قريبي شخص موهوب، بل شخصٌ مبدع في مجاله. هو متقن في أدائه، لا شيء بإمكانه جذب الانتباه والإبهار أكثر من الإتقان.
ممكن أصف قريبي هذا أنه شخص طيب، خدوم، غارق في المدنية ولهجته الرائعة المرحة. بيد أنه مثلنا كذلك، لم يهتم كثيرًا بترتيب قاموسه اللغوي. ومثلنا اختلطت في قاموسه مفردات العامية والفصحى، وربما وقف متفرجًا حينما كان يتسع قاموسه بالمفردات. تراه يحدثك بمفردات فصحى حينما يعتقد أنه يتحدث بلهجته المعهودة، تلك اللهجة التي لا يفهمها إلا ذلك الخليط الإنساني المتجانس الذي لا يجمعه غير العيش المشترك ومفتاح الهُوية الثقافية الجامعة؛ اللهجة.
الذي لا تستطيع الأرض أن تهضمه، لا يجيد لهجة ناسها. من لم يكتشف سر قطرات ماء تلك الأرض يظل لسانه منغلقًا معطلًا، حينها تعرف أن البحر لا يقبل الميتة.
قريبي لم يلاحظ حجم التدمير الذي يحدثه فيروس السياسة في خلايا المفردات. لهذا السبب ربما لم يحاول فهم التناقضات والمتضادات الكثيرة التي تتسرب إلى اللغة، إلى اللهجة، إلى الشارع، إلى المدرسة، إلى الطريق الذي يلتف حول المدينة.
كل ذلك لم يكن يهم قريبي كثيرًا، ولم يكن يشكّل له أي قلق.
لغته البسيطة كانت وسيلة تواصله مع الآخرين، وموهبته في تصميم الجماليات هي جواز مروره إلى كلّ الذواقة من التجار وأصحاب المزاج الجمالي. ذلك أوجد لقريبي سوقًا تتسع كل يوم، برغم حداثته في فضاء التصاميم الواسع.
تجارة قريبي هي خياله الثري في مجال الديكور وتصميم الواجهات البراقة الجذابة. أصبح له عملاء يطلبونه من آفاق البلاد الواسعة.
في وضع كهذا من الصعب التوفيق بين "العميل التجاري" الذي يبحث عنه قريبي أو يريد الوصول إليه أثناء حركته في سبيل لقمة العيش، وبين "العميل الخائن" الذي يبحث عنه رجل النقطة، لكن لقمة العيش فقط تجمع قريبي والآخر.
لكل شيخ مريدوه. كان للشيخ العنتري مريدون كثر، وللصنعاني والماس وأحمد عبيد فعطبي. وقريبي كذلك له مريدوه. هو يعرفهم بأنهم عملاؤه، وهي المفردة التي تسرّبت إلى قاموسه، ربما لا يعلم لهذه المفردة رديفًا.
قريبي لا يعرف أن كلمة "زبون" هي مرادف فاشل وغير مكافئ لمفردة "العميل"، لكنها تدرَأ كوارث عديدة.
"العميل" كلمة لها رنين خاص في سوق الأعمال ومضمار التجارة. وقع له صدى ليس فقط عند الشركات الكبيرة والكارتيلات، بل وحتى عند أصحاب الرساميل المتواضعة، وفي البقالات.
هذا الرنين جعلها أكثر حضورًا وهيمنة في المخيلة من كلمة "زبون" التي تبدو شاذة في كثير من الأحيان.
لكن هذه المفردة صارت، ذات لحظة، ضحية لفيروس السياسة. فصارت نقيضًا صارخًا يقود إلى زنزانات مظلمة ربما إلى المقصلة بأسرع من الصاروخ.
في الأزمات والحروب يزداد رواج "عميل" إلى درجة لا تصدق. ولكن هذا الرواج يكون من نصيب معناها المتحور الذي يقود المرء لحتفه.
قريبي لم يكن مشغولًا بمآلات الكلمة "عميل" في ظروف كالتي تمر بها البلاد اليوم. في هذه الظروف كالفطر بعد المطر، تنتشر نقاط للمسلحين لا حصر لها ولا عد. تمتلئ هذه النقاط بمن يخدم فيها. الكل يبحث عن لقمة العيش في أي مكان، لا مجال اليوم للاختيار أين تعمل وماذا تعمل وكيف. لا توجد رفاهية لك كي تختار. حيثما تجد رغيف الخبز، اعمل ولا تجادل.
المكلفون بهذه النقاط مثلهم مثل قريبي يبحثون عن عملاء.
ومثل قريبي هم غير مهتمين بأي معنى آخر لهذه المفردة، غير ذلك المعنى الذي انغرس في الذهن وفي قاموسهم اللغوي الذاتي المتواضع.
يبحث قريبي عن عميله الذي يتعامل معه مباشرة أو بواسطة كي يبيعه فكرة جديدة انبثقت ذات هنية، فكرة جديدة تساعد هذا العميل على تحسين أسلوب عرض وتسويق منتجه أمام الجمهور. العميل بالنسبة لقريبي اسم علم أكثر منه صفة.
أما رجل النقطة، في موقعه فيبحث عن العميل، حيث العميل هنا هو ذلك الشخص الذي يتعامل مع العدو. العميل بالنسبة لهذا المسلح هي صفة أكثر منها اسم.
في وضع كهذا، من الصعب التوفيق بين "العميل التجاري" الذي يبحث عنه قريبي أو يريد الوصول إليه أثناء حركته في سبيل لقمة العيش، وبين "العميل الخائن" الذي يبحث عنه رجل النقطة، لكن لقمة العيش فقط تجمع قريبي والآخر.
في كل النقاط التي يمر بها المسافر، الجميع يشبه الجميع. مهما بلغ عدد نقاط العبور، فكل القائمين لا أسماء لهم. هم يحملون كُنى لا أسماء.
في بال قريبي عميل، وفي بال رجل كل نقطة عميل، كُلٌّ يبحث عن عميله.
تعوّد قريبي أن يجد العميل الذي يبحث عنه؛ لذلك يكون في حال من الهدوء والسكينة.
بينما لا يجد الآخر العميل الذي يبحث عنه، هذا يجعله في حالة استنفار واستفزاز وتحفز، لأن صورة العميل بفعل الضغط النفسي الواقع عليه تتجسد في كل عابر سبيل.
عليكم أن تتخيلوا ما تسببه مفردة عميل لشخص "جُدادي" كقريبي عندما يوقفه أي مسلح في أي نقطة من النقاط المنتشرة على طول الطريق من مدينته إلى أي مدينة أخرى في اليمن.
ذات نهار أوقف المسلح في إحدى النقاط البعيدة باصًا، كان يقل قريبي وآخرين. وبعد السؤال عن بطاقات الهوية أخذ يسوط بالأسئلة ركاب الباص، حتى جاء دور قريبي:
قريبي يناوله البطاقة.
يترجل قريبي من الباص مبلودًا معقود اللسان. هو لا يعرف أن مفردة (عميل) جريمة لا تغتفر. يسحبه رجل النقطة من قفاه إلى الخيمة. ماذا لو أن قائد النقطة لم يأتِ، أو لم يكن على دراية بمفهومي العميل؟ وماذا لو أن أحدًا لا يفهم معنى المفردة ونقيضه؟
وبينما يتلظى بقية المسافرين بحرارة الباص الفرن تحت لهيب شمس الصيف المحرقة عند الظهيرة. حينها تكون الشمس متربعة السماء وتطلق سهامها نحو الأرض، يستمر هذا المشهد الحواري إلى ما شاء الله له أن يستمر. حتى يحضر شخص ما يفهم نقائض (المفهوم)، ويوضح للطرفين ما تعنيه كلمة عميل بالنسبة لكلٍّ منهما. ربما تكرر هذا المشهد على طول الطريق.
ذات مرة احتُجِزَ قريبي "العميل" لثلاث ساعات حتى جاء قائد النقطة، كان شخصًا يفهم معنى كلمة عميل التجارية والسياسية، فأفرج عن قريبي بعد أن هدّه التعب والإعياء وهو يحاول أن يوضح أو يفهِم دون أن يفلح.
ترى ماذا لو أن قائد النقطة لم يأتِ، أو لم يكن على دراية بمفهومي العميل؟ وماذا لو أن أحدًا لا يفهم معنى المفردة ونقيضه؟