تسردُ روايةُ الكاتب اليمنيّ عز الدين العامري "عيون زرق"(1)، قصةَ مواطنٍ يمنيّ، عاش حياته على أربع حقبٍ تاريخية، له في كلّ حقبةٍ منها اسمٌ خاصٌّ بها مستمدٌّ منها؛ ارتبطت الحقبةُ الأولى، بطفولته البائسة في واحدةٍ من قرى محافظة تعز على حدود الشطر الجنوبي من الوطن، كان اسمه فيها "محمد". والثانية تضمّنَتْ حياته في عدن، التي تقع، هي والمحميات الجنوبية، ضمن نفوذ السيطرة الاستعمارية الإنجليزية، واسمه فيها كان "بيتر". أما الثالثة فهي حياته بعد عودته إلى قريته وباسم "حكيم". ومثّلت السنواتُ الأخيرة من عمره رابعة هذه الحقب، ولم يرد منها سوى استعادته لاسمه الحقيقي القديم "محمد". وقد اعتمد السياق السردي اسم "حكيم"، وهو ما استقرّت عليه هذه المقاربة النقدية.
بدأ "حكيم" طفولته راعيًا لأغنام أبيه، الذي أسرف في تعنيفه وضربه، حتى نفرَ من بيئته، وقرر الهروب إلى المجهول. صادف في طريقه أسرتين مسافرتين إلى عدن، فاندسّ بين أطفالهما، استسلم للنوم طيلة السفر، ولم يشعر بما ترتّب على الإجراءات الأمنية، في أول نقطةٍ تابعةٍ للإنجليز، الذين اتضح لهم أمره كمجهولٍ، ووجد فيه ضابطٌ لم يُرْزَقْ بولدٍ طيلة سنواتٍ تعويضًا مناسبًا، فتبنّاه. عاش الطفل مع أبيه الجديد، الذي أخذه معه إلى عدن حيث يقيم، وهناك فرحت به زوجةُ الضابط؛ فكانت أمًّا له. تعلّم، وكبر، وعاش تجربةَ حُبٍّ مع ابنة جارهم "أنجيلا". شغل وظيفةً حكوميةً عسكريةً استخباريةً في مكتب أبيه، واضطلع بالمسؤوليات التي كُلِّف بها في التصدي للكفاح المسلح، الذي أعلنته المقاومة الوطنية ضدّ المستعمِر. تسارعت أحداثُ الحربِ والعنف، والعنف المضادّ، وفي واحدةٍ من دورات المواجهة، أشفق الشابُّ على فدائيٍّ مصابٍ، أسعفه بمركبته العسكرية، متجاوزًا مهمته الرسمية، مستجيبًا للنزعة الإنسانية فيه، مدّعيًا أنّ المصاب أحدُ عملائهم. ومِن حينها استمرّت علاقته بالرجل وترسّختْ بينهما صداقةٌ حميمة. غدر به صديقُه حينما اغتال أبيه -الضابط الإنجليزي الذي تبنّاه- فحزن، ولم يبرأ من عذاب ضميره. ساءت أحوال أمه الإنجليزية بعد الاغتيال، فسافر بها إلى بلدها، وعاد إلى عدن، أوحشه الفراغ الكبير، فقرر العودة إلى قريته، سافرَ غيرَ مودِّعٍ حبيبتَه "أنجيلا". طيلة الطريق إلى مسقط رأسه، كان شوقهُ عارمًا إلى أسرته، لكنه انصدم حينما وصلَ فناءَ منزلهم الخاوي على عروشه، لا أحد يسكنهُ منذ وفاة أبويه. أُرشِد إلى بيت خاله، الذي استقبله، وزَوّجَهُ -بعد أيامٍ- من ابنته الكبرى، فأنجب منها ابنه "عمر"، الذي شبّ، وتزوج، وأنجب، ثم سافر إلى إنجلترا بحثًا عن الرزق، وتولّى الجدّ "حكيم" رعاية أحفاده وأسرة ابنه المهاجر الذي عاد بعد سنوات عشر. استمرّت حياة الأسرة الكبيرة، برعاية الجد الذي لم يتخلَّ عمّا اعتاد عليه من روتينٍ يوميٍّ وزَّعه على القراءة وكتابة مذكراته. زاره صديقه القديم -قاتل أبيه الإنجليزي- سُعِد به، واتفقا مبدئيًّا على طباعة دفتر مذكراته. وفي زيارةِ صديقه الثانية نفّذا اتفاقهما، إذ ترك "حكيم" القرية إلى مدينة تعز، فطبع فيها مذكراته، واستخرج جوازًا يمنيًّا باسمه القديم "محمد". لم يعد إلى القرية، واضطربت الأنباءُ حولَ مصيره، فيما كانت نسخةٌ من مذكراته ملقاةً في غرفته، ولا عِلمَ لأحدٍ بالكيفية التي وصلتْ بها.
الرؤيةُ السرديّة
بُنِيَت الرؤيةُ السردية -في هذا العمل- بناءً متعدِّدَ المحاور: فهي إدانةٌ للعنف الأسريّ، الذي يُفضي إلى إصابةِ الطفل بعُقَدٍ نفسيّةٍ تبعاتُها مؤسفةٌ، أقسى صورها أن يهرب الطفل إلى المجهول. وهي مكاشفةٌ لحقيقةِ النفس البشرية، التي ليس في مستطاعها -مهما تسامت- التحرّرُ المطلقُ، من ازدواجيةِ الخير والشر، اللذين جُبلتْ عليهما؛ فقد قادت قيمةُ المساعدةِ والتسامح إلى القضاءِ على الضابط الإنجليزي، وتخلّى "حكيم" عن أمه الإنجليزية لصالح أمّه الحقيقية، التي لم يجدها في القرية بعد عودته إليها. وفعل الأمر ذاته مع حبيبته الإنجليزية، لصالح أخرى من عائلته القديمة؛ تواؤمًا مع وضعه الجديد. وفي مثل هذه المكاشفة، يظهرُ الاختلالُ في منظومةِ القيمِ الإنسانية؛ تداعيًا من الذات البشرية، مع حتمياتٍ اجتماعيةٍ أو سياسيةٍ، على حسابِ قيمٍ إنسانيةٍ، ورؤًى موضوعيةٍ، بوعي أو بغير وعي.
ويندرجُ في مكونات الرؤية السردية -هذه- الموقفُ من الهجرة، بتوصيفها السلبي؛ حيث لا يجني المهاجرُ سوى العذابِ وصفرية الجدوى، برزتْ صورٌ من هذا التوصيف، بشكلٍ مباشرٍ في هجرة "عمر" إلى إنجلترا، ومعاناته هناك عقدة الأجنبي المُهَمَّشِ المُهَدَّدِ المنتهي مصيرُه بالاستغناء عنه. كما ظهرتْ بشكلٍ غير مباشرٍ، في التداعيات التي ترتّبتْ على مبارحة الطفل الهارب قريتَه، حيث عانى أبواه الحزنَ عليه حتى وفاتهما، وعانى هو انفصام شخصيته، وازدواجيتها بين: ثقافتين، ورؤيتين متناقضتين، وحياتين لم يلمسْ في واحدةٍ منهما استقلاليةً وتناغمًا مع محيطه الاجتماعي والسياسي.
لقد تعاطَت الروايةُ مع رؤيتين متصادمتين: رؤية الانتماء إلى الأرض، والرؤية التي يجد فيها المستعمر واقعيةً لوجوده في غير أرضه. وعانى "حكيم" هذا التصادم؛ فعاش منفصم الشخصية بين الرؤيتين. وبرز في هذا الانفصامِ تباينُ الثقافتين: ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، وثقافة المجتمع الذي آلت إليه حياتُهُ، وانتمتْ إليها هُويتُهُ المنقوصة.
حاولَت الرؤيةُ السرديّةُ الاقترابَ من مساحةٍ طَمَرَتْها الحماسةُ الوطنية والشعارات الكفاحيةِ الانتمائيةِ إلى الأرض في وجه المستعمر، نقَّبَتْ في هذه المساحة، فلامست بعضًا من مضامينها، كالقيمِ الإنسانيةِ الجوهرية في الإنسان، بمعزلٍ عن الحتميات الجغرافية، إذ رقّ قلبُ الضابطِ الإنجليزي للطفل المجهول، تبنّاه ليملأ فراغ الإحساس بالأبوّة، وجَدَ الطفلُ في أبويه الجديدين حنانًا غامرًا لم يعتد عليه في حياته مع أبويه الحقيقيين، عاش حياته معهما في سعادةٍ لا حدود لها، ويسّرا له مقوماتِ الحياة الراقية، فلاحتْ موازنةٌ غيرُ مباشرةٍ بين حياتين، حياةٍ يمنيةٍ بائسةٍ قَدِمَ منها الطفل الهارب، وحياةٍ عصريةٍ راقيةٍ تعيشها الأسرةُ الإنجليزيةُ في عدن، انعكستْ ثقافةُ الأسرة في الولد المُتَبَنَّى، وزرعت فيه قيمها التي كانت منها قيمة مساعدة الآخرين، والمتسبّبة في اغتيال أبيه، على يد مقاومٍ غدر بمن ساعده وأنقذه من الموت.
في المساحةِ ذاتها، برزت مظاهرُ موضوعيةٌ متعلقةٌ بصورةِ عدن الحضارية الراقية كـ: البناء، والنظام، والتعليم المزدهر، ودور المستعمر في هذه الحياة المستقرة المزدهرة مقارنةً بحال المناطق الأخرى خارج عدن، سواءٌ القريبةُ منها من السلطنات، أو البعيدة عنها في الشطر الشمالي من الوطن، حيث البؤس والفقر والجهل والمرض. وسرعان ما طغت الرؤيةُ الحماسيةُ، التي ربطت كل ذلك بالاستراتيجيةِ الاستعماريةِ الهادفةِ إلى الاستحواذِ على مركزيةِ المكان ومحوريته العالمية، فلم يخلُ هذا الربطُ من موضوعيةٍ استراتيجيةٍ، كما لم يخلُ -في الوقت ذاته- من تهميشٍ للرؤيةِ الموضوعيةِ في الصورةِ الزاهية، ولو في أضيقِ زاويةٍ من زواياها.
لقد ظهرتْ -في هذا العمل- أجزاءٌ من هاتين الصورتين: القيم الإنسانية المتجاوزة للجغرافيا، والدور الإيجابي في العمران الذي اضطلع به المستعمر. وهو الظهور الذي تلامسه -بمحدوديةٍ، من حينٍ إلى آخر- كتاباتٌ يمنيةٌ، تنحو منحـًى مُتَخَفِّفًا من إثقالات الانتماء. من ذلك ما تطرّق إليه الكاتب نجيب مقبل، في سرده لقصةٍ عاشها في طفولته: كان يلعب مع أخيه الأصغر منه وأطفالٍ آخرين، تفرّقوا فَزِعِينَ لحظةَ اشتعالِ مواجهةٍ داميةٍ بين الفدائيين وبين المحتل، عاد إلى المنزل، وتاه أخوه الصغير، وبينما القلق يخسفُ بالأسرةِ على مصير طفلها، إذ بطرقاتٍ قويةٍ على باب منزلها، فتحتْ الباب، كان خلفه ضابطٌ إنجليزيٌّ، تداعى مع نزعته الإنسانية؛ فأوصل الطفلَ التائه على كتفه إلى أسرته(2).
لقد تأثرتْ ألوانُ هاتين الصورتين القيمية والحضارية، وتمزقتْ كثيرٌ من أجزائهما، بآثار الحرب، ومساراتهما السياسية، وأساليبهما الاستقوائية الاستحواذية، الاستعمارية والثورية في آنٍ واحد، بشكلٍ أو بآخر.
الحُبُّ في أتونِ الحربِ والانتماء
ظهر الحب في علاقةِ "حكيم/ بيتر" مع "أنجيلا" في عدن، كانت عاطفتهما في الذروة من التماهي، وكان الفشل هو مصيرها؛ فاضطراب القيم، واختلاف الثقافتين، وانفصام شخصية الشاب بين انتماءين، كل ذلك حال دون وفائه لحبيبته. تخلّى عنها، وانتصر لعودته إلى قريته. حينما وصل محيطها، لفتَ انتباهَهُ تجمعُ فتياتٍ حول بئرها، اقترب، واحدةٌ منهنّ فقط لم تبتعد عن البئر لحظة اقترابه منها، كان يهُمُّ بالسؤال عن أسرتها، لكنه ارتبك، فسألها عن سرِّ بقائها غير فاعلةٍ مثل رفيقاتها، ردّتْ عليه بأنها ابنة شيخ القرية. غادر المكان، وإعجابه بها يداعب قلبه، مستأنسًا بموقفها المختلف، والذي وجد فيه شيئًا غامضًا يدفعه إليها كحبيبةٍ وزوجةٍ مستقبلية. لقد غفل عن الاستضاءة بجوابها حتى يصل إلى أقرب تفسيرٍ لموقفها، فهي لم تفعل مثلهن؛ لثقتها بأنّها في مأمنٍ من أيّ خطرٍ، مستندة على انتمائها إلى أسرةٍ ذاتِ سلطةٍ ونفوذ. أما رفيقاتها، فالأمرُ مختلفٌ معهنّ، فهنّ بناتُ البسطاءِ من الناس، حيث لا سلطة لهم ولا قوة، لذلك يَلُذْنَ بالهروب، كإجراءٍ احتمائيٍّ غير واعٍ، كلما وجَدْنَ أنّ على مقربةٍ منهنّ أمرًا غير مألوفٍ لهن.
استقرت عاطفتهُ على ابنة خاله الكبرى، بعد أن وقع في قلبها، ولَمَسَ في مودتها ما يحيل على حبها له، واستوعب تلميحات خاله على المائدة التي يتحَلّقُ حولها كلُّ أفرادِ العائلة بمن فيهم بناتُها، ومثله فهمَت الكبرى فحوى التلميح؛ فتركت المائدة خجلًا. وقع في حيرةٍ من أمره، كان قلبه قد مال إلى ابنة الشيخ التي أعجب بموقفها، استشعر معنى اختياره لها وتخلِّيه عن بنات خاله، وما سيتركه ذلك من أثرٍ سلبي عليهن، فمال إلى التعاطي مع ما لَمّح به خالُه، فاتحه في الأمر، وجرت ترتيباتُ الزواج.
تقنياتٌ سردية
على قسمين اثنين، وزّعت الروايةُ أحداثها الدائرة حول حياة شخصيتها الرئيسة. في القسم الأول، وعلى لسان الشخصية "حكيم"، تساردت قصتُهُ منذ هروبه حتى عودته إلى القرية وزواجه فيها وإنجابه ابنه "عمر"، ويمكن القول إنّ هذا القسم هو الجزء الذي أشارت الروايةُ إلى أنّها ستستأنسُ بمذكراتِ "حكيم" في كتابته. أما القسم الثاني، فقد كان استئنافًا لسرد أحداثِ القصة على لسان الراوي العليم، بتفاصيلها المتعلقة بحياة "عمر" وزواجه وإنجابه وهجرته، ثم الشطر الأخير من حياة "حكيم" في القرية، حتى اختفائه في سفره مع صديقه القديم.
لقد تناوب القسمان في تفاصيلهما، منذ بداية العمل حتى نهايته، فبعد فصلٍ من القسم الأول، يُسْرَدُ فصلٌ من القسم الثاني، ثم فصلٌ من القسم الأول، ثم من الثاني. وعلى هذه المنهجية التوزيعية سُردت الفصولُ كلُّها، باستثناءِ الفصلين: الأول، والثاني، واللذين كانا بدايةً للقسم الثاني، وكانت عنونتهما بالأرقام، لأولهما الرقم (1)، ولثانيهما الرقم (2)، وبشكلٍ مغايرٍ للعناوين الفرعية، التي سارت عليها الرواية، في بنائها لعتبةِ كلّ فصلٍ من فصولها.
كانت اللغةُ العربيةُ الفصحى هي لغة السرد الرئيسة، بما في ذلك لغة الحوار التي حضرت المحكيةُ فيها بنسبةٍ محدودة. وقد اتّسَمَتْ لغةُ العملِ بسلاسةِ الصياغةِ وانسيابها، وظهر اهتمامٌ واضحٌ بالاشتغال المكثف على الرؤية السردية وأبعادها، وهو ما تَرَتَّبَ عليه تجاوزُ بعضِ التفاصيلِ، وغيابُ بعضِ الأحداث؛ من ذلك مصيرُ زوجة شخصيةِ الرواية، فقد ظهرت حينما ورد حديثٌ عن زواجها، ثم اختفت، وقد أوْحَتْ حياةُ "حكيم" -فيما بعد- بحياته التي عاشها مع زوجة ابنه وأحفاده أرملًا أو مُطَلِّقًا، وكلا الاحتمالين لم يظهرْ ما يحيلُ عليهما أو على واحدٍ منهما.
أمّا النهايةُ، فقد آثرَ العملُ أن يتركَها مفتوحةً على أكثرِ من احتمالٍ متعلقٍ بمصير الشخصية. من تلك الاحتمالات ما أشارت إليه الرواية، كالقول إن "حكيم" ذهب إلى الحج، أو إنه تعرّض لحادث. ومنها ما تُرك؛ ليستخلص كلُّ قارئٍ نهايةً متسقةً مع مهارتهِ وإمكاناتهِ التأويليةِ والتحليلية.
الهوامش:
(1) صادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة، ط1، القاهرة، 2017م.
(2) نجيب مقبل، "مفارقات إنسانية في زمن الحرب؛ قصتان من زمن الكفاح المسلح"، منصة خيوط: 28 أكتوبر 2021م. متاحٌ على الرابط:
https://www.khuyut.com/blog/human-paradoxes