تبرُز أهمية وسائل الإعلام المرئية كوسيلة اتصالٍ جماهيري، في قدرتها الكبيرة على إكساب الطفل مفاهيم وتصورات جديدة مرتبطة بتنشئته الاجتماعية سلوكيًّا ونفسيًّا، لكن في ظل الحرب الدائرة في البلاد، بات الانتشار الهائل لمشاهد العنف على منصات الإعلام المرئية واضحًا، كأحد تداعيات الحرب على مستقبل الطفل اليمني، الذي وجد نفسه محاطًا ببيئة إعلامية مشحونة بمظاهر العنف يسندها واقعٌ مأساوي.
طفولة خائفة
كان الطفل محمد الشرعبي يعيش حياة طبيعية ويلعب ألعابًا مألوفة بالنسبة للأطفال في مثل عمره، لكن عوَّدته الحرب على حياة مختلفة كليًّا عن تلك التي عرفها سابقًا، حتى أصبح يفضل ارتداء الملابس العسكرية، ويتحين الفرصة التي يقابل فيها أناسًا عسكريين، ليستعرض نفسه في الشارع وهو حاملٌ أسلحتهم.
الطفل محمد، أحد الذين شهدوا واقع الحرب في مدينة تعز (جنوب غربي اليمن)، وتعرض لمحتوى الإعلام الحربي على وسائل الإعلام المرئية، يقول لـ"خيوط": "كنا نعيش حياة طبيعية ونلعب ألعابًا بسيطة مثل الفتاتير وغيرها، لكن الحرب غيّرت فينا أشياء كثيرة، حتى ألعابنا وملابسنا القديمة تغيرت، وكثيرًا ما أجد المتعة وأنا أحمل السلاح في الشارع، لأبدو كالمقاتلين الشجعان الذين يظهرون على التلفاز".
يذكر محمد، أنه يشاهد التلفاز رفقة والده؛ مشاهد المعارك بين طرفَي الحرب، ويسمع "الزوامل" (نوع من أناشيد الحرب الشعبية)؛ يقول إنها كانت تبعث فيه الحماس الذي يدفعه إلى الخروج للشارع والعراك مع أصدقائه. يستدرك: "أحيانًا كثيرة كنت أشعر بالخوف وأنا أشاهد أشلاء القتلى والجرحى على شاشة التلفاز، حتى إنني أرى مشاهد الحرب وأسمع أصواتها أثناء النوم".
في الوقت الذي كان فيه "محمد" يتحفز للحرب معنويًّا من جراء تعرضه لمشاهد العنف الذي يجسده محتوى الإعلام الحربي لأطراف الصراع، كان أصدقاؤه في الخارج يعيشون التحوَّل ذاته، "كنا نلعب الحُجنجلي، واليوم أشكِّل مع أصدقائي فريقين، يمثل الأول دور جماعة أنصار الله (الحوثيين)، فيما يمثل الفريق الآخر دور قوات الحكومة، ثم نجسد معركة مصغرة بمسدسات بلاستيكية، وحدث أن أُصيب أحد رفقائي في عينه اليسرى أثناء اللعب"، يضيف.
كثيرٌ من الأطفال يحاولون تقليد الشخصيات المشهورة بالصراع، وهو ما يؤثر عليهم بشكل عام من حيث تقمصهم لتلك الشخصيات التي ربما تكون شريرة وعدوانية، ولا تتناسب مع قيم وثقافة المجتمع.
آثار نفسية
عادة ما يتعرض الأطفال لمواد الإعلام ذات الطابع الحربي دون قصد، فهي تبدأ بشكل عفوي أثناء مشاهدتهم مع الكبار، وجلوسهم المتواصل معهم، لينتهي بهم المطاف إلى تجسيد صورة ذهنية ترتبط بحالة الأطفال النفسية المُستقبِلة لهذه المواد.
الدكتور عدنان القاضي _أستاذ مشارك في قسم الإرشاد النفسي بجامعة تعز_ يؤكد في حديث لـ"خيوط" أن الطفل كلما شاهد التلفاز بشكل أكثر، كان تأثيره أعمق، خاصة إذا كان المعروض ممزوجًا بمشاهد متعلقة بالحروب والعنف والقتل، فهي تزرع فيه شخصيةً إجرامية.
يلفت القاضي، إلى أن من سلبيات التعرض لتلك المشاهد، أن الأطفال يتشربون من خلالها مفهوم الصراع بشكل عام، وأن القوة هي المصدر الوحيد لحل مشاكلهم، وهذا ناتج عن تقمصهم للمادة الإعلامية التي تبثّ كثيرًا من مشاهد الحرب والصراع.
وأوضح أن كثيرًا من الأطفال يحاولون تقليد الشخصيات المشهورة بالعنف، وهو ما يؤثر عليهم بشكل عام من حيث تقمصهم لتلك الشخصيات التي ربما تكون شريرة وعدوانية، ولا تتناسب مع قيم وثقافة المجتمع.
فيما يرى أن مشاهد العنف الناتجة عن الإعلام الذي يبث الحروب، يزيد نسبة التوتر والانفعال لدى كثير من الأطفال، خاصة عند المداومة على مشاهدتها، أو اعتياد مشاهدها قبل النوم، حيث يأتي تأثيرُها غالبًا على هيئة كوابيس في أحلامهم، وقد تؤدي أحيانًا إلى التبول اللاإرادي، مبيّنًا أن الأطفال عادة ما يشعرون بالسلبية والخوف من المجهول، جراء تعرضهم لمشاهد الإعلام الحربية، خاصة إذا رافق البث مشاهد إجرامية، تُفقد الأطفال حاجتهم للمتعة واللعب.
وبحسب القاضي، فإن "كثيرًا من الأطفال يصابون بما يسمى «التبلد الانفعالي»، ما يعني فقدان الإحساس بالآخر، بسبب مشاهدته كثيرًا من الضحايا والقتل، ما ينتج عنه -مستقبلًا- تأثيرٌ سلبي لدى الطفل، حيث يفقد الاهتمام بأي شخص كان، ولا يقدم المساعدة لأي شخص يطلبها، ليبدأ بذلك تكوين «الشخصية السيكوباتية/ الإجرامية» عندما يكبر الطفل".
وأشار إلى أن "مشاهدة محتوى الإعلام الحربي أو المصحوب بالقتل والعنف بأي شكل من الأشكال، يولّد لدى الطفل ما يسمى بـ«قلق ما بعد الصدمة والفوبيا» من خلال ما يرافق الإعلام الحربي من مشاهد مخيفة وصادمة في الحياة، كالموتى والجرحى، فجميعها لا تتناسب وعمر الطفل، ما يسبب له -مستقبلًا- التوترَ الدائم وتوقع الشر".
من الناحية الذهنية، قال القاضي: "يصاب الطفل بالشرود المستمر وفقدان التركيز وضعف التحصيل، وقد يصل به المطاف إلى الانطواء والانعزال عن رفاقه الذين هم في نفس عمره"، منوهًا إلى ضرورة حرص الأهل دائمًا على تقليل مشاهدة الأطفال للإعلام الذي يبث مشاهد حربية، وتحري إعطائهم المفيد فقط من وسائل الإعلام المرئي.
آثار اجتماعية
وفي السياق، يرى أخصائي علم الاجتماع ، الدكتور حمود البكاري، أن تعرض الأطفال في عمر التنشئة إلى وسائل الإعلام الحربية، يعد تصرفًا سلبيًّا جدًّا؛ ذلك لأن قابلية تأثرهم بهذا المحتوى كبيرة جدًّا، فهي تزيد من ميولهم نحو سلوك العنف وجعله منهاجًا في حياتهم.
يوضح البكاري لـ"خيوط"، أن "خطورة تعرض الأطفال لمثل هذه المواد تتجسد فيما تسببه لهم من تنمية أفكارٍ عدوانية، مع ذلك يبدو أنه من الصعب تعديل سلوك العنف لدى الطفل، الناتج عن تعرضه لمواد حربية، بل قد يتحول إلى خطر يهدد الفرد والأسرة والمجتمع".
ويختم البكاري بالتأكيد على واجب الأسرة في تجنب مشاهدة العنف من أي نوع، حتى على مستوى المسلسلات والألعاب الإلكترونية أمام الأطفال، حرصًا على تنشئتهم تنشئةً سليمة.