(بِير العَزَب) هو أحد أحياء مدينة صنعاء الحديثة التي أنشئت خارج سور المدينة التاريخية، ويقع في الطرف الغربي من مدينة صنعاء القديمة المسوَّرة، وتعود تسمية حي بير العزب، الواقع إلى الغرب من صنعاء القديمة، إلى أنّ الحي ظهر بجوار بير يملكها شخص اسمه العَزَب، فتوسع الحي جنوبًا وسيطرت هذه التسمية على الحيّ كله.
ويرْجِعُ بعض الدارسين بداية تأسيسه إلى عهد الأيوبيين، ومن بعدهم العثمانيون الأتراك(1)، وترى كلودي فايان أن الأتراك أقاموا بيوتهم في هذه البقعة الخضراء(2)، وهناك رأي آخر يشير إلى أن حي "بير العزب" استحدث في الفترة الأولى لحكم العثمانيين لليمن (1538 – 1635م)، وقد أنشئ حي "بير العزب" في منطقة حدائق وبساتين، غير أنّ معظم سكان الحي كان من موظفي الدولة العثمانية(3)، ويرى الثعالبي أنّ حي بير العزب هو المدينة الحديثة التي بناها الأتراك على الأصول الحديثة، وأحدثوا بها الطرقات الواسعة، وشيدت على حافتيها الأبنية المزخرفة، والمساكن الجميلة، ويندر وجود بيت في هذا الحي خالٍ من بستان يرتاض فيه أهل المنزل(4)، وقد اتّصف هذا الحي بالحي الفني بمختلف مظاهر الحياة فيه، ففي البناء دُور شاهقة ومتباعدة، وتقوم كل منها وسط بساتين مليئة بأشجار الكروم والمشمش واللوز والخوخ والرمان. وفوق هذه الدُّور تتمايل هنا وهناك أشجار السَّرو؛ وتبدو جنبًا إلى جنب مع قمم الجبال المحيطة بصنعاء، وعلى الرغم من ذلك فإن طابع البناء لا يختلف عن بناء منازل مدينة صنعاء القديمة، وأنه استحدث للعديد من المنازل مفرج وأمامه نافورة جميلة ترتفع منها المياه وتظللها أشجار مثمرة تحيط بها عرائش العنب، وكان حينها من أجمل أحياء المدينة لسعة شوارعه، وكثرة حدائقه وبساتينه، وكان لهذا الحي سور يحيط به ويتصل بالحي المجاور له- حي القاع.
وفي فترة متأخرة من هذه المرحلة، شيد الإمام يحيى بن حميد الدين "دار الشكر"- مبنى متحف التراث الشعبي في ميدان التحرير، جوار قبة المتوكل، وثانيهما "دار السعادة" المتحف الوطني اليمني حاليًّا، وقد كان حي "بير العزب" في فترة حكم الإمام يحيى بن محمد حميد الدين وابنه الإمام أحمد هو الحي السياسي الذي يستقبل فيه الإمام كبار زواره وضيوفه، خاصة الأوروبيين، وترى المهندسة ريم عبدالغني أنّ ثمةَ شيئًا من الشبه في مباني حيَّ بير العزب القديم في صنعاء ومباني بيوت الشام، والتي حملت تأثيرات معمارية عثمانية، سيما في تصميم غرفة الاستقبال العامة في البيت التي تطل على البستان المحيط بالمبنى بفتحات واسعة مواجهة لنافورة تتوسط شرفة واسعة(5)، وتبلغ أحياؤه سبع حارات، هي:
بير خيران، بير البهمة، حارة الصياد، البونية، القاضي، بستان المنصور، باب عبيلة، وحدوده حاليًّا كما يلي:
يبدأ خط حدوده من باب البلقة شمالًا مرورًا أمام أمانة العاصمة، فالاتجاه شمال غرب، أمام منزل القاضي عبدالكريم العرشي حتى شارع الزراعة، فالاتجاه شمالًا حتى مستشفى الكويت، ثم الاتجاه شرقًا حتى شارع القيادة، ثم الاتجاه جنوبًا شارع علي عبدالمغني حتى شارع الزبيري، فالاتجاه غربًا حتى يلتقي الخطان بباب البلقة. الحياة فيه أنيقة وهادئة، وتشبهه كلودي فايان بحي "نويللي" في باريس، وقد بنى فيه أمراء اليمن ومن بقي من العثمانيين بيوتهم بعد استقلال اليمن عن الدولة العثمانية.
ويرى رينزو مانزوني، الذي زار اليمن 1877-1878م، أنّ حي بير العزب ببساتينه التي لا نهاية لها، يشكّل مقرَّ إقامة الأتراك الأثرياء الذين بنوا منذ بضع سنين بيوتًا جميلة ومريحة، وشكّل بير العزب المنطقة الأكثر رفاهيةً وجمالًا من كل أنحاء صنعاء(6)، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ ثمَّة عددًا من الأسر التركية أحبت البقاء في اليمن، وأصبحت ضمن النسيج الاجتماعي اليمني، ونذكر من هذه الأسر التركية الأصل، اليمنية الموطن، والتي ما تزال حتى اليوم:
1ـ بيت غالب سري بك 2ـ بيت القاضي محمد راغب 3ـ بيت الخوجة 4ـ بيت طلعت 5ـ بيت رفعت 6ـ بيت شوكت 7ـ بيت بهجت.
الحياة الاجتماعية في بير العزب
اتسمت الحياة الاجتماعية في هذه المنطقة من صنعاء، بالأناقة واللطف والأنس والراحة والحياة الأنيقة، وكانت الموسيقى والطرب أبرز معززات الحياة في هذه المنطقة، وخاصة في جلسات القات المشهورة (بالمقيل) في صنعاء، وهذه الجلسات يرتادها الرجال في مقيل خاصٍ بهم وتردادها النسوة في مقيل خاصٍ بهنَّ، ويكون الطرب في منطقة بير العزب لازمة من لوازم هذا المقيل، ويرى الدكتور جان لامبير(7) أنّ: الاتصال الشعوري في جلسة المقيل يؤدي إلى تحوُّل في إدراك الزمن الحقيقي، وإسقاط الحواجز بين الموسيقى والمستمع، مع المحافظة على منطقة عدم تحديد، تعد من خصوصيات التعبير الموسيقي، معطيًا شكلًا للحنين المعقد والحي على مستويات مختلفة: فردية وجماعية ومجازية(8)، ونظرًا لما يكتنف هذه المنطقة من جمال في كل مناحي الحياة، فقد تغنَّى بها الشعراء، ومن شعر التراث الصنعاني قول شاعر مجهول:
ما نزلتك بيرَ العزب بين الشموس الحامية ** إلا ولك مقضى غرض ولَّا بنية حالية(9)
والبيت يومئ إلى أن بير العزب مهبط اللطف والأناقة والجمال، ولعل فتيات بير العزب كنَّ جميلات إلى درجة الإبهار غير سائر نساء صنعاء، لذلك فرض عليهن أهلهن الأتراك الخمار الذي لم يكن مهمًّا بين نِسوة اليمن بشكل عام والريف بشكل خاص، لأنّ المرأة في اليمن كانت مرأة عاملة في الحقل والزراعة أو تربية المواشي وغيرها من الأعمال الإنتاجية، لذلك يرى الباحث -حسب الروايات المتواترة بين الناس- أن أول من فرض إسبال الخمار على وجه المرأة في اليمن هم الأتراك سكان بير العزب، لسترهن عن أنظار العامة، ومنه أصبح متواترًا بين النسوة في سائر عموم اليمن، خاصة المدن، تقليدًا لنِسوة الأتراك في بير العزب، لذلك حينما أراد الشاعر وصف جمال حبيبته قال:
الغيد في بير العزب فِدَى لك ** البدر وجهك والقمر جلالك
وهذا يعني أنه قصد أنها أجمل من فتيات بير العزب للمبالغة بوصف جمالها، وهذا في دلالة النص ومقاصده أن بنات بير العزب جميلات جدًّا؛ لذا أجرى المقابلة بينها وبينهن، ليظهر تفوق جمالها عليهن.
الساعة السليمانية
لقد كان للمقيل الصنعاني تقاليده الخاصة وأشخاصه من الخصوص، لذلك كان المقيل هو المكان الذي يتخلص المرء فيه من كل عوالق الحياة الشاقة والتعب والمشاق اليومية، وهو الزمن الذي ينبغي للفرد أن يستغله في العودة إلى الذات والهيام فيما يدور في خلده من ذكريات قد تكون جمالية وقد تكون مؤلمة، وخاصة في الساعة السليمانية، وهي الزمن الممتد منذ غروب الشمس حتى وقت صلاة العشاء، فليس الغروب سوى مفصل يربط زمنين أساسيين، يكون تضادهما أوضح في اليمن مما هو في الغرب. وتسمية الساعة السليمانية تخص غروب الشمس، والانتقال من النهار إلى الليل، إنها في صنعاء لحظة "تغليم" وعملية يتم فيها تأمل الغروب دون إشعال الضوء، ويجد الإنسان نفسه فيها يغرق في الليل على نحو غير مُدْرَك فتبلغ المتعة عندئذٍ ذروتها، ذروة الغموض وذروة عدم التحديد(10)، والحكايات كثيرة عن الغناء والمغنين في صنعاء، إذ إن قدرة الموسيقى على التعبير الغنائي، وقدرته على إثارة عواطف المستمعين هي التي تعطي قيمة للموسيقى في جلسة المقيل الصنعاني، فقد كان الفنان قاسم الأخفش، قادرًا على أن يلج بمستمعيه حالات تفكير عميقة، فإذا كان بين الحضور شابٌ مهموم بحزن الحب، نكون متأكدين من أنه سيبكي، كما قال أحد الشهود من حضور تلك الجلسات.
ومما علق في الذاكرة -لدى الباحث- عن بير العزب ما حدثني به الدكتور عبدالله غالب سري بك، أنه كان في مقيل ببير العزب وكان ثمة مغنٍ هو أحمد عشيش (وكان يطلق عليه هزاري صنعاء لجمال صوته)، كان يعزف على العود ويغني فإذا بعصفور كان يشدو على شجرة في البستان فطار إلى "الشاقوص" الذي كان مفتوحًا، ومن ثمَّ طار وحط على العود وبقي حتى انتهى الفنان من الغناء ثم عاد بنفس الطريقة التي دخل بها إلى المقيل، وهذا يدل على اكتمال عناصر الجمال في بير العزب.
بير العزب في خلد الشعراء
أبيات من التراث، أوردها الشاعر الأستاذ حسن أحمد اللوزي في شيخ الطيور:
ما نزلتك بيرَ العزب *** بين الشموس الحاميةْ
أوشي معك مَقْضَى غرضْ *** ولَّا بُنَيَّهْ حاليهْ(11)
وفي قصيدة (في بير العزب ) للشاعر عبدالعزيز علي قاسم، يقول:
صدفت في بير العزب *** من هام به قلبي وحب
عَذب اللمى حالي الرضب *** صنْعةْ إله العالمين
كل الغواني والحسان *** والحور في وسط الجنان
قد وقَّعت لك بالبنان *** مالك مثيل في العالمين(12)
وفي قصدة الخفنجي (حوار بين الروضة وبئر العزب)، وهي قصيدة بقصد المفاخرة بين المنطقتين من حيث الجمال (سنورد هنا الأبيات الخاصة ببير العزب فقط)، يقول:
"بير العزب" قالت لروضة أحمد ** قَدْ عندنا حَمَّام ودُورْ مشيَّد
فجوبت "بير العزب" بسُرعهْ ** قالت لي الحُسن البديع جَمْعه
بين المخارف قد بقيتْ سُمْعَهْ ** والأُنس عندي كل يوم مجدَّد
فجوَّبت "بير العزب" بضحكهْ ** ومَعْنصهْ فيها غُنِجْ وحَرْكه
قالت معي حمَّامْ وسوقْ وسكِّهْ ** وسَمْسَرهْ للبَانيانْ ومجرَدْ
ما فرضنا والفخْر بالمساجدْ ** وكل راكعْ في الظلامْ وساجدْ
ما نفتخر إلَّا بغصنْ مايِدْ ** عليه شحرور السرورْ غرَّد
فجوَّبت بير العزبْ بإنصاف ** إن كان عندشْ غَيْلْ عِنْدِيْ آلافْ
عندي هوى ألْطَفْ من المُدامِهْ ** وفي غصوني تِسْجعَ الحمامِهْ
وفوق رَوْضي تِبْكي الغمامِه ** وانتي قبيليِّه من أهل محْفَدْ
قام "الجراف" واستجردَ (الخزاين) ** وقال في "بير العزب" محاسِنْ
فيها من الجوِّ الطريَّ معادن ** ما مثلها في الأرضْ، ليس يوجد
وفي الرياضْ معْنى وكَرمْ طيِّبْ ** والطير في أغصانها يشبِّب
والسُّحْبْ فيها للحيَا مطنِّبْ ** لها حديث الحُسْن صار مُسْنَدْ (13)
نتمنى أن نكون قد نقلنا للقارئ الكريم صورة موجزة عن نشأة هذا الحي الصنعاني الأنيق والجميل، وما يتحلى به سكانه من أخلاقيات وسلوك يومي يمارسها كطقوس يومية.
الهوامش:
ـ عبدالرحمن بجاش، لغلغي في صنعاء، مكتبة ابن خلدون صنعاء، 2021م، ص19.
2ـ كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، وزارة الثقافة والسياحة صنعاء، 2004م، ص121.
3 ـ الموسوعة الحرة.
4 ـ عبدالعزيز الثعالبي، الرحلة اليمنية، مركز الدراسات والبحوث اليمنية، ط2، 2013م، ص90.
5ـ ريم عبدالغني، في ظلال بلقيس، د.ت، 2012م، ص34.
6 ـ رينزو مانزوني، اليمن رحلة إلى صنعاء، الصندوق الاجتماعي للتنمية صنعاء، ط1، 2011، ص223.
7 ـ باحث فرنسي في مجال الموسيقى اليمنية.
8 ـ انظر: جان لامبير، طب النفوس، وزارة الثقافة والسياحة،2004م، ص208.
9 ـ أورده الأستاذ/ حسن اللوزي في مغنَّاته (شيخ الطيور).
10 ـ جان لامبير، ص40.
11 ـ حسن أحمد اللوزي، موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين، دائرة التوجيه المعنوي، ط2، ج2، ص131.
12 ـ الموسوعة، ج4، ص226-227.
13- انظر: د.إبراهيم أبو طالب، في الأدب الشعبي، مكتبة الكلية، ص130-134.