تأملات في الموت والغياب

مراثي الشعراء؛ لغة حدادهم الفارهة
عبير اليوسفي
October 7, 2024

تأملات في الموت والغياب

مراثي الشعراء؛ لغة حدادهم الفارهة
عبير اليوسفي
October 7, 2024
.

لَعَمري لقد أشجى تميمًا وهَدّها

‏على نَكَباتِ الدهرِ موتُ الفرزدقِ 

(رثاء جرير حين مات الفرزدق بعد هجاء أربعين عامًا) 

مراثي الشعراء هي لغة حدادهم الفارهة، ونافذة مشرعة يرسلون عبرها التلويحة الأخيرة لمن يحبون أو يفتقدون. "فالكلمات ما هي إلا دموع"؛ يقول صمويل بيكيت، بينما كان يرى فولتير الدموعَ لغة حزن صامتة. جاء الشعر أنيقًا أمام الموت في تأملاته، لتصبح القصائد صالات عزاء مفتوحة، يتجدد الحزن فيها مع كل قراءة، ويستدل بها للبحث عن المواساة.

أنت في قبر وحيد هادئ

‏أنا في قبرين: جلدي وبلادي 

بهذين البيتين، ختم الشاعر عبدالله البردوني قصيدته "رسالة إلى صديق في قبره"، جسّد فيها رؤيته الفلسفية لحالة الحزن والأسى، وشعوره الداخلي بالاغتراب. كان موت صديقه حالة سلام في قبره، في المقابل كان هو عالقًا بين قبرين (جلده وبلاده)؛ مصورًا لفكرة أنّ الحياة ليست إلا شكلًا آخر من أشكال الموت، ولكنه موت بطيء ومتعاقب.

لا تضع سراجًا على قبرك

"حزني طويل كشجر حور"؛ يستفتح الشاعر محمد الماغوط نعيه في فقدان صديقه الشاعر بدر السياب. مزج في قصيدته بين السخرية والألم، ملمحًا على التقصير الذي طال السياب في معاناته. "لا تضع سراجًا على قبرك/ سأهتدي إليه"، يستدل الماغوط عليه من علاقة صداقتهما التي كانت منارة اهتدى بها للوصول إليه بعد الموت.

الأمر أيضًا عند أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقد كان شوقي يتمنى أن يموت هو قبل الآخر حتى يتمكن من رثائه، لكن الأقدار شاءت أن يرحل حافظ إبراهيم فجأة، دون أن يكون له فرصة للوداع.

في مرثية شوقي، عبّر عن هذا الوجع: "قد كنت أوثر أن تقول رثائي/ يا منصفَ الموتى من الأحياءِ". وهذه كانت بمثابة شهادة على عمق العلاقة التي جمعتهما، وإحساسه بالعجز أمام الموت .

الموت في الشعر ليس نهاية مطلقة بل هو عملية تحويل الغياب في النصوص إلى حضور، كون الراحلين يعيشون في القصائد، لا يتلاشى وجودهم بشكل نهائي، ولا تمثل مراثيهم مجرد نعي، لكن المؤكد أنها تبقى شاهدة على نضوج تجربة الفقد المؤلمة.

ربطت أيضًا علاقة صداقة قوية بين سميح القاسم ومحمود درويش، الذي وجه صوب موته سؤاله الطويل: "أنت تركت الحصان وحيدًا، لماذا؟". حملت المرثية طابعًا خاصًّا؛ فقد تحدث فيها سميح عن الصداقة، ونضالهما السياسي، والتنافس الأدبي بينهما، ولجأ إلى استخدام لغة مكثفة لتعبر عن حجم خسارته وحزنه. درويش الذي مارس رثاء أصدقائه، لم يغب عنه رثاء نفسه قبل الموت، كتب "الجدارية" كرثاء له في فترة مرضه، وبعد علمه بنسبة نجاح العملية الضئيل، رسم فيها مشهد رحيله: 

"صبّوني بحرف النون/ حيث تعبّ روحي سورة الرحمن في القرآن/ وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي/ ووقع الناي في أزلي/ ولا تضعوا على قبري البنفسجَ/ فهو زهر المحبطين/ يذكّر الموتى بموت الحب قبل أوانِه".

ورثاء النفس نجده حالة ملازمة للشعراء، يظهر في شعر المتنبي وأمل دنقل والسياب، وأيضًا عند الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه، الذي يمكن اعتبار أنه رثى نفسه بشكل غير مباشر في مراثيه التسع. انغمس ريلكه في التفكير نحو الوجود الإنساني والموت بشكل فلسفي، وهذا ما يتجلى في "مراثي دوينو"، الذي كتبه وهو في حالة اكتئاب وحزن، "من في مراتب الملائكة سيسمعني لو صرخت؟"؛ بهذا السؤال بدأ مرثيته الأولى .

الفراق الأخير، هو الذي احتشدت له الكلمات لتشييع جثامين أحباء، أصدقاء، أو أبناء. وهذا الأخير ينتزع من قلوبهم قصائد بطعم المرارة، كما انتزع الموت من نزار قباني ابنه توفيق، كان غير مصدق لحقيقة موته الذي هُزم أمامه، لم تخنه الكلمات، إنما كان وقع موت الابن ثقيلًا على قصيدته التي أنهاها "أتوفيق، إني جبان أمام رثائك". الحزن ذاته انسكب في قلب وديع سعادة، لكن بفقد الأب: "أبي هيكلٌ عظميٌّ محروق يُسند ركبتيه بيديه، وكنبةٌ يخرج منها الدخان".

هكذا يكتب عن مشهد موت والده بعد أن لازمه منظر جثته الجالسة على الكنبة محترقة وهو صغير، مما جعل من الفقد جرحًا انعكس على كتاباته فيما بعد. وكانت قصائده في حوار مع الغياب ومحاولة لترويض الألم.

أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ؟

وفي خسارة الشريك، مرارة الموت عاشها الجواهري الذي رثى زوجته من منفاه، نظم قصيدته "ناجيت قبرك" في فقدِ أمّ فرات، بمناجاة شاهدة على الموت.

                   في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ     أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ؟

من جهة أخرى، أخذ الشاعر أحمد رامي ينعى صوت قصائده، أم كلثوم، وقد ربطته بها علاقة فنية استثنائية. وجد رامي نفسه وحيدًا أمام غيابها، ليكتب عن هذا الفراغ الذي خلّفته: "قد كنت أسمعها تشدو فتطربني/ واليوم أسمعني أبكي فأبكيها". لم يكن هذا رثاء شخص، بل كان رثاءً لفن وموسيقى شكّلت جزءًا كبيرًا من حياته، واستحضارًا لصوت ما يزال حتى اليوم موجودًا رغم الغياب .

الموت في الشعر ليس نهاية مطلقة بل هو عملية تحويل الغياب في النصوص إلى حضور، كون الراحلين يعيشون في القصائد، لا يتلاشى وجودهم بشكل نهائي، ولا تمثل مراثيهم مجرد نعي، لكن المؤكد أنها تبقى شاهدة على نضوج تجربة الفقد المؤلمة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English