(1-2)
ينفتح النص الأدبي المعاصر في اليمن، المنشغل بموضوع الهجرة، على عديد من التمثيلات والسمات، التي تكسبه خصوصية شديدة الأثر، تعكس في الأصل طبيعة الهجرة اليمنية المعاصرة التي صارت تاريخيًّا، كما يقال "قدر الإنسان اليمني منذ أقدم العصور وحقب التاريخ"، ليس بتراثها الأسطوري الذي أنتجته المرويات التاريخية، لكن بدوافعها الحقيقية، التي يجيء على رأسها الدافع الاقتصادي، متبوعًا بالدوافع الاجتماعية والسياسية، والتي بسببها يُعاد، في كل التناولات لهذه الظاهرة تعريف اليمن كبلد طارد؛ ومن جملة قراءات لمحتويات سردية وشعرية كُتبت على مدى تسعين عامًا، ابتدأت برواية "فتاة قاروت" للكاتب أحمد عبدالله السقاف، التي صدرت بجاوة عام 1927، وانتهت برواية "سالمين" للكاتب عمار باطويل التي صدرت في العام 2015، وما بينهما من نصوص شعرية وسردية عديدة، تكشفت جملة ثيمات متقاربة صارت بقوة الأثر والمشابهات سمات وتمثيلات ارتبطت بفعل الهجرة نفسه، مثل البحر والأمية والأحلام التي تشذبها رغبات المهاجرين.
(أ) البحر ملاذ المهاجر الأكثر عدلًا
لم يكن ركوب البحر بالنسبة للمهاجر اليمني وسيلة انتقال من مكان إلى آخر، في وقت انعدمت فيه وسائل التنقل بين البلدان، وإنما أيضًا مكانًا لكسب الرزق، فمعظم -إن لم نقل كل- المهاجرين اليمنيين إلى ما قبل الحقبة النفطية، اختاروا البحر والسفن الشراعية والبخارية وسيلة للوصول إلى مستقراتهم الجديدة، أو عملوا على ظهر هذه السفن لالتقاط رزقهم كحالة محمد عبدالواسع حميد المهاجر البحَّار، وحكاية البحار محمد صالح الصايدي كنماذج سيروية متحققة يمكن النظر إليها من مقتربات القراءة على اعتبار أن الأول أديب معروف، وكتب هذا النص من موقعه كأديب، والثاني صار بمرويته الشفهية نموذجًا للقراءة عند باحثين وكتاب مثل الدكتور أحمد القصير وآخرين، وصار لقب "البحري" في مناطق الهجرة في الشَّعِر وبعدان واليمن الأوسط، تطلق على كل من عمل في البحر، أو ركبه إلى بلدان المهجر. يقول د. أحمد الصائدي: "البحري هي التسمية الشائعة للمهاجر. ولا شك أن أصل هذه التسمية يرجع إلى ارتباط الهجرة، في العصر الحديث، بالبحر ارتباطًا وثيقًا. فقبل أن يعرف المهاجرون اليمنيون بلدان النفط في الشمال، كان اتجاههم دائمًا نحو البحر، يشقون عبابه إلى بلدان شرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأوروبا وأمريكا".
التقط بعض كتاب السرد شخصياتهم من مهنة العمل على السفن؛ "صالح " و"فضل" في رواية "قرية البتول" لمحمد حنيبر، و"أبو عزيز" في رواية "ربيع الجبال" لمحمد مثنى، كان أول عمل له في مصوَّع في البحر مع متعهد أسماك للحكومة، وقصة المهاجر الحقيقي عند زيد مطيع دمَّاج، و"علي" الشخصية المحورية في نص "الغريب" لمحمد أنعم غالب أيضًا عامل بحر في الأساس، وكان لشخصية المهاجر في قصيدة "الباله" لمطهر الإرياني وسيلته للهرب وهي البحر أيضًا، وفي البحر سيعمل لخمس عشرة سنة على مركب يوناني حتى يسود جلده، و"ناجي" في رواية "طيف ولاية" يعمل خلال فترة إقامته في هاواي مع البحرية الأمريكية، بعد أن سبق واشتغل بحارًا على متن إحدى السفن التي تجول على القارات الخمس، بعد تركه للعمل في المعسكرات البريطانية في عدن.
شائف في رواية "تصحيح وضع" لأحمد زين، هو البحار القديم، الذي جاب العالم على ظهر السفينة "أفريقيا" التي غادرت ميناء الحديدة في نهايات الستينيات، وهو على ظهرها بعد أن وجد بعض ملاحي الباخرة في سوق شعبي بالحديدة، فعرضوا عليه العمل كعتال فوافق، ويتذكر من تلك اللحظة "عندما كانت قدماه تصعدان ببطء سلالم تلك السفينة القديمة، لم يكن يشغله شيء سوى أسرته، إخوانه وأمه، وفشل محاصيل الذرة في ريفه البعيد".
البحار "علي الزغير" في رواية "صنعاء مدينة مفتوحة"، يُفني حياته وشبابه فوق ظهور البواخر وفي قيعانها، عندما لم يتسع له سواها، شأنه في ذلك شأن معظم المهاجرين اليمنيين، الذين لم يجدوا في الغربة ما يتسع لهم، عدا أسطح البواخر وقيعانها
"علي فنيتو" في رواية "الميناء القديم" لمحمود صغيري يقضي أجمل سنوات عمره في قيعان ومواقد السفن، يهتم بمكائنها حتى أنه من كثرة حبه لعمله قام أصدقاؤه بتزويجه من إحدى المكائن في مشهد تمثيلي؛ "يومئذ طلب من أحد الإخوة أن يأتي بالمرفع، وفي أقل من ساعة تزوجت السيدة مكينة، وبعد أن وزَّع "جامع" بيده الحلوى قال للجميع، وبما أن العم علي قد تزوج، فلنأخذ جميعًا بأعراف الزواج الشرقية؛ نحن مسلمون ولا يحق لأحد أن ينزل إلى زوجته، خاصة الماركوني، أو أي طلياني آخر"، لهذا دائمًا ما كان يقول: "لا ينسى البحر إلا قليل الأصل".
البحار "علي الزغير" في رواية "صنعاء مدينة مفتوحة"، يُفني حياته وشبابه فوق ظهور البواخر وفي قيعانها، عندما لم يتسع له سواها، شأنه في ذلك شأن معظم المهاجرين اليمنيين، الذين لم يجدوا في الغربة ما يتسع لهم، عدا أسطح البواخر وقيعانها، حيث المحركات وغرف الوقود والفحم حسب د.عبدالحكيم باقيس. البحر الأكثر رأفة بمن يلتجئ إليه حتى "بظلمه المنظم عوضًا عن اليابسة التي يفتقد فيها العدل"، كما يقول صالح الشخصية المركزية في رواية "قرية البتول".
في قصة "العائد من البحر" لزيد دماج، يدور الحوار التالي بين الشيخ وأحد رعيته:
- لقد عاد علي بن علي يا شيخ/ - ومن أين عاد؟/ - عاد من البحر/ - وأين كان يعمل؟
- في البحر، بحارًا متجولًا على باخرة إنجليزية، كما قالوا.
في رواية "يموتون غرباء"، وفي استظهار التاريخ الشخصي لشخصية عبده سعيد يرد هذا التساؤل:
"هل كان ذلك الذي نقله من "الشيخ سعيد" -مدينة صغيرة بالقرب من المخا- إلى عصب صنبوق (سنبوك) أم زعيمة أم مجرد قارب وضع عليه شراع ممزَّق، لكن هناك تاريخ أقدم، ماذا كان يعمل عبده سعيد قبل أن يعبر البحر؟
لكن بمقابل فرص النجاة والحياة التي منحها البحر، فقد أخذ أيضًا من البعض حياتهم. فـ"فضل" في رواية قرية البتول يموت غرقًا، ضمن طاقم الباخرة "ساتيراني" التي كان يعمل فيها مع صالح بين ميناءَي بورتسودان وجدة.
"مبخوت" المهاجر اليمني الفقير في رواية "الميناء القديم" يموت أيضًا في البحر ويروي موته علي فنيتو بقوله:
"بعد أن عمل معنا مبخوت خرجنا من جيبوتي إلى المحيط الهندي، باتجاه الهند. مات مبخوت في الباخرة وكانت موانئ الهند تبعد عنا عدة أيام، وفوجئت ولأول مرة في حياتي بما يسمى بشريعة البحر، طلبوا مني أن أقوم على غسله وتكفينه، لم أستطع، فقام بالواجب جامع، هو وثلاثة من الإخوة الصوماليين، صلينا عليه، وبعد ذلك رميناه في البحر، هذه هي دنيا البحر، كانت الهند بعيدة والحي -كما قيل لي- أفضل عند الله من الميت. مسكين مبخوت، لم يبقَ منه في الدنيا غير اسمه".
"أحمد عبدالله السقاف" صاحب أول رواية يمنية، هاجر إلى أندونيسيا مطلع القرن العشرين "واستقر بها، وراح يمضي سيرته هناك متنقلًا بين أقاليمها التي استوطنتها الجاليات اليمنية والعربية، ويسهم في أثناء ذلك في النهضة الثقافية ونشر التعليم بين المهاجرين العرب في شرق آسيا وينذر حياته لذلك، وعندما قرر بعد مرور سنوات طويلة العودة إلى موطنه أدركته المنية في طريق عودته على ظهر إحدى البواخر في عام 1950"، كما يقول د. باقيس عن الريادة المهمشة في رواية "فتاة قاروت".
وبين الحالتين تتكشف ثالثة، وهي الرغبة في الحياة، والتغلب على صيغة الموت التي يفرضها البحر، على من قذفت بهم الأقدار إلى جوفه:
"... ودار الصراع من أجل البقاء، وجد نفسه يسبح لا يدري إلى أين، وأمامه أناس يسبحون، بعضهم يصارع سكرات الموت، وخلفه أناس يسبحون. كان الناجي الوحيد من ذلك "السنبوك"، أما البعض فقد التقطت جثثهم، والبعض الآخر التهمتهم الأسماك الوحشية، أو أبعدتهم الأمواج إلى أماكن أخرى"، كما يرد في نص "بعد الشمس بخمس" لزيد مطيع دماج.
قبل أن يدخل مثنى نيويورك بتلك الطريقة، كان قد ترك قريته الجبلية إلى عدن، وبعد مكوثه لستة أشهر في المدينة سيركب باخرة باتجاه "مصوع" على الضفة الأخرى من البحر، حيث قضى ثلاث سنوات
عبدالله في رواية "فتاة قاروت"، وفي رحلة اليأس بين سنغافورة وأندونيسيا يسقط في البحر، فينقذه عمه وحبيبته المتخفية، دون أن يعرف عمه، ولم يبصر حبيبته التي كانت معهم في الرحلة تتبعه:
"ورأى نفسه متطرفًا في جلوسه على حافة السطح، فاستمسك بمسمار ريثما يعتدل ويتمكن، فانكسر المسمار فهوى وهو قابض عليه إلى البحر، ولم يشعر بهذا الحادث الفزع إلا واحد من الركاب كان واقفًا بالقرب من عبدالله، فأسرع إلى القبطان وأخبره بالحادث، فحوَّل مجرى السفينة وأمر بإنزال قارب لانتشال الغريق، حتى إن بعض السيدات المسافرات من ركاب الدرجة الثانية أخذتها الحمية والشفقة، وصارت تساعد البحارة في إنزال القارب، وتعمل كواحدٍ منهم، وحين أبطأ النوتية في معالجة إنزال القارب رمى ثوبه واقتحم البحر وذهب يعوم نحو الغريق فأدركه".
"مثنى" في رواية "رجال الثلج" لعبدالناصر مجلي يدخل نيويورك في شتاء عام 1920، سباحة بعد أن قفز من على ظهر سفينة كانت تناور مناورتها الرئيسية استعدادًا للرسو بعد رحلة لها من مرسيليا وعلى ظهرها هذا المهاجر الذي لم يكن يحمل أوراق هوية، بعد أن قضى بضعة أسابيع متخف فيها مثل جرذ، وكادت هذه المغامرة تكلفه حياته بعد إصابته بنزلة برد شديدة، لولا عناية أحد المهاجرين السوريين به لمدة ثلاثة أشهر.
قبل أن يدخل مثنى نيويورك بتلك الطريقة، كان قد ترك قريته الجبلية إلى عدن، وبعد مكوثه لستة أشهر في المدينة سيركب باخرة باتجاه "مصوع" على الضفة الأخرى من البحر، حيث قضى ثلاث سنوات وأثناء ما كان يقوم بتفريغ أحد المراكب مع حمالين آخرين، داهمت الشرطة المركب للبحث عن الذين ليس لهم إقامة، أو يقيمون بطريقة غير قانونية، غير أن عدم انتباه أفراد الشرطة لوجوده داخل المركب نجَّاه، وبقي في داخل المركب الذي غادر الميناء، وحين اكتشف أمره البحارة أرادوا رميه في البحر، غير أن القبطان منعهم، وطلب منه أن يعمل بلقمته، وحين وصل ليفربول كانت حرب كبيرة قد اندلعت، وقد استدعوه ضمن بحارة المركب للتطوع في الحرب ففعل، وحارب إلى جانب البريطانيين لمدة أربعة أعوام.
(يتبع)