يقول المحتجز المفرج عنه في عملية التبادل الأخيرة في تعز بدر سلطان (24 سنة) لـ"خيوط"، إنه تم اختطافه قبل خمس سنوات من أحد شوارع صنعاء، وكان عمره حينها 18 سنة بتهمة كتابة منشورات في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، تنتقد جماعة أنصار الله (الحوثيين).
ويشير إلى تنقله بين أكثر من محتجز في صنعاء قبل أن يستقر فيما يعرف بسجن الصالح (شرقي محافظة تعز).
ويؤكد تعرضه للتعذيب، خصوصًا في الأشهر الثمانية الأولى من احتجازه، بعد ذلك كان يتم إخضاعه لجلسة تحقيقات كل شهرين أو ثلاثة أشهر، حيث تعرض -وفق حديثه- لوسائل عديدة من التعذيب كالضرب والركل ورش الماء البارد، وحمل الأحجار والوقوف لساعات طويلة على قدميه.
يضيف: "اختطفوا من عمري 6 سنوات في العتمة، وليس الوجع البدني هو الأشد والأنكأ، هناك وجع نفسي كنت أتعرض له، خاصة عند رؤيتي التعذيب الذي يتعرض له بعض السجناء، لقد كان هناك فئة تعذيبها مختلفٌ عنا؛ بقلع أظافرهم ووخز أجسادهم كان ذلك يسبب لي الهلع والخوف وعذابًا نفسيًّا.
تؤكد تقارير حقوقية أن عمليات الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري التي قامت بها أطراف النزاع لم تتوقف عند المنخرطين في النزاع والأعمال العدائية، بل طالت طيفًا واسعًا من المدنيين الذين احتُجزوا من أماكن عملهم أو منازلهم أو من الطرقات.
تقول أخصائية في علم النفس، إن الأعراض المتعلقة بالإحساس المتصاعد للخطر تدعى أعراض فرط التيقظ، وهي تشمل التخوف الشديد والتيقظ للخطر أو إصدار ردود فعل قوية على الأصوات الصاخبة أو الحركات غير المتوقعة كأن يكون الشخص سريع الاهتياج أو الانفعال، إضافة إلى صعوبات هائلة في الأداء اليومي.
وأسفرت مفاوضات طويلة قادها وسطاء محليون في محافظة تعز (جنوب غربي اليمن) بين السلطة المحلية التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا وجماعة أنصار الله (الحوثيين)، عن اتفاقية لتبادل 206 أسرى ومعتقلين كانوا يقبعون منذ سنوات في السجون التابعة للطرفين اللذين يتقاسمان السيطرة على محافظة تعز الخاضعة لحصار أنصار الله (الحوثيين)؛ الطرف المسيطر على أجزائها الشرقية والجنوبية الشرقية من المحافظة.
أكبر اتفاقية برعاية محلية
تعد الاتفاقية أكبر صفقة تبادل محلية تتم دون أي تدخل من قبل الأمم المتحدة التي رعت عملية تبادل واسعة في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي بين الحكومة المعترف بها دوليًّا وبين أنصار الله (الحوثيين)، تم بموجبها إطلاق نحو 1056 محتجزًا من الطرفين، مع استثناء محافظة تعز، التي لم تشملهم هذه الصفقة.
وأفرج طرفا النزاع في اليمن؛ الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، وجماعة أنصار الله (الحوثيين)، يومي 15 و16 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 عن ألف و56 محتجزًا من المدنيين والمقاتلين، ضمن خطوة مرحلية لتنفيذ ما سميت "اتفاقية تبادل الأسرى" الملحقة باتفاق ستوكهولم الذي وقع في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2018، بعد 21 يومًا من لقاء جمع هذه الأطراف برعاية الأمم المتحدة في مدينة مونترو السويسرية، وبرئاسة مشتركة من المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
بعد ما يقارب عامًا كاملًا، جرت ثاني أكبر عملية لتبادل المحتجزين بين طرفي الحرب في اليمن، والتي تمثلت بتبادل 206 محتجزين بين الطرفين، إذ أطلقت الحكومة المعترف بها دوليًّا 70 محتجزًا، بينما أطلق أنصار الله (الحوثيين) 136 محتجزًا.
حسب الوسيط المحلي بين الطرفين، عبداللطيف المرادي، في حديثه لـ"خيوط"، فقد تمت عملية التبادل بعد مفاوضات غير مباشرة بين ممثلي الطرفين، فيما قام الوسطاء بالتوفيق بينهما والتدقيق في الأسماء، وتذليل كل الصعوبات حتى تمت العملية بنجاح.
وتتهم منظمات حقوقية أطراف النزاع بارتكاب خروقات جسيمة لقواعد القانون اليمني النافذ ومبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان، وقالت إنه لم توجه للعديد من المحتجزين تهم رسمية، وتم احتجازهم لمدد طويلة في أماكن غير مؤهلة، وتعرض الكثير منهم للتعذيب وضروب من المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
ويؤكد المسؤول عن عملية التبادل في الحكومة المعترف بها دوليًّا، ضياء الحق إدريس، لـ"خيوط"، أن كثيرًا من المحتجزين الذين تم استعادتهم من الطرف الآخر هم مختطفون مدنيون، بينما غالبية المحتجزين لدى الجهات التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا مقاتلون تابعون لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، موضحًا أن عملية التبادل تمت عددًا بعدد وليس فردًا بفرد.
من جانبه، يقول المسؤول في لجنة الأسرى التابعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين) أبو ربيش المطري، لـ"خيوط"، إن عملية التبادل تمت دون أي مقابل أو فدية.
ومنذ العام 2015 وحتى العام 2021 نجحت وساطات محلية بتبادل المئات من المحتجزين من المقاتلين بين الأطراف في عدة عمليات ناجحة، فيما واجهت مبادرات أخرى عراقيل لوجستية.
ويعتقد الناشط والصحفى محمد دبوان المياحي في حديث لـ"خيوط"، أن هناك أبعادًا سياسية لنجاح عملية تبادل المحتجزين في تعز، إذ إنه بعد مرور نحو سبع سنوات من الحرب تحددت سيطرة ونفوذ كل طرف، وبالتالي أصبح لا جدوى من احتجاز هؤلاء اليمنيين.
تروي أم عرفات تفاصيل الأشهر الثلاثة التي قضتها وسط الحزن والبكاء، بدءًا بالضيق الذي تملّكها لثلاثة أيام قبل أن تعلم شيئًا عن ابنها، لكن الحدس لم يخطئها ما كان يخفيه الواقع حتى جاءها خبر أسر ولدها في أغسطس من العام 2019. أم عرفات والكثيرات أمثالها يعِشن أسوأ كارثة يمكن أن تذوقها الأمهات بسبب غياب فلذات أكبادهن.
وعن طريقة علاج المحتجزين والأسرى والمعتقلين والمخفيين المفرج عنهم بعد سنوات من الاحتجاز في معتقلات أطراف النزاع، تقول الأخصائية في علم النفس منى الشرجبي، لـ"خيوط": "قد يتعرض الأسير أو المعتقل للكثير من الاضطرابات النفسية أو ما يسمى "الكرب" ما بعد الصدمة، وأعراضه: مشاكل في النوم، سرعة الانفعال، قلق وتوتر ومزاج متقلب، أو اكتئاب متواصل، وأعراض بدنية عديدة بدون أي سبب واضح، أهم أعراضها الصداع، وخفقان القلب بشدة".
وتوضح الدكتورة منى أن الأعراض المتعلقة بالإحساس المتصاعد للخطر تدعى أعراض فرط التيقظ، وهي تشمل التخوف الشديد والتيقظ للخطر أو إصدار ردود فعل قوية على الأصوات الصاخبة أو الحركات غير المتوقعة، كأن يكون الشخص سريع الاهتياج أو الانفعال، إضافة إلى صعوبات هائلة في الأداء اليومي؛ لذا ينبغي أن يعرض المريض للطب النفسي ويخضع لجلسات كثيرة.
معاناة
لم يتوقف بكاء أم عرفات (68 سنة) إلا من نشيج متقطع وهي تروي تفاصيل الأيام التي قضتها في غياب ولدها، وسط دموع تترقرق مع كل كلمة تقولها متوارية خلف حزنها الطويل، والذي آن الأوان ليقف عند هذا الحد بخروج ولدها عرفات (30 سنة) ولدها الخامس، من سجون جماعة أنصار الله (الحوثيين).
تروي أم عرفات تفاصيل الأشهر الثلاثة التي قضتها وسط الحزن والبكاء، بدءًا بالضيق الذي تملّكها لثلاثة أيام قبل أن تعلم شيئًا عن ابنها، لكن الحدس لم يخطئها ما كان يخفيه الواقع حتى جاءها خبر أسر ولدها في أغسطس من العام 2019. أم عرفات والكثيرات أمثالها يعِشن أسوأ كارثة يمكن أن تذوقها الأمهات بسبب غياب فلذات أكبادهن.
في عملية بحث مستمرة دامت ثلاثة أشهر بعد أن علمت أم عرفات بالخبر، لم تترك أحدًا في طريقها إلا وسعت معه لتعرف أي شيء عن ابنها، تحكي لـ"خيوط": "سافرت إلى صنعاء وطوال شهرين لم نستطِع الوصول إلى أي معلومات عن عرفات".
تتحدث عن أول اتصال فاجأها به عرفات وتخنقها عبرات البكاء غصة الاشتياق بالذكرى الموجعة، ولم تتمالك نفسها حينها فهبت بجسدها المتهالك لتروي عطشها بسماع صوت ولدها، لحظات لا نستطيع تجسيدها بالكلمات. تتحدث عن ذلك اليوم، فتقول: "لم أصدق ما كان يحدث، لم أستوعب أنني أسمع صوت ابني من جديد".
ذهبت أم عرفات إلى أحد الوسطاء في عملية التبادل ودفعت مئات الآلاف ليدرج اسم ابنها ضمن قائمة التبادل واستمر ذلك لأكثر من سنة دون أي نتيجة. حتى طلب في نهاية الأمر مبلغ مليون ونصف، لكن أم عرفات لم تقدر على دفع هذا المبلغ بعد أن باعت بقرتها الوحيدة وكل ما لديها من أغنام وماعز.
ظلت أم عرفات متمسكة بطيف ولدها وتحمل في داخلها الأمل ستة أشهر حتى ضاقت عليها الحياة وبلغ بها الضيق حدًّا لا يطاق، بعد عيد الأضحى دفعت المبلغ المطلوب وبقيت تنتظر حتى جاء اليوم الذي أبلغوها فيه بأن ابنها شارف على الخروج من السجن.
تصف لـ"خيوط"، مشاعرها في هذا اليوم بالقول: "ظليت أيام لا أستطيع فيها النوم، وأشعر بنار تحرق قلبي، نفس المشاعر التي انتابتني أول يوم من اختطافه".
في الأربعاء 29 سبتمبر 2021، اليوم الذي تمت فيه عملية تبادل المحتجزين، ظلت أم عرفات تنتظر في جنبات الطريق في منطقة سامع التي جرت فيها عملية تبادل المحتجزين، منذ الفجر وحتى لحظة إتمام العملية في المساء ولم تتمالك نفسها وهي تنظر لابنها فأجهشت بالبكاء لحظة احتضانه لها، تقول: "كنت أحس قلبي شِخرج".
* تحرير خيوط