على امتداد السنوات العجاف للحرب في اليمن هنالك ضحايا لم تولد إعاقتهم معهم، بل دستها لهم أيادٍ آثمة في تراب أراضيهم ومنازلهم.
حصدت الألغام المزروعة في هذه الحرب، أرواح الآلاف من المدنيين بين طفل وشيخ وامرأة وشاب، وأعاقت أجسادهم، ولوثت الأراضي الزراعية ومنعت السكان من جلب المياه النظيفة. رسمت الألغام خط حياة على حافة الموت أو الفقد، وقللت وصول المساعدات الإغاثية لمستحقيها، وفخخت البيت والمدرسة والحقل والطريق والجبل.
تحولت أخبار القتلى والمصابين جراء انفجار الألغام إلى أحداث يومية في وسائل الإعلام، في ظل توسع حقول الألغام كلما اتسعت رقعة الاقتتال. قصص ضحايا الألغام تدمي القلوب؛ مدنيون كل همّهم لا يتجاوز جلب دواء أو غذاء أو ماء أو الخروج للرعي. كل من يعيش في المناطق المزروعة أو التي من المحتمل أن تكون مزروعة بالألغام، يعيش ضغوطًا نفسية هائلة وهو يفكر بتربص الأسطوانات المحشوة بالمتفجرات في موضع قدمه أو إطار سيارته، أو حتى أقدام مواشيه التي يعتمد عليها في معيشته.
في صحراء الجوف (شمال اليمن)، كان مسعد صالح عائد للمنزل، لكنه أفاق بعد أيام في المستشفى، وقد بترت رجله اليمنى، وسكنت شظايا لغم في إحدى كليتيه، وصار مجبرًا على إجراء غسيل للكلى بصورة دائمة. يقول مسعد لـ"خيوط": "أُصبت بلغم زرعته جماعة الحوثي، والآن أعيش بانتظار الموت". فقد حرمَته الإصابة من ممارسة حياته اليومية كالآخرين، وأصبح سجينًا للآلام.
في الجانب الآخر (وسط البلاد)، فقد صلاح الشرعبي ذراعه وأصابع يده الأخرى على إثر انفجار لغم أرضي بشارع الثلاثين في حيّ المطار القديم، غرب مدينة تعز. كان صلاح يقود حافلته الصغيرة المخصصة لنقل الركاب، لكنه في ذلك اليوم كان في طريق العودة إلى منزله. إضافة إلى فقده ذراعه وأصابع يده الأخرى، فقد الباص الذي كان مصدر دخله لإعالة أسرته. يقول صلاح لـ"خيوط"، إنه لا يزال يعاني من آلام الإعاقة ومن عدم قدرته على تقبلها، كونها من فعل الإنسان، وأنه أحيانًا يفكر بالاستسلام للموت أو إنهاء حياته؛ "كنت أعمل وأعيل نفسي وأسرتي، واليوم أنتظر المساعدة من الآخرين"، هكذا يفكر حين يشتد عليه الألم والعوز.
قصص بتر الأطراف لضحايا الحرب في تعز كثيرة، ويقول الأطباء هناك إن من يتم إسعافهم نتيجة انفجار الألغام يصلون إلى المستشفيات بحالة مزرية، وأنه لا يكون لدى الطبيب خيار سوى البتر لإنقاذ حياة المصاب
تشخيص الطب النفسي
تقول آلاء عبدالحق، وهي مختصة نفسية، إن الكثير من الأشخاص الذين تسبب لهم الحروب إعاقات دائمة، يصعب عليهم تقبلها، وأنهم قد يصابون باكتئاب وخوف من المجتمع المحيط، ويفضلون عدم الاختلاط بالآخرين، وهو ما قد يؤدي لسيطرة الأفكار السوداوية عليهم.
وتضيف لـ"خيوط"، أن الأشخاص ذوي الإعاقة في اليمن، يعيشون ظروفًا شديدة الصعوبة، حيث تكاد تنعدم برامج التأهيل النفسي، وإعادة دمجهم بالمحيط، فضلًا عن أن الكثيرين منهم لا يجدون ثمن الأدوية واحتياجاتهم الأخرى، كالأطراف الصناعية والكراسي المتحركة.
شهاب عبده سعيد، أحد سكان حي "كلابة" شرق مدينة تعز، تعرض في بداية الحرب لإصابات في عشرة مواضع متفرقة في جسمه. يقول لـ"خيوط" إنه عايش صنوفًا من المخاطر أورثته آلامًا لا تنتهي؛ بين قنص وشظايا قذائف كانت تطلق على الحي من مبنى معسكر الأمن المركزي الذي تسيطر عليه قوات تابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين). آخر عملية قنص تعرض لها شهاب كانت قبل ثمانية أشهر، بينما كان يركض للحصول على مساعدة مالية لإجراء عملية جراحية في بطنه جراء إصابة سابقة. خرج كعادته من المنزل، ولكن هذه المرة انفجر به لغم.
عدد من سكان حي كلابة قالوا لـ"خيوط"، إن أمطار العام الماضي (2021) جرفت ألغامًا كانت مطمورة في المنطقة، فداس شهاب على واحد منها. نُقل على الفور إلى المستشفى فبترت قدمه اليمنى وتم إنقاذ القدم اليسرى، كما أصيبت عينه.
قصص بتر الأطراف لضحايا الحرب في تعز كثيرة، ويقول الأطباء هناك أن من يتم إسعافهم نتيجة انفجار الألغام يصلون إلى المستشفيات بحالة مزرية، وأنه لا يكون لدى الطبيب خيارٌ سوى البتر، فيما يأتي بعض المصابين وأعضاؤهم مبتورة فيتدخل الأطباء لإيقاف النزيف وإنقاذ حياة المصاب.
وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" وثّقت استخدام جماعة أنصار الله (الحوثيين) للألغام الأرضية المضادة للأفراد والمضادة للمركبات في محافظات أبين، عدن، لحج، مأرب، الحديدة، تعز.
ويحظر القانون اليمني استخدام الألغام المضادة للأفراد، ضمن اتفاقية (حظر الألغام العام 1997) التي صادق عليها اليمن العام 1998، ودخلت حيز التنفيذ في مارس/ آذار 1999، والتزمت اليمن بعدم استخدام الألغام المضادة للأفراد تحت أي ظرف من الظروف. وفي أبريل/ نيسان 2017، أبلغت "هيومن ريتس ووتش" أطراف النزاع في اليمن أنه يجوز محاكمة الأفراد والمسؤولين عن استخدام الأسلحة المحظورة أو شن هجمات عشوائية على أنها جرائم حرب.
وتعتبر مدينة تعز من ضمن المدن المكتظة بالألغام، التي تتركز في مناطق التماس وخطوط النار، وحددت بـ32 منطقة ملغومة، تتوزع في مديريات المدينة الثلاث وأطرافها من مديريات محيط المدينة، في الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا.
إلى هذه المناطق تضاف مديرية موزع (جنوب غرب مدينة تعز)، ومديرية المخا (في الساحل الغربي لليمن)، حيث تنتشر الألغام في مساحات واسعة أثناء المعارك التي دارت فيها، وعملت جهات تابعة للأمم المتحدة على نزع بعضها. تقتل الألغام في موزع مواشي المواطنين على الدوام، وتكلفهم خسائر فادحة في وضع اقتصادي شديد الصعوبة يلجأ فيه الناس لتربية المواشي كمصدر دخل أساسي لهم ولعائلاتهم.
ضمن مشروع نزع الألغام الطارئ التابع للأمم المتحدة، الذي بدأ في ديسمبر 2017 وانتهى في ديسمبر 2021، أجري مسح وتطهير للأرض في 21 محافظة و233 مديرية، وطهرت أكثر من 23 مليون متر مربع من الأراضي، وإزالة ما يقرب من 635،000 قطعة من الذخائر المتفجرة.
إلا أن تجدد المعارك في مناطق عدة، أفضى لموجة جديدة من زرع الألغام، وصار من الصعب معرفة المناطق الملغومة، إذ لا توجد خريطة واضحة تحدد أماكن هذه الألغام أو حتى لافتات تحذيرية، وهذا ما يحاول المركز التنفيذي للتعامل مع الألغام القيام به بالشراكة مع اليونيسف. ينفذ المركز حملات توعوية بمخاطر الألغام، وكيفية التعامل مع الأجسام المتفجرة من خلال النزول الميداني للمحافظات والمديريات التي تنتشر فيها، إضافة لتوزيع ملصقات وإعلانات إنفوغرافيك، وحث المواطنين على الاتصال بالرقم المجاني 151 للإبلاغ عن أي جسم غريب يشاهدونه في مناطقهم.
يجب على الناس تحصين أنفسهم بالمعرفة"، حيث إن من المتوقع خلال العام 2022، أن تتوقف أعمال أنشطة المراكز الميدانية أو تقليصها بشكل كبير جدًّا.
يقول عبده علي ردمان، وهو عضو اتصال في هذا البرنامج، في حديث لـ"خيوط"، إن حملات التوعية استهدفت مديريات مدينة تعز التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا، وبالمثل، المناطق الخاضعة لسيطرة أنصار الله (الحوثيين)، مثل مديريات: ماوية، سامع، خدير، شرعب السلام، وشرعب الرونة.
وتعمل هذه الحملات على التوعية قبل نزول فرق نزع الألغام والمتفجرات، وهي تحث الأهالي أيضًا على وضع إشارات محلية في الأماكن التي يرون أو يعتقدون أن فيها أجسامًا غريبة متفجرة، مثل وضع كومة تراب أو حطب، أو وضع عصيّ على شكل حرف (X)، حتى يسهل عمل فرق المسح.
ويضيف ردمان: "نسعى لتعزيز السلوك الصحيح في كيفية التعامل مع الألغام لتجنيب الناس الكثير من المآسي والآلام وإزالة الخوف، والدفع بهم لممارسة حياتهم الطبيعية"، كما ينوه إلى أنه "يجب على الناس تحصين أنفسهم بالمعرفة"، حيث يقول إن من المتوقع خلال العام 2022، أن تتوقف أعمال أنشطة المراكز الميدانية أو تقليصها بشكل كبير جدًّا.
سكان الحديدة الأكثر تضررًا
محمدة محمد جلاجل، امرأة من سكان مديرية الحالي في محافظة الحديدة، كانت تعد الليالي حتى تنجب صغيرها. وفي منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2021، كانت في طريق عودتها للمنزل عندما داست على لغم أدى لبتر رجليها، فصارت في حالة عجز دائم عن المشي.
محمدة نموذج لما يتعرض له سكان الحديدة من ويلات الألغام التي زرعت في مزارعهم، وطرقهم العامة، وبالقرب من مساكنهم، وفي طرق جلب المياه، ومراعي الحيوانات.
في أبريل 2019، قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في تقرير، إن استخدام أنصار الله (الحوثيين) الواسع للألغام الأرضية على طول الساحل الغربي للبلاد، منذ منتصف 2017، قتل وجرح مئات المدنيين، ومنع منظمات الإغاثة من الوصول إلى المجتمعات الضعيفة، وأن الألغام تعيق حصاد المحاصيل وأعمال الإغاثة والرعاية الصحية.
وقال موظف في UNDP إن "المناطق الملغومة يصعب وصول الإغاثة إليها، رغم حاجة سكان مديريات الحديدة للإغاثة بأنواعها". وحثت بعثة الأمم المتحدة لحماية "اتفاق الحديدة" (ضمن اتفاق ستوكهولم)، أطراف النزاع في اليمن على إزالة الألغام وحماية المدنيين.
وتعتبر الألغام عائقًا لتعليم آمن وصحي يؤدي رسالته التربوية في تنشئة الأجيال، حيث توقف التعليم في كثير من المدارس وتصاعد خوف الأهالي على أبنائهم.
وفي تقرير (GCPAtwees) وفقًا لاتفاقية (أوتاوا) الداعية لأوطان خالية من الألغام، اطلعت عليه "خيوط"، أفاد أنه منذ العام 2018، تم استخدام الأسلحة المتفجرة والألغام الأرضية والقنابل العنقودية في المنشآت التعليمية بنسب متزايدة من قبل جميع أطراف النزاع. كما أشار إلى أن 25% من الفتيان والفتيات والشبان، لم يتمكنوا من الوصول إلى مدارسهم بسبب الألغام الأرضية أو المتفجرات في الربع الأول من العام 2021.
في تعز، قامت وساطة محلية لانتشال جثث قتلى قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا وقتلى جماعة أنصار الله (الحوثيين) من منطقة (تبة القرن) في جبل (هان) غرب تعز؛ فقُتل اثنان من لجنة الوساطة بانفجار لغم، وجُرح آخران.
ممنوع من العودة للديار
تقول إنتساب نصر، وهي أم لثلاثة أطفال: "لديّ منزل في حيّ الزنوج (شمال مدينة تعز)، منزل جميل ثابرت أنا وزوجي لبنائه حتى نتخلص من همّ الإيجار"، ومع اندلاع الحرب في مدينة تعز العام 2015، خرجت إنتساب من منزلها ولم تتمكن من العودة إلى اليوم، خشية الوقوع ضحية للألغام التي تسمع أنها قتلت وأصابت الكثير من سكان الحي.
وفي تفاصيل قصتها التي سردتها لـ"خيوط"، كان زوجها يملك دكانًا صغير في واجهة المنزل وضعوا فيه كل ما يملكون ليكون مصدر رزقهم. كان زوجها يبيع موادًّا غذائية في ذلك الدكان، لكن مع وصول الحرب إلى حيهم، اضطروا للنزوح وإغلاقه. وعندما هدأت المعارك لم يستطع زوجها العودة لدكانه أو إخراج بضاعته خوفًا من الألغام وتجدد المعارك. تقول إنتساب بحسرة، إن البضاعة التي في الدكان قد تكون الآن منتهية الصلاحية أو أكلتها الفئران، مغالبة الغصة من عودتها لهموم الإيجار والعمل المضاعف لتلبية احتياجات أولادها.
وفي تعز أيضًا، قامت وساطة محلية لانتشال جثث قتلى قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا وقتلى جماعة أنصار الله (الحوثيين) من منطقة (تبة القرن) في جبل (هان) غرب تعز؛ فقُتل اثنان من لجنة الوساطة بانفجار لغم، وجُرح اثنان آخران.
بحسب (المرصد اليمني للألغام)، قُتل في عموم محافظات الجمهورية 12 شخصًا في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وجُرح 18 شخصًا كلهم من المدنيين.
وفي الإحاطة السنوية لعام 2021، لمنظمة مواطنة لحقوق الإنسان، تشير الإحصائيات لوقوع 36 انفجارًا لألغام قتلت 23 شخصًا، وأعاقت 82؛ منهم 46 طفلًا، و18 امرأة، إضافة إلى 47 واقعة انفجار أجسام متفجرة.
وقالت الأمم المتحدة إن عدد قتلى الألغام بلغ 1424 مدنيًّا خلال أربع سنوات من الحرب في اليمن.
يقول أسامة، وهو أحد رعاة الإبل في تعز لـ"خيوط"، إنهم كانوا قبل الحرب يذهبون للرعي في تهامة والمخا ويعودون إلى مناطقهم، لكنّ الرعاة والنحالين المتجولين حاليًّا يواجهون عوائق كثيرة وخطيرة في التنقل، من ضمنها الألغام. ويضيف بحسرة إنه فقد ثلاثة جمال في انفجار لغم، وظل يبكي أسبوعًا عليها؛ لأن أحدها لم يمت مباشرة في الانفجار، فلوى رقبته باتجاه راعيه وكأنه يستغيث به لإنقاذه. غير أن والد أسامة منعه من الاقتراب من الجمل لأنهم كانوا يرعون في حقل ألغام، دون أن يحذرهم أحد من ذلك.
مأرب.. صحاري الألغام
صفية منور، شابة انفجر بها لغم في صرواح مأرب بعد إعلان تطهير المنطقة من الألغام. تقول أختها لـ"خيوط": "قالوا لنا إنهم شالوا الألغام ورجعنا لبيتنا، وانفجر لغم بأختي وأعاقها وفقدت ساقها".
في حديثه لـ"خيوط"، يقول خالد شبح- خبير متفجرات وألغام: "نشعر بالصدمة والذهول من هول وكمية الألغام التي زرعت في صحاري مأرب؛ في مديريات الجدعان وصرواح ورغوان ومجزر. تكمن خطورة الألغام في كونها مصنوعة من مواد مقاوِمة للصدأ لا تتأثر بالعوامل الطبيعية، ويمكن أن تطمر في التراب لمئة عام وأكثر، وتشكل أشد أنواع العوائق للأجيال القادمة، وأيضًا على الدولة والمشاريع الحكومية لِمَا بعد الحرب".
ويضيف أن جماعة أنصار الله (الحوثيين) استخدمت أنواعًا من الألغام المضادة للأفراد، وألغامًا وترية ودوسات وعبوات، وأنه تم زرعها بشكل غير مسؤول في الطرقات العامة والمزارع والصحاري والجبال وجوار المنازل، وبالقرب من مصادر المياه.
وفي وقت سابق، تحدث ممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في اليمن، عن مساعدة المركز اليمني التنفيذي لمكافحة الألغام على إزالة المتفجرات من مخلفات الحرب والألغام الأرضية من الأحياء السكنية وورش العمل والأراضي الزراعية والمصانع، حتى يتمكن الناس من استئناف حياتهم الطبيعية.
وكان المركز أعلن أنه استخدم كلابًا مدربة لكشف الألغام بدلًا من أجهزة الكشف عن المتفجرات والقنابل العنقودية، التي رفض التحالف العربي دخولها إلى مناطق سيطرة أنصار الله (الحوثيين)، وأن المركز أنشأ وحدة لتدريب الكلاب الكاشفة، غير أن طيران التحالف استهدف هذه الوحدة يوم الخميس 20 أكتوبر 2021، وأصيب العديد من الكلاب بجروح خطيرة، ونفق أحدها متأثرًا بإصابته.