أطاحت الحرب وتبعاتها بكثير من النُّظم الاجتماعية التي كانت تبدو راسخة، وجلبَ الصراع المستمر سرعة تحوُّلٍ في التعايش الاجتماعي. ولم تعُد التقاليد والاتجاهات الاجتماعية التي كانت تمنح السكّان الشعورَ بالانتماء ومعنى الحياة، موجودةً إلّا على شكل شذرات، وداخل فيضان مشتّت من الانقسامات والتكتلات الاجتماعية الضيّقة.
لقد جعلت الحربُ الناسَ مشتّتين ومعزولين ومرهقين، يتُوقون للارتباط الوثيق ويهابونه في الوقت نفسه، تعصف بهم، باستمرار، أهواء ونوازع جديدة ومتجدّدة بتجدّد الأحداث واستمرار الصراع، مع ذلك لا يجدون أيّ معنى لوجودهم، ويتلاءَمون مع كثيرٍ من الأدوار بحيث إنهم قلّما يعرفون من هم عمومًا.
إنّ عدم المعرفة هذا، يتعارض مع المفهوم العام للهُويّة، فالهوية لدى علماء النفس تعني الشعور بأنّ المرء هو نفسه، وعند علماء الاجتماع نمط الأدوار لشخصية ما، بينما تختلف نظرة علماء الأنثروبولوجيا إلى الهُوية فينظرون إليها من ناحية الهُويات العِرقية والهُويات الإثنية. ومن هذا الاختلاف في وجهات النظر نحو الهُوية، غدت أقرب ما يكون إلى الأهواء المتعدّدة تعدّدَ الناظرين إليها.
وبالنظر إلى العدد الكبير من الأهواء وعروض الهويات غير المتجانسة، لا بُدّ للفرد أن يجد هويته بنفسه، وأن يتلاءم باستمرار مع المواقف المتغيرة. ذلك أنّه من الصعب وصف الشعور بالهُوية وإيجادها بطريقة مُرْضية، إلّا أنّها تصبح مُدركة بشكل أفضل عندما تغدو مهدّدة بالتحطم من خلال دفعة من التهديدات المحيطة، والأزمات الحياتية المتصاعدة وأطوارها الحرجة، فيتكثّف الإحساس بالوجود الهوياتيّ، ويصبح من الضروري البحث عن صورة الذات وخصائص المجتمع المميزة، والتركيز على نقاط قوته، مثل الروابط الاجتماعية المتينة والمتداخلة، والأهداف والقيم الحياتية المتمازجة، باعتبارها مصدرًا رئيسًا من مصادر القوة التي تسعى الجماهير لامتلاكها.
لذا فعندما تعبّر الجماهير عن رأيها بحزم، وتُعارِض توجّهَ السلطات نحو إيجاد هُويات قد تبتعد عن الهُوية الجمعية، فإنّه من الطبيعي أن تستشعر الجماهير هويتها كشيء محفّز، ومعزّز لوجودها الرافض، فالانغماس الجمعي في إبراز عناصر وسمات الهوية الجامعة، وتذكر الماضي العريق بما فيه من قيم ودلالات مائزة، يؤدّي إلى تجلّي الهوية الجمعية، كتسلسل من الصور الرمزية للهوية، بَدءًا بالوعل، وليس انتهاءً بالأزياء.
ولكن بمجرد أن ينبعث هذا الشعور تنبثق كثيرٌ من الصعوبات لمواجهته، وتسيل الأسئلة عن كينونته وجدواه؛ فهل الهُوية مرادفة لمصطلح الشخصية أو الشعور بالذات أم أنّ الهوية هي حقيقة ظهور الشخصية في أدوارها الاجتماعية؟ أتتجلى الهوية في ثبات الطبع أم في القدرة على بقاء المرء مخلصًا لمبادئه أم أنّ الأمر يتعلق بالجديد الذي يقدّمه للآخرين في المقابلات المختلفة؟
ثم بعد ذلك، هل الهوية فردية أم جماعية؟ إن كانت جماعية، فكيف يمكن تمثيلها؟ هل يمكن اختزالها في رموز بذاتها أو بأزياء دون غيرها؟ هل الهُوية عملية تُعاش وتُخبر؟ أم هي صورة نلتقطها ونتداولها من أجل التأكد بأنفسنا من أنفسنا؟
التركيبة الفعلية لهُوية مجتمعنا، تحمل في داخلها انتماءَين بديهيّين هما مزيج من هوية ما قبل إسلامية وهوية إسلامية، وعاش المجتمع مضطلعًا بهما على السواء، باعتبارهما هوية جامعة هي مزيج منهما معًا، بالإضافة إلى تفاعله المستمر مع ما يستجد من مؤثرات.
من الهُوية إلى الأهواء
إذا كان تصورنا للهُويّة غامضًا بهذا الشكل، ومتأرجحًا بين نوازع وأهواء، وعائمًا بين كل هذه الأسئلة، فإنّ الفرد سرعان ما يفقد الشعور بأنّه هو نفسه، ويتشتّت في بحثه عن هُويته، فينزلق في خطر الهويات المتصارعة والأهواء المتنازعة، ويتولّد في داخله خطر فقدان الحيوية والانفتاح على خبرات جديدة.
لذا فإنّنا لا نستغرب حين نجد في المجتمع كثيرًا من العصابيين الذين تتنازعهم الأهواء فيرسمون صورًا أحادية الجانب عن أنفسهم وعن الآخرين، يدافعون عنها بجمود ضدّ الهويات المخالفة. ليتجلى أنّ من يجاهر بهوية واحدة مع انتمائه الفعلي إلى أكثر من هوية، يجد نفسه في الأخير مهمّشًا ومنبوذًا من الجميع.
تحمل الهويّة في مضمونها لغز الكائن الكل، الخاص بالعصر الديمقراطي في انفتاحه، الهوية معنية بفهم كيف يتعايش الناس فيما بينهم داخل مجتمع قائم على التعدد، كيف يقيم رابطًا للمجتمع، لا يتوقف عن التوسع، كيف يخفّف الخلافات الفردية ويذيب اختلاف أنماط الحياة والآراء.
تمثيلات نازعة للهوية
من المعلوم أنّ التركيبة الفعلية لهُوية مجتمعنا، تحمل في داخلها انتماءَين بديهيين هما مزيج من هوية ما قبل إسلامية وهوية إسلامية، وعاش المجتمع مضطلعًا بهما على السواء، باعتبارهما هوية جامعة هي مزيج منهما معًا، بالإضافة إلى تفاعله المستمر مع ما يستجد من مؤثرات.
والناظر اليوم إلى الصور والأفكار التي يتم ترويجها والتعبير عنها بشكل فج باعتبارها تمثّل الهُوية الجامعة، واعتقادًا أنّها تلهم بالشعور أن يكون الفرد أو الشعب أكثر ممّا هو عليه، أو يتصرّف أكثر ممّا يستطيع، هي في الواقع نازعة للهوية ومثبطة لمقومات الحفاظ عليها، ومزعزعة للشعور الحقيقي بها، لأنّها في جوهرها لا تلبي ذلك الاعتقاد، ولا تستجيب لمتطلبات تحقيق الكينونة أو استعادتها.
إنّ الهوية ليست شيئًا إحصائيًّا على الإطلاق، شيئًا يحظى به المرء ويحمله معه كملكية غير قابلة للضياع، وإنما تخضع لتأرجحات واهتزازات متعدّدة حسب الحالات الداخلية والتفاعلات الاجتماعية الخارجية والمتغيرات السياسية المستمرة.
صحيح أنّه ينبغي الدفاع عن الهُوية بلا انقطاع ضدّ النزوعات التي تحاول طمسها، والأخطار والتبخيسات الخارجية التي تقلّل من مكانتها، إلّا أنّ ذلك لا يعني الانزلاق في تصوّرات ضيّقة وحصرية متزمتة تختزل الهوية بكاملها في انتماء واحد ضيّق يجري الدفاع عنه بضراوة.
الأزياء وتمثيلها للهوية
على الرغم من أنّ المجالات المركزية لخبرة ذاتنا تظلّ ثابتة، فإنّ الهُوية تخضع للتعديلات في واقع أمرها، وهذا ما لا يدركه كثيرٌ من الأشخاص الذين انجرّوا وراء سيلان صور الأزياء الشعبية في برامج التواصل الاجتماعي، وشاركوا فيها باعتبارها رمزًا للهُوية بدون وعيٍ منهم للتحولات التي طرأت عليها على امتداد التاريخ، فالزيّ الشعبي الذي تم تداوله بوصفه نظام معنى يمثّل الهوية الجامعة والمميزة، ولا نزال نحتفظ به كهوية وأصل؛ كان في الأصل بسيطًا لدرجة البدائية، وخضع لتعديلات جوهرية وتأثيرات مختلفة باختلاف الثقافات التي اندمج فيها المجتمع وتفاعل معها على مَرّ الأزمنة حتى وصل إلى الصورة التي هو عليها اليوم.
فلو تأمّلنا الصور التي وصلتنا عن الأزياء المحلية في بداية القرن العشرين، لوجدناها تختلف تمام الاختلاف عن أزياء اليوم التي ندّعي زورًا أنّها رمز لهُويتنا، كما أنّنا نقرأ في كتب التاريخ عن البرود اليمانية، إلّا أنّ الكثير منّا اليوم لا يعرف شكلها، ولا كيف كانت تُرتَدى. بالإضافة إلى أنّ الأزياء تخضع للفروق الفردية المتفاوتة من شخص إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى ضمن النطاق الجغرافي الجامع. كما أنّها أيضًا ظاهرة تقوم على عنصرَي الإبداع والتقليد، وترتبط بالحياة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعوب. لذا فإنّه لا ينبغي النظر إلى الأزياء بوصفها نظام تمثيل وحيد للهوية، بل يتحتم علينا توسيع خبراتنا الآتية بين الفينة والأخرى، فيما يتصل بهويتنا الجامعة، بالنظر إلى المصير الفردي والتاريخي المتبدل، والتفاعل مع مجريات الأحداث ومستجداتها فيما يخدم بناء مستقبل أفضل، ونتهيّأ باستمرار للاندماج مع كل جديد في المحيط الاجتماعي الإنساني الأوسع والأشمل. إنّ الهُوية المحكومة بالأزياء، هي، إذن، هُوية غير ثابتة، بل متحولة على الدوام، تنهي قدرة الماضي المتجسدة في عالم التقاليد، كما تعدل التعويل على المستقبل، وما فيه من احتمالات لعيش أجمل وأكثر رغدًا وهناء.