(2-2)
استبدل حلمًا متواضعًا بمدن الثلج البعيد
حينما عاد محمد عبدالمؤمن طفلًا مع ثمانية إخوة من البنات والبنين، بمعية أب مهاجر ينتسب لغرب البيضاء، وأمٍّ أثيوبية ذات جذور حضرمية، عانى كثيرًا من تمييز أقرانه الصغار في مدرسة (نشوان بن سعيد)، لكنه على خطى أقربائه المولَّدين تعلّمَ اللغة بلهجتها الدارجة سريعًا، وتعلم من أمِّه الكثير من الكلمات الإيطالية التي اكتسبتها حينما كانت طالبة بمدرسة خيرية مسائية، الكلمات التي ستعينه لاحقًا حينما صار مرشدًا سياحيًّا مع إحدى وكالات السفر المحلية.
أخذ من أبيه بنيته اليابسة ولقبه العائلي، ومن أمّه سمرتها الفاتحة، ومن بلبلة الألسن لغته الهجينة. تزوَّج ببنت موَّلدة مثله، كافحت بقسوة وعملت في أكثر من مهنة بسيطة، وبعد ولادتها الخامسة تُوفّيَت، وخلَّفت وراءها زوجًا وفيًّا، كابد مع شقيقته الكبرى العانس في تربية الأولاد الخمسة، وجدوا بعد سنوات طويلة منافذ متعددة للهجرة، رفض الأب والعمَّة لاحقًا دعواتهم للحاق بمواطن جديدة في شمال العالم البارد.
الدولارات الخمس المئة التي تصله بانتظام من كندا وأمريكا، تعينه على نفقات المعيشة، فمنها يدفع إيجار غرفته المتواضعة وأدوية أمراضه المزمنة وملابسه الأنيقة وطعامه القليل، وما يفيض منها يمنحها أصدقاءه المتعبين في المقهى على هيئة سُلف لا يطالبهم بها في العادة.
المعاقون الثلاثة المداومون في المقهى هم أصدقاؤه القريبون، يتفنّن في إطعامهم بيديه، ويمازحهم بكثير من الودّ ويستخدمهم من وقت لآخر كدروع ورماح في عراكاته الفكاهية مع مسِنّين يربطون بعضهم بأكياس بلاستيكية وأقمشة، من أجل إضحاك روّاد المقهى.
حكمة الأم وكروشهم
منذ خمسة أعوام، بدأت أسنانه وضروسه بالتساقط، ولم يتبقَّ منها اليوم سوى ناب وحيد يذكّره بالقات والسجائر الرخيصة التي أدمنها، ولم يعمل بإرشادات الطبيب التي تحثّه على الإقلاع عنها، مثلما لم يقلع أيضًا عن تناول حلاوة الهريسة المشبعة بالزيت الرخيص، رغم دخوله في غيبوبات سكرية متتالية.
يشترك مع ثلاثة من روّاد المقهى المعتقين بذات الاسم، غير أنّ تاريخه الهجروي وعمله خياطًا في مدينة صحراوية في أقصى شمال العربية السعودية، ثم صاحب معرض ملابس نسائية في واحة الهفوف بشرقها، وعودته محمّلًا بسيارتَي نقل كلَّ بضائع محله في الشهر الأول لحرب الخليج الثانية- يضعه في مرتبة مهاجر سابق، أثخنه المندي والرز البسمتي، كما يقول.
تزوّج بالثانية وتآكُل رأس ماله رويدًا رويدًا، قادَه للعمل مسوِّقًا للأجهزة الإلكترونية مع ابن عم له، ثم دلَّال عقارات، ومنذ اندلاع الحرب صار بلا عمل تقريبًا، ويعيش من أعمال دلالة متنوعة، بعد أن استبدّ به السكر، وبسببه أعاد النظر بالقضية الفلسطينية، لأنّ الزوجة الفلسطينية لصاحب البيت المستأجر منه، لم تترك قسمًا للشرطة في ثلاث مديريات إلّا وقدمت به بلاغات متكررة، تطالبه بإخلاء شقّتها لأنّه يتبول في أي مكان في محيط البيت، ولم تراعِ نوبات السكر التي تباغته في كلِّ حين، وامتلاء مثانته المتكرر، ولا تتركه يصل الحمام.
كثيرًا ما يستردّ تاريخ أمه الحكائي ومشافهاتها الحكيمة في أحوال الحياة وأهوالها، ومنها قولها عن بطن الإنسان: "إذا ضممتها خاتم، وإذا فتحتها جهنم"، ويقولها عندما يرى أحد المكرِّشِين من أصدقائه في المقهى، وخصوصًا عند مرور عبدالنور الذي يعمل في محل لبيع الخردوات بحمولته الكرشية المهولة.
السبتمبري الذي يكشط تاريخ الدهن المحروق
ينتظر ناصر السبتمبري حتى يفرغ عمال المقهى من وردية الصباح، ليقوم بلبس المريلة الزرقاء إيذانًا بحلول وقت "دَعْجِه" صاج تحضير الخبز الواسع (الطاوة). يبدأ عمله بكشطه بحجَرة خشنة مبلولة بالصابون السائل، حتى يزيل كثافة الدهن المحروق من سطحها وحوافها، ثم يقوم بغسلها جيدًا وتجفيفها، استعدادًا لوردية الليل.
هو ليس عاملًا في المقهى، لكنّه صديق للجنَّاتي منذ كان الأخير عاملًا في مخبازة بشارع الزُّبيري قبل خمسين عامًا، وكان هو يعمل في ثلاجة تبريد في الجوار، بعد تركه للجيش بعد أحداث أغسطس 1968م، رغم انتمائه لإحدى المناطق القبلية بالقرب من صنعاء.
حاول في مرة واحدة الذهاب إلى السعودية للعمل ميكانيكيًّا، لكنه سرعان ما عاد إلى صنعاء، ليعمل في مهن متعددة (نجارة وسباكة وميكانيك)، ومنذ عودته صار صديقًا للجناتي وعشرات العمال الدين ينتمون إلى اليمن الأوسط، فصار يلبس على طريقتهم ومتطبعًا بطباعهم.
لم يتزوج، وهيئته الشابة لا تفصح عن عمره الحقيقي الذي يقترب من السبعين، ويرى على الدوام أنّ مشكلة اليمن هي تسلّط الجهَلَة والمتخلفين على شؤون الحكم فيها، ولم يزل يراهن على ولادة يمن جديد كما بشرت به سبتمبر الذي تلقّب به منذ كان يطارد المهربين في نواحي البقع.
إرث الجد الشركسي
اللقب الذي تحمله العائلة، ويتصل بحجر كريم لا صلة له بإرث العبودية كما يظن البعض، فالبشرة البيضاء التي يحملها أفراد العائلة من الجنسين تنفي هذا الاستنتاج وتعود لجدّ أبيض ينتش الدم من وجنتيه السمينتين؛ قَدِم مع الجيش العثماني في غزوه الثاني لليمن في ستينيات القرن التاسع عشر، عمل أول الأمر سائسًا لبغال قائم مقام العدين، حيث الأرض الزراعية الخصبة ووفيرة الإنتاج، والتي تشتهر أيضًا بالنساء الجميلات، حيث تزوّج بإحدى بنات الفلاحين الذين يتقاضون عند حاكم المنطقة.
مات بالملاريا في وادي الدور بعد عامين من زواجه، تاركًا خلفه ولدًا رضيعًا وجنينًا ثانيًا ببطن الأمّ، وحينما غادرت القوات التركية كان عبدالله الرضيع قد بلغ الأربعين من العمر، وصار لديه خمسة أبناء يحملون سمة الجدّ الشركسية ولقبه، أنجبهم من زوجة قريبة لأمه.
انتقل عبدالله الكبير إلى عاصمة اللواء القديم عاملًا في دار الحاكم، وهناك تزوّج بإحدى بنات زميل له في الدار، أنجب منها ثلاثة أولاد، مشكِّلًا فرعًا ثانيًا للعائلة، وحينما انتقل الحاكم منتصف الثلاثينيات إلى رداع، أخذه معه وهو على عتبة الستين، وهناك تزوّج للمرة الثالثة بابنة فلاح أرملة، تعرف على والدها حينما خرج (ناظرة) مع الحاكم لتثمين محصول الأرض، فكوَّن الفرع الثالث من خلال ولد وحيد أنجبته منه.
بعد أكثر من قرن ونصف من قدوم الجدّ الأكبر إلى اليمن، صارت عائلته تتجاوز الألفي نفس، موزعة على ثلاث محافظات، ويجمعهم عاقلهم عبدالله الصغير، الذي يصل إلى المقهى في السابعة تمامًا ويغادره مشيًا، على قدمين متعبتين، إلى مقرّ وظيفته في المعمل الحكومي، يتطيّر من كلِّ كلمة تشير إلى صحته وشكله، لكنه يضفي على جلسات المقهى الكثير من المرح بقفشاته وتصويراته البليغة التي لا تخلو من عجمةٍ يقول إنّها تسلّلت إليه من لسان جدّه السائس الأحمر.
الحفيدة والجد
بعد أنّ مرَّ بحالة من الاكتئاب منحته حفيدته الصغيرة -ذات الأعوام الثلاثة- الكثير من الحيوية منذ عادت مع وسيط من عدن، بعد أنّ غيَّبها أحد القادة الأمنيين هناك لستة أشهر، بحجّة أنّ الذي كان يرعاها هناك زوج أمها وليس والدها الأصلي. أخذها القائد -ذات ظهيرة قائضة- من السيارة حينما كانت تجلس وحيدة بداخلها أمام محل للصرافة. احتجز القائد السيارة مع البنت، وأخفى الرجل ونقوده التي استلمها من الصراف.
قال القائد: "إنّ بلاغًا أمنيًّا يشتبه بالرجل والسيارة وصِلَتَه بالطفلة، ومع ذلك لم يرضخ لأمر فوقي بالإفراج عنهما مع السيارة في الأسبوع الأول من الاحتجاز، بل ساوم الرجل على السيارة البرادو ذات الدفع الرباعي، التي لا يزال يحتجزها، وقال له بالحرف الواحد وأمام كثيرين، إنّه إذا لم يوقع على مكاتبة ببيعه السيارة سيلصق به تهمة الإرهاب، وتعاونه مع تنظيم القاعدة.
قال الجدّ إنّ صلته بقائد عسكري كبير تعرف عليه بصنعاء بعد أحداث يناير 1986م، بعد هروبه إليها، هي التي سهّلت عملية الإفراج عن الطفلة وعمّها، لكنّها لم تنجح في إطلاق السيارة التي يتشبّث بها القائد العسكري.
معظم سنوات خدمته العسكرية الطويلة، قضاها في تعز، التي عمل فيها لثلاثين عامًا، تتصل بخدمته بالوحدات العديدة التي عمل فيها ابتداء من معسكر خالد بمفرق المخا، ثم موقع بذباب، وثالث بباب المندب، ورابع بالراهدة، وصولًا إلى المطار القديم حين كانت المساحات المحيطة بها مجموعة من الأحراش.
يروي الكثير من القصص، ومنها أنّه حين كان يعمل في المطار، كان يطلب منهم قائد المعسكر أن يخرجوا في دوريات لاصطياد الطيور والحيوانات البرية منذ الصباح، وفي إحدى المرات اصطادوا لبوة صغيرة في سفح قريب من الموقع، واتفق هو وزميله على أن يخلسا جلدها بالجنبية وتقطيعها وإخفاء رأسها، وتقديمها لطباخ القائد باعتبارها تيسًا جبليًّا، وحين تأخّر نضجها حتى المغرب تعلّلا بفحولته التي تؤخّر نضجه، وفي المساء تعرّض القائد والقريبين منه لنوبة إسهال شديدة، استدعت إسعافهم على وجه السرعة إلى مستشفى الجمهوري، وتحويلهما هو ورفيقه لحبس انفرادي، لم يحررهما منه سوى نقل القائد بعد شهرين إلى ذمار بعد محاولة انقلاب في صنعاء، ونقله مع رفيقه إلى منطقة ميدي في شمال تهامة.
جيوب المقاول المفلس
في كل صباح، يحضر عبدالرب الصالحي إلى المقهى بذات الهيئة تقريبًا -إزار حائل يلبسه إلى ما فوق الركبة، وجاكت عسكري آسيوي بجيوب عريضة يلبسها فوق "تي شيرت" رياضي عليه شعار أحد الأندية الكبيرة، وجزمة بلاستيكية مثقبة– يحمل كيسًا قماشيًّا به ملعقة إسمنت ميزان مائي، وفي جيوب جاكته يحمل أنواعًا رخيصة من الحلويات الملبَّسة، يقوم بتوزيعها على الأطفال وهو في طريقه إلى المقهى.
فيما مضى، كان يعمل مقاولًا صغيرًا مثل الكثير من أبناء قريته في فترة الهجرة النفطية، وحتى بعد عودته قبل ثلاثين عامًا، عمل برأس مال صغير بذات المهنة، لكن مع أزمات البلاد المتلاحقة بدأ يعمل في الأعمال البسيطة التي يقتات منها، وشراء الحلويات الصغيرة للأطفال.
لديه مجموعة مميزة من الأصدقاء في المقهى، ينضمّون إليه كلما جلس إلى الطاولة، يشاركونه طعامه البسيط وحديثه في شتى القضايا اليومية، وفي مقدمتها السياسة التي يظهر عند الخوض في موضوعاتها كمثقف صاحب جذور حزبية بعيدة.
طاولة يتوارثها المتذمّرون
الطاولة البعيدة التي كانت مخصصة للصحافيين والأدباء والمثقفين الشبّان في المساءات البعيدة قبل ربع قرن، ويجيئون إليها من مساكنهم القريبة أو من مقرات الصحف ونقابة الصحافيين، صارت اليوم تخص مجموعة من المثقفين المعتقين الذين لم يغادروا المدينة، ووجدوا في المقهى ملاذًا مشجّعًا لتزجية الكثير من ساعات النهار في الحديث واستجرار الذكريات، بعد أن فقدوا أعمالهم، إمّا بالاستبدال أو بالتقاعد القسري، مثقّفون ينتمون لكلّ اليمن تقريبًا من صنعاء وتعز وإب وذمار وعدن، لم تبدّد مشاعر صداقاتهم البعيدة أهوالُ الحرب وانقسامات السياسية التي تغذّيها الكراهية، ولا يزالون يحلمون بعودة اليمن إلى هُويته الجامعة التي أراد لها فرقاء السياسة هويات مجزّأة يقتات مسيّروها من دمّ اليمنيين وآلامهم.