تُلقي الانتخابات الرئاسية الأمريكية عادة بتأثيراتها على السياسات العالمية كافة كل أربع سنوات. وتهيمن وقائعها واتجاهاتها على مختلف وسائل الإعلام، وتؤدي شخصية الرئيس الجديد وتوجهاته وانتماؤه الحزبي دورًا كبيرًا في التأثير في كثير من علاقات الولايات المتحدة الدولية، ووجودها في الخارج من عقد اتفاقيات السلام والتعاون وحل النزاعات، إلى شن الحروب وكذلك عقد التحالفات.
سارت الحملة الرئاسية الأميركية 2020، على إيقاع عددٍ محدود من القضايا؛ فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وآثاره الاقتصادية الضارّة، والاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للعنصرية والمطالِبة بالعدالة العرقية، وأخيرًا النزعات الاستقطابية الانقسامية في المجتمع الأمريكي وشخصية الرئيس دونالد ترامب.
لم يطرح الناخبون قضايا السياسة الخارجية إلّا لمامًا. لطالما كانت السياسة الخارجية للرئيس ترامب متأرجحة على خط بياني يصعب التنبؤ بها، ويسودها نهج انفرادي يغلب عليه الحضور الطاغي لشخصية الرئيس، أدى ذلك -بطبيعة الحال- إلى حالة من الارتباك لدى الفاعلين الدوليين، ما يثير الشكوك في استمرار صلاحية الولايات المتحدة للقيادة العالمية. أما نائب الرئيس السابق[1]، جوزيف بايدن، فسيعود إلى الأفكار المستمدة من السياسات التقليدية ليسار الوسط، التي تركز على إعادة بناء سمعة بلده وتحالفاتها في الخارج، والتأكيد على "النهج الديمقراطي"، والتركيز على سياسة المشاركة الدبلوماسية التي تهدف إلى خفض الالتزامات العسكرية الأميركية في الخارج.
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط بوجه عام، هناك تشابه إلى حد ما بين سياسات دونالد ترامب وسياسات جو بايدن، فيما يتعلق بتقليل الارتباط الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط وتقليل الدور القيادي فيها. والأمر أصبح توجهًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة الأمريكية ولا ترتبط بشخصية رئيس معين. ويمكن إرجاع ذلك إلى انخفاض الأهمية الاستراتيجية للمنطقة في منظومة المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وظهور فرص وتهديدات في مناطق أخرى على رأسها القارة الآسيوية. وبالتالي فقد كان حضور موضوعات الشرق الأوسط في الانتخابات الأمريكية محدودًا بين المرشحين[2].
وفيما يتعلق باليمن، تكمن المعضلة الأساسية في تعاطي السياسة الأمريكية معها تاريخيًّا في مقاربتها الأمنية واعتبارها مجالًا حيويًّا للمملكة العربية السعودية. فلطالما اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية اليمن بلدًا ملحقًا بالسعودية، ولذا لم تكن لها سياسة خاصة بها[3]. لم تكن الولايات المتحدة تنظر إلى اليمن إلا كمجموعة فرعية ضمن علاقاتها مع المملكة العربية السعودية حتى عام 2001، وذلك عندما أصبحت المخاوف بشأن صعود تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية هي القوة الدافعة والتأطيرية للعلاقات الأمريكية اليمنية[4]. كانت الأولوية القصوى لصناع السياسة الأمريكيين منذ عام 2001، فيما يتعلق باليمن، هي قدرة القوات اليمنية والأمريكية على المشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب في البلاد. بقي هذا الموقف دون تغيير إلى حد كبير[5]. شكلت "الحرب على الإرهاب" حجم انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في اليمن، وذلك بسبب اعتبار الأخيرة ملاذًا آمنًا للتنظيمات الإرهابية، وهذا يعد تحديًا كبيرًا للمصالح الأمريكية[6]. كان آخرها -إلى جانب غارات الدرونز- الإنزال العسكري الجوي في محافظة البيضاء بعد أيام قليلة فقط من تولي ترامب الرئاسة.
كان للاتفاق النووي الإيراني ارتداداته في عكس التباين في الرؤى والسياسات الاستراتيجية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما، وكانت الجغرافيا اليمنية واحدة من صور هذا التباين كأحد المداخل التفسيرية للأزمة التي تعصف بالبلد منذ عام 2014. كما أن التغير الملحوظ في بنية النظام الدولي، والذي تأخذ معه الدول الفواعل الرئيسية أدوارًا بارزة في محيطها الإقليمي كأحد السمات البارزة لهذا النمط الجديد الآخذ في التشكل، ربما أسهم ذلك في تشكيل مقاربة أمريكية للأزمة في اليمن على أنها مسرح للصراع بالوكالة بين السعودية وإيران. منذ[7] العام 2015، والقيادة السعودية مصممة على ترسيخ مكانة المملكة كقوة إقليمية فاعلة بغض النظر عن مخاوف الحلفاء الغربيين. وما إعلان الحرب على اليمن، في ليلة السادس والعشرين من مارس/ آذار 2015، إلا ترسيخًا لهذا التوجه.
التعهد بإنهاء الحرب في اليمن يتعارض مع تاريخ بايدن، فقد باعت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، حيث شغل بايدن منصب نائب الرئيس، أسلحة بمليارات الدولارات للسعودية[8]. ولذلك يشكك خبراء آخرون في أن بايدن سيبتعد كثيرًا عن "العمل كالمعتاد" في العلاقات بين واشنطن والرياض
غلب على قضايا السياسة الخارجية التهميش في الحملات الانتخابية الرئاسية بفعل القضايا الداخلية الضاغطة، فكذلك كانت الأزمة اليمنية غائبة عنها عدا تصريحات يتيمة، وفي سياقات لا تكترث للحالة الإنسانية. في مقال موسع له نشره على مجلة "فورين أفيرز" بعنوان "لماذا على أمريكا أن تقود العالم"[9]، كتب الرئيس المنتخب جوزيف بايدن بأنه "سوف ينهي الدعم الأمريكي للمملكة العربية السعودية في حربها على اليمن". يتمثل الدعم الأمريكي للمملكة في المعلومات الاستخبارية للغارات الجوية، الدعم اللوجستي وعمليات نقل قطع الغيار التي تبقي الطائرات الحربية السعودية في الجو. يأتي هذا التعاطي في سياسة بايدن المتوقعة خارجيًّا هو أن "الأزمة اليمنية لا تقع ضمن أولويات الولايات المتحدة الأمريكية"[10]. يتردد صدى هذه اللغة القوية في أوساط الحزب الديمقراطي بشكل واسع.
لكن التعهد بإنهاء الحرب في اليمن يتعارض مع تاريخ بايدن، فقد باعت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، حيث شغل بايدن منصب نائب الرئيس، أسلحة بمليارات الدولارات للسعودية[11]. ولذلك يشكك خبراء آخرون في أن بايدن سيبتعد كثيرًا عن "العمل كالمعتاد" في العلاقات بين واشنطن والرياض. والسبب هو أن مبيعات الأسلحة جزء محوري ومربح توفره العلاقات الاقتصادية الثنائية[12]. وقد ربما يكون التركيز فقط على مبيعات الأسلحة ذات الطبيعة الدفاعية وليست الهجومية[13]. وعلى الرغم من خطاب الحملة، لا يوجد شيء في سجل بايدن الطويل للخدمة العامة، بصفته صوتًا ديمقراطيًّا رائدًا في السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي ولاحقًا كنائب للرئيس، يشير إلى أنه سيجري تغييرًا جوهريًّا في العلاقة الأمريكية السعودية. وحتى لو كان لدى بايدن النية كاملة لمتابعة تصريحاته حول اليمن، فإننا لا نعرف ما إذا كان يعتبر إنهاء الحرب أولوية[14]. وقبل ذلك وعلى الرغم من اعتراض الرئيس دونالد ترامب على الإجراءات العقابية ضد الرياض بشأن ملف حقوق الإنسان، إلا أنه هدد في أبريل/ نيسان 2020، بوقف الدعم العسكري -الذي تعزز بعد هجمات 2019، على منشآت الطاقة السعودية- وذلك بعد حرب نفطية بين الرياض وموسكو تسببت في فوضى في الأسواق، وهددت صناعة النفط الأمريكية[15]. وكما نلاحظ في هذا الجزء من الإطار العام للسياسة الخارجية للرئيس المنتخب ولمن سبقه، هو الإشارة لليمن من زاوية جردة حساب للمصالح الحيوية الأمريكية المجردة. وكما يبدو فإن الأزمة اليمنية خارج الاهتمامات الخارجية للرئيس المنتخب، ولم تكن سوى مادة تم استخدامها في حملته الانتخابية ضد ترامب على اعتبار أن الحرب في اليمن تندرج ضمن الصراعات التي يتعذر الفوز فيها ويستنزف قدرة الولايات المتحدة على الريادة في قضايا أخرى نظرًا للغطاء الأخلاقي الحمائي الذي توفره للمملكة، على الرغم من سردية الأخيرة في استعادة الشرعية بطلب من الحكومة اليمنية.
ليس متوقعًا من المملكة العربية السعودية أن تنسحب ببساطة من اليمن دون ضمانات أمنية قابلة للتنفيذ. ولكن يمكن التفاوض على مثل هذه الشروط بمساعدة من الولايات المتحدة. على أقل تقدير، يمكن للمملكة أن توضح لإدارة بايدن الخطوط الحمراء المطلوبة كحد أدنى لانسحابها؛ إنهاء التوغلات عبر الحدود والهجمات بالقذائف الصاروخية عليها من اليمن. بالإضافة إلى ذلك، ستسعى للحصول على ضمانات تتعلق بفرض قيود على أنشطة إيران وحزب الله في اليمن، ولكن قد يتبين أن فرض تلك الضمانات أكثر صعوبة[16].
مع وجود بايدن في البيت الأبيض، سوف تواجه المملكة العربية السعودية تحديات مفاجئة مهمة على رأسها نتائج الحرب في اليمن مع الولايات المتحدة، حليفها الذي لا غنى عنه
وفي تطور ملحوظ تسعى إدارة ترامب في آخر أيامها -إذا حسمت الدعاوي القضائية بشأن الفوز بالرئاسة- إلى تصنيف جماعة أنصار الله (الحوثيين) كمنظمة إرهابية أجنبية FTO. خيار القيام بذلك الآن يتعلق بكبح جماح الإدارة المقبلة، خاصة أن إزالة التصنيف عملية سياسية وبيروقراطية صعبة للغاية. إن وصف أنصار الله (الحوثيين) بأنهم إرهابيون سيكون محاولة لمنع إدارة بايدن والعالم من التحدث معهم. تأتي هذه الخطوة بعد أسابيع قليلة من إرسال طهران أول سفير لها إلى اليمن منذ طرد الحكومة السابقة في 2015. قدم السفير حسن إيرلو أوراق اعتماده إلى وزير الخارجية في سلطة صنعاء. وتقول وزارة الخارجية الأمريكية إن إيرلو هو ضابط محترف في فيلق الحرس الثوري الإسلامي (IRGC) وعمل على نطاق واسع مع حزب الله. ويعكس اختيار ضابط في الحرس الثوري ثقة طهران بدورها في اليمن وتفاؤلها بشأن الوضع العسكري للحوثيين. إيران هي الدولة الوحيدة التي اعترفت بحكومة صنعاء، لذا لا منافسة لها في ممارسة نفوذها في نطاق هذه الحكومة[17]. الجدير بالذكر، ووفقًا لمسؤولين أمريكيين، فإنه في اليوم الذي قتل فيه الجيش الأمريكي في بغداد مطلع العام الحالي 2020، قائد فيلق القدس قاسم سليماني، نفذت القوات الأمريكية مهمة سرية أخرى ضد الممول والقائد الرئيسي في فيلق القدس الإيراني عبدالرضا شهلالي على الأراضي اليمنية، الذي ينشط في اليمن، بحسب زعمهم، إلا أنها لم تسفر عن مقتله[18].
مع وجود بايدن في البيت الأبيض، سوف تواجه المملكة العربية السعودية تحديات مفاجئة مهمة على رأسها نتائج الحرب في اليمن مع الولايات المتحدة، حليفها الذي لا غنى عنه. ولكن لا يبدو أن هناك ما يحفز جماعة أنصار الله (الحوثيين) على التعاون في مساعدة السعودية على تخليص نفسها من هذا المأزق المكلف. قد تكون مساعدة واشنطن مفيدة في حشد المجتمع الدولي للمساعدة في الضغط على أنصار الله (الحوثيين) للتعاون مع جهود الأمم المتحدة، وقد يساعد ذلك أيضًا في إقناع حكومة الرئيس المعترف به دولياً عبد ربه منصور هادي، بالموافقة على هذه الترتيبات. إذا التزمت المملكة العربية السعودية بشكل جدي بإنهاء الصراع، ووضعت الخطوط العريضة للشروط، وباشرت في تقليص وجودها في البلاد، فإن واشنطن ستعتبرها خطوة إلى الأمام في غاية الأهمية. ولكن في المقابل، فإن إنهاء التدخل السعودي في اليمن لا يعني بالضرورة انتهاء الصراع الأوسع في البلاد.
هوامش: