أصدر الكاتب الدكتور مسعود عمشوش، أستاذ الأدب المقارن في جامعة عدن، كتابًا عنوانه (الإعلام الثقافي)، والكتاب على صغر عدد صفحاته تناول موضوعات متعددة ومتناثرة، بدت لي مبتسرة أضرّت بالمنهجية البحثية، حيث انتقلت من التعريفات النظرية لمفهوم الإعلام الثقافي في الصحف والمجلات المحلية والعربية إلى قراءة تجربة ذاتية في رئاسة مجلة (فنار عدن الثقافية) والإعلام الثقافي الرقمي بصورة مقتطفة وسريعة.
ويبدو أنّ الكتاب هو محصلة مقالات أكثر منه بحثًا محدّدًا لعنوان البحث وتجلياته وتطبيقاته الواقعية؛ ولذا سأقتصر في ملاحظاتي على ما ورد فيه تحت عنوان (الصفحات الثقافية في 14 أكتوبر والثوري) من الصفحة (29-44)، وهي المتعلقة بما قرأه واستنتجه الكاتب حول مفهومه للإعلام الثقافي.
ملاحظة منهجية
إنّ مؤلف الكتاب المعنون بـ(الإعلام الثقافي)، مرّ على مواضيعه في هذا الفصل مرورًا عابرًا ومتسارعًا، ونظر إلى حقائقه فوقيًّا، واختار لمدلولاته أسلوبًا انتقائيًّا يعتمد على ما قيل وكُتب بصورة مختصرة، ومعتمدًا في بناء آرائه على كتابات حول الصحافة، ومنها الصحافة الثقافية، ولم يستقر على رؤية متماسكة ومتسلسلة تسلسلًا زمنيًّا وموضوعيًّا، فانتقل من موضوع إلى آخر بخفة متناهية جعلت من الاستخلاصات تبدو هي صاحبة الأهمية على حساب القراءة المعمقة التي تستوفي الحقائق ودراستها دراسة تحليلية .
الكاتب "عمشوش" وقف أمام نثرات من الكتابات القليلة غير الإبداعية ذات الصبغة الفكرية والسياسية (التقدمية) بحسب توصيف تلك المرحلة، ليسقطها على النشر الثقافي كله وعلى إبداع تلك المرحلة، وهذا مجافٍ للحقيقة ولصيرورة الثقافة والفن في تلك المرحلة، بل يؤكد أن الانتقائية التي انتهجها الكاتب في البحث أعطت ما هو نافل في النشر الثقافي أهميةً تفوق مجمل الإبداع المنشور في الصفحات الثقافية.
إنّ الخلاصات والنتائج لا تبنى على انتقاء عشوائي للنصوص والشخوص والأحداث، وهذا لا يعبر عن منهج الدراسة التحليلية، بل يصبح قراءة انطباعية تصيب أحيانًا وتخطئ في كثير من الأحيان؛ ولذا فإن اهتمام "عمشوش" باستباق طرح النتائج والاستخلاصات على عينة منتقاة من النصوص بصورة عشوائية ودون منهجية متواترة في البحث والرصد الموضوعي، تجعل الكاتب يهتم بالاستخلاصات المتسرعة والقاصرة عن أداء مهمته في التعبير عن نتائج وتحليلات ناجعة.
مبتدأ القصور في البحث
لقد أهمل الكاتب قراءة الأرشيف الصحفي لصحيفة (١٤ أكتوبر) و(الثوري) خلال فترة البحث (1985-1990)، ولم يحاول الاقتراب من الذين كانوا جزءًا من صناعة الصفحة الثقافية فيهما، وخاصة من الأدباء الذين كانوا ينشرون فيهما، وهم كثر، أمثال: جنيد محمد الجنيد، وشوقي شفيق، ونجيب مقبل، ومبارك سالمين، وجلال أحمد سعيد، وشفاء منصر، وعبدالرحمن إبراهيم، وغيرهم كثر كانوا هم صناع النصوص الشعرية والقصصية والنقدية المنشورة نصوصهم ولهم ذكريات وآراء وعلاقة حميمية مع طاقمي الصفحة الثقافية في الصحيفتين المذكورتين، وفيهم من تولى رئاسة الصفحة الثقافية، أمثال: نجيب مقبل، وجلال أحمد سعيد، الذي ما زال يرأس الصفحة الثقافية إلى يوم كتابة هذا المقال.
إنّ الاستعجال على سلق الحقائق والقفز على الموضوعات وأزمانها، جعل الكاتب لا يتعرف على الدور الريادي للصحفي الراحل شكيب عوض الذي ترأس الصفحة الثقافية أكثر من عقدين في (14 أكتوبر)، ودور كمال الدين محمد في (الثوري)، في إرساء تقاليد صحفية في الصحافة الثقافية، ليقفز في إبراز دور القاص الراحل (إبراهيم الكاف) الذي لم يكن من صناع الصحافة الثقافية في فترة البحث (1985-1990)، وهذا من مثالب البحث والقفز في القراءات والبحث الذاتي عن الاستنتاجات قبل الحقائق الموضوعية، بالإضافة إلى كونه عدم التزام بمنهج البحث.
ازدهار ثقافي وإبداعي
الصحافة الثقافية في عدن منذ السبعينيات من القرن الماضي حتى فترة البحث (1985-1990)، كانت من فترات الأدب والثقافة والفنون الخصبة إبداعيًّا، وشكّلت نهضة ثقافية وأدبية بما نشر في الصفحات والمجلات الثقافية الصادرة من نصوص شعرية وقصصية ومقالات نقدية ومقالات وموضوعات عن الفن والمسرح والسينما.
لقد تواصلت في هذه المرحلة ظاهرة أدبية سميت يومها بـ(أدب الشباب)، وتمتعت النصوص والمقالات المنشورة بمساحة إبداعية حداثية ومتجددة، وصنعت شعراء وقصاصين ونقادًا أصبحوا عنوانًا لمرحلة أدبية ذات أهمية تاريخية ونقدية، استقبلها كبار النقاد بالنقد والقراءة التاريخية، أمثال: د. عبدالعزيز المقالح، وعبدالله علوان، وغيرهما، بل تناولها النقاد العرب.
إنّ إهمال الكاتب عمشوش لهذه المعطيات الموضوعية والذاتية للصحافة الثقافية في زمن بحثه، ولهثه وراء التوصيف المسبق والمعمم، وقسر إبداع تلك المرحلة بالتوصيف السياسي الفج، أفقد الرؤية الصحيحة بأن النصوص التي نشرت في تلك الفترة كانت متجاوزة نظريًّا وإبداعيًّا، كل هذه المسبقات السياسية الموهومة، والسياسة الحاكمة للسلطة.
الاهتمام بالإسقاطات السياسية
إن الإسقاط السياسي الكلي على مرحلة كانت تتسم بنظام اشتراكي حاكم، لا يعني أن الإبداع المنشور في الصفحات الثقافية كان منقادًا بالفكر الاشتراكي، بل على العكس، استفاد المبدعون من انفتاح السلطة الحاكمة، ومنها السلطات الثقافية والإعلامية، على الحداثة والتجديد. والأدب الإنساني والعالمي هو ما قاد إلى نشر نصوص ومقالات ذات قيمة إبداعية في الشكل والمضمون وذات حرية إبداعية لا متناهية.
وهذا ما لم يقم الكاتب عمشوش إلى التقاطه، بل وقف أمام نثرات من الكتابات القليلة غير الإبداعية ذات الصبغة الفكرية والسياسية (التقدمية)، بحسب توصيف تلك المرحلة ليسقطها على النشر الثقافي كله وعلى إبداع تلك المرحلة، وهذا مجاف للحقيقة ولصيرورة الثقافة والفن في تلك المرحلة، بل يؤكد أنّ الانتقائية التي انتهجها الكاتب في البحث أعطت ما هو نافل في النشر الثقافي أهميةً تفوق مجمل الإبداع المنشور في الصفحات الثقافية.
عدم الالتزام الزمني لمنهجية القراءة
في قراءته لموضوع (الصفحات الثقافية في 14 أكتوبر والثوري 1985-1990)، خرج المقال عن فترة البحث بالإشارات السلبية المتعمدة لفترة التأسيس في الستينيات والسبعينيات؛ أي ما قبل زمن البحث (ص 30-31) من دون داعٍ، ولا علاقة لها بموضوع البحث.
الصحافة الثقافية والأدب والشعر والفن والمسرح في عهد الحكم الاشتراكي -بالرغم من أي مثالب سياسية من حكم شمولي وحزب واحد- كانت تعيش نهضة غير مسبوقة إبداعًا؛ يتمنى المرء استرجاعه في هذا الزمن الرديء الذي سلب الإنسان والمثقف جزءًا من إنسانيته الخفاقة، ومن المثقف والمبدع إبداعه اللامتناهي في الكتابة والنشر في ذاك الذي كنا نعيشه؛ ويبدو أن المؤلف لم يجايله أو يطعم حلاوته!
كما أنه لم يتطرق لِمَا نُشر في الصفحات الثقافية في الصحيفتين خلال هذه الفترة، وهي فترة خصبة بالإبداع، بل اتهم المبدعين أمثال الأدباء: عبدالرحمن إبراهيم، كمال الدين، شوقي شفيق، محمد حسين هيثم، أحمد صالح باشراحيل، بأنهم يكتبون في مختلف المجالات الصحفية غير الثقافية، وهذا استنتاج غير صحيح، كما أورد عن كمال الدين كتابته عن الفن التشكيلي وتغطيات عن مهرجان سعدي يوسف! فما المعيب في هذه التناولة إلا باللمز بأن الأدباء كتّاب صحافة وليس أدبًا!
ومن التوجهات غير الدقيقة في البحث، تركيز الكاتب على الكُتّاب العرب في صحيفتي (١٤ أكتوبر والثوري) منذ الستينيات وحتى التسعينيات، وهو أمر لا تشوبه شائبة، وإنما السؤال الذي يُطرح: أين تحليل إبداع هذه المرحلة من أدبائها وشعرائها المحليين ممن صنعوا أجمل وأبهى ظاهرة أدبية وشِعرية في عدن والجنوب واليمن عمومًا، وصارت نموذجًا للحداثة الأدبية محليًّا وعربيًّا؟
أشتبه بأن في هذه الإشارة، بالتركيز على دور الأدباء العرب المقيمين في عدن وإهمال دور الأدباء والشعراء والفنانين الوطنيين، تلميحًا إلى سطوة الأدباء العرب وكتاباتهم على المشهد الأدبي والثقافي، وهو أمر غير صحيح ألبتة، إذا كانت هذه قناعة المؤلف.
يقول الكاتب عمشوش: "بشكل عام يبرز مزج كبير بين الثقافي والسياسي في الصفحات المخصصة للثقافة في صحيفة (الثوري)"، ويقرنه بما كتبته في مقالة لي بعنوان (أربعون عامًا على دار الهمداني، مشروع ثقافي أفل قبل أوانه) في منصة "خيوط" حول اقتراب السياسي من الثقافي الذي كان حقيقة لصالح الأدب والأدباء؛ لأن السياسة (التقدمية) ساهمت في نهضة الثقافة والأدب.
شتان بين ما يراه الكاتب مثلبة الكتابة السياسية التحريضية لبعض الكتّاب، وبين قراءتي أن السياسة التقدمية التي كانت تنتهجها الدولة ساهمت في نهضة الأدب والشعر في عدن والجنوب واليمن عمومًا، وتبنيها إنشاء المؤسسات الثقافية، فهذا اقتران باطل واستدلال ليس في محله، فطرح الدكتور عمشوش يبدو قراءة سلبية لسطوة بعض الكتابات السياسية التي قد ينتهجها من أشار إليهم، أما الثانية التي أردت إيرادها فهو فعل وتوجه إيجابي لنهج السياسة والسياسيين (الحكام) الاشتراكيين وتفهمهم لطبيعة الأدب والثقافة التقدمية وتشجيعهم لها ولأصحابها من الأدباء والفنانين .
إنما من الواضح أن سطوة الرؤية المسبقة للمؤلف، لتلك المرحلة الفارطة من عمر (جمهورية اليمن الديمقراطية) باعتبارها سوادًا في سواد، جعلت من المؤلف ينتقي أحداثًا ومواقف تعزز هذه الرؤية السلبية، ويكررها في أكثر من موقف وحدث، نتمنى أن يتجاوزها في كتابات معمقة، فالقراءة الموضوعية للأحداث في زمنٍ ما تفرض التحليل المتوازن .
والحقيقة أن الصحافة الثقافية والأدب والشعر والفن والمسرح في عهد الحكم الاشتراكي، بالرغم من أي مثالب سياسية من حكم شمولي وحزب واحد، كانت تعيش نهضة غير مسبوقة إبداعًا؛ يتمنى المرء استرجاعه في هذا الزمن الرديء الذي سلب الإنسان والمثقف جزءًا من إنسانيته الخفاقة، ومن المثقف والمبدع إبداعه اللامتناهي في الكتابة والنشر في ذاك الذي كنا نعيشه؛ ويبدو أن المؤلف لم يجايله أو يطعم حلاوته!
في الختام
ما أوردت من ملاحظات نقدية، دافعها أولًا الانتماء للصحافة الثقافية، واشتغالي فيها ردحًا من الزمن استوجب مني ما أراه تصحيحًا لبعض الآراء التي أوردَها المؤلف لمعلومات عشتها عن قرب، وثانيًا ثقتي بأن الدكتور مسعود عمشوش هو واحد من الكتّاب القلائل الذين يلحون على منهجية البحث النقدي وترابطه، وهو أستاذ الأدب المقارن، ويكنّ لي وما أكتب كثيرًا من التقدير الموضوعي، وهو ما يلمسه القارئ من اقتطافه لاستدلالات من كتاباتي في هذا الكتيب، ولا أجد حرجًا في أن أفتح معه نقاشًا وحوارًا متخالفًا ومتضادًّا في التوجه من دون أن يمس قيمة كتاباته وشخصيته الأكاديمية والإنسانية. فللحقيقة العلمية والمنهج البحثي والرؤى الصائبة نبتغي ونتوجه، ومن أجل ذلك نتفق أو نختلف، ولا شيء غير ذلك.