود، العالم مسألة تغلب عليها صفة التعالي واللامتناهي والمطلق والموضوعي، في حين الوجود مسألة بينية وأفق محايث ومفارقة متاخمة ومصاقبة، تنشعب في مسالكه الصبوات وتنتهك في الشيء واللاشيء، في الشهود والغياب، في الانخطاف والشطح، حيث يختمر السؤال وتتوهج ظلاله، حيث ينكفئ العاشق على لوعته، وردته الوحيدة ويتفتق محبوبه على لسانه ودمه .
حين لا يفهمون حريتك إلا على طريقتهم الخاصة، يمنحونك حرية ناقصة، لذلك يمتنع غالبا المهرجون وملاك السرك عن تسريح حيواناتهم المروضة!
لقد ورث المثقف العربي للأسف كل مساوئ السلطات الديكتاتورية السابقة وتناقضاتها وعقدها وكان الوجه الأسوأ منها والأكثر انتهازية وفصامية.
لا أفهم إلا بطريقتي، فقط حين أكون مدعوا لفهم فهمي.
لا يملك الإنسان اللغة نظرا لتفوقها عليه؛ لكونها معطى رمزيا غير محايد، قادرا على الاتصال والانقطاع، الانتماء والانشقاق في الآن نفسه، جزءا من تاريخ غامض وحرب غير معلنة، الماء الذي يمنح الحياة ويسلبها، الشيوعي العصي على الاحتكار.
من أين لنا يقظة تسترد أحلامنا؟ وكيف تواتينا الرغبة حين نفتقد العطش؟ وأي قصيدة تتسع لصمتنا؟!
أليس اقترابنا من حقيقة الموت هو نفسه اقترابنا من حقيقة الحب؟
الحب حالة فقدان دائم، التياع وشوق للوصل، للاتحاد والفناء.
أفتقد فأغترب فأبحث عن الوجود.
ليس الوجود غير مفقوداتنا أو بالأصح مفقودنا الأبدي، انقطاعنا المتصل، ووصلنا المنقطع.
حين نقترب منها ونرشف أوشالا من الوجود المتحد، من الرحيق المشترك، يتكشف عطشنا المطلق في رغبتنا في الفناء وانخطافنا المحموم، وكأننا نفنى لنوجد ونوجد للفناء.
ليس هناك أكثر زيفا وادعاء من مثقف ينصب نفسه مُخلّصا أو بطلا وطنيا ، يتحدث نيابة عن الناس، عن عقولهم وأحلامهم ومعاناتهم، وهو يحفر قبورهم، ولا يهتم إلا بحصد (لايكاتهم) إعجاباتهم على صفحته الفيسبوكية والحفاظ على صورته الإعلامية وتصورات الناس المتوهمة عنها.
من يحررنا من أوهامنا وحجبنا الذاتية الأخطر؟ وكيف يمكن تحرير وعينا وحياتنا شبه المتآكلة وكافة أنشطتنا وممارساتنا السلوكية بلغة مجانية مقموعة؟
لغة التزلف والمدائح السلطوية الرخيصة، لغة عاجزة عن تحرير نفسها؟
ربما في المستقبل، في ظروف تاريخية أفضل، يمكننا أن نعاين أو نقارب ونقيّم الظواهر الثقافية، أحداثا ورموزا على حد سواء، بصدق واقتدار، بمنأى عن ظلالها الجارحة أو تداعياتها القاسية على أرواحنا ووعينا وواقعنا المهشم الراهن بفعل الحرب وآثارها المدمرة، خصوصا تلكم الظواهر والرموز الوظيفية المؤسسة أو المكرسة التي كانت على ارتباط عضوي وظيفي وثيق بالسلطات السياسية الديكتاتورية المتخلفة وخطابها الديماغوجي الزائف وشبكة مصالحها وعلاقاتها المنفعية وأجهزتها الإدارية المنظمة بوصفها جزءا من حالة مرضية أو إعاقة ينبغي تجاوزها والقطيعة مع ثقافتها التبعية.
لقد ورث المثقف العربي للأسف كل مساوئ السلطات الديكتاتورية السابقة وتناقضاتها وعقدها، وكان الوجه الأسوأ منها والأكثر انتهازية وفصامية.
لكي يعترف الإنسان بالآخر يحتاج أن يكون إنسانا، أن يعرف ذاته بشجاعة وحب، أن يصغي لآخرها، لهوامشها وضفافها الأخرى، أن يكون له أكثر من عين وأكثر من قلب
في الحنين المخاتل لمدركاتنا المتفاوتة قربا وبعدا، واحتمالاته التأويلية المتساقطة طوعا وكرها، نؤسس لأفق هو بحاجة دائمة لمن يفارقه، ولسؤال أو وعد أو لقاء هو مجاز شعري لا يمكن إدراكه.
الشعور الديني المتطرف وربما الساذج بالنجاة والتفوق الذي يمنحه الإيمان بالله على مستوى الإدراك البديهي واللغوي عقلا ونصا قد يكون المسؤول عن تقييد وتعطيل العقل والنص معا، فالذات (القارئة) غائبة لأنها مطمئنة لموقعها المتفوق (المتعالي) على النص، الفضلوي (المفضل) في النص، فالوصول انتهاء وتوقف حاجب لكل ابتداء أو بحث أو تطلع، واطمئنان ناف لكل تساؤل أو شك أو مبادرة؛ الذات (لا تنقذف في العالم ) – على حد تعبير هيدجر– أو تعنى بفهمه وكشفه لأنها ذات مطلقة تخلصت من كل الأواصر التي تربطها بنفسها وبوقائع اتصالها الفعلية والممكنة والمحتملة، غير تلك التي تؤكد بداهتها الأولية المطلقة والساذجة، والعالم /الآخر/المختلف انحراف/تشويه/مرض/انشقاق وخروج عن الكليانية (الإيمانية) المتعالية الطهرانية.
لكي يعترف الإنسان بالآخر يحتاج أن يكون إنسانا، أن يعرف ذاته بشجاعة وحب، أن يصغي لآخرها، لهوامشها وضفافها الأخرى، أن يكون له أكثر من عين وأكثر من قلب، أن يعانق المطلق في المحدود، أن يكون على استعداد دائم لإعادة النظر في وضعه وشرطه الإنساني وتجربته الإبداعية، أن يمتلك حساسية قلقة تجاه منجزه، أن يربي ويرعى شغفه الجمالي المتعدد والمختلف ويبقيه متقدا ليس بصفته فرادة وخصوصية إبداعية ضرورية فحسب، بل بوصفه أيضا طريقة في الوجود وفي شعرنته، اقتراحا واستئنافا وتجريبا وكشفا دائما لممكناته وحدوسه، وبحثا وتأصيلا لمعناه.
تحتاج البشرية من وقت لآخر-حين ترزح تحت نير العبودية والذل وتبدأ تستشعر فداحة هذا الثقل-إلى خضّة تعيد لها اعتبارها الإنساني وكرامتها المهدورة واكتشاف حياة جديدة بطرق من الموت ممكنة.
باتت الإعدادات على أتمها لإصلاح الكهرباء ولم يتبق إلا تحديد موعد لضربها!
يحاول العدمي بكل حواسه أن يتجذّر في كل ما يدرك بحثا عن وجود أكثر أصالة وإشراقا، في مواجهة فردانية وقطيعة معلنة مع مرجعيات تعمل بصفتها حوافز انشقاقية ونيران متوهمة، تتناوبها حالة من انبعاث وانكفاء لا تبرأ من الرومانسي، أو التحليق والسقوط الحر، في اتجاه استحالة صفرها الكوني وانغمار لاءاتها الأكثر قبولا.. هكذا يبدو لي عموما أن خياراتها الوجودية المرهِقة تضيق من جهة اتساعها وتحد من واقع نسبويتها وتنخلع أو تتخطف من حيث تجذرها، الأمر الذي يشكل عبئا مضاعفا إزاء سؤالها المر وحوارها الملتهب مع ذاتها وصهر تجربتها وتحولاتها الإبداعية، وإشكالية انخطافها المنخلع المتجرد من انغراسه في الأرض أو تطلعه إلى السماء، من البداية والنهاية، أو المبدأ والمعاد.
والسؤال الأكثر إلحاحا في هذا السياق هو: هل كان جنون نيتشه منفى اختياريا أخيرا لمعقل الذات، استكمالا لنفي أو هدم وموت كل المرجعيات أو المعاقل الأرضية والسماوية، الممكن العدمي الأقل قسوة بين ممكنات وجودية أقسى؟!