يجب التنويه في البداية، إلى أنّ "بيت الزوقبي" هي الرواية الأولى لعبدالرحمن الغابري، الذي تجاوز بها الإطار المعروف عنه عند المتابعين للشأن الثقافي؛ باعتباره مصوِّرًا فوتوغرافيًّا محترفًا، نقل تفاصيل الحياة العامة في اليمن خلال عقود طويلة. ونحن لسنا هنا بصدد تقييمها فنيًّا، بقدر ما نحاول تتبّع تيمتها الرئيسة، التي بدَت عندنا تتصل بحالة التنوير.
في العتبة
يقول أكثر من روائي: إنّ الصفحة الأولى مهمّة جدًّا في جذب القارئ للعمل السردي عمومًا، ويذهب بعضٌ آخر إلى القول بأنها هي التي تجعل المتلقي يقع في غرام الكتابة من عدمه، ويبدو أنّ الصفحة الأولى من رواية "بيت الزوقبي"، قد استطاعت أن تجذب القارئ، بدايةً من الإهداء (إلى الإنسان اليمنيّ الذي غُيِّب عن حرية الحياة)، والأبيات الشعرية للشاعر اليمني عبدالله البردّوني، التي اتكأ عليها الكاتب ليجذب القارئَ لمعرفة مرامي النص، الذي يشير عنوانه إلى سجن النساء بمحمولاته الشتى.
صدرت الرواية عام 2023، عن دار عناوين، وتقع في 133 صفحة من القطع المتوسط، وتأخذنا في رحلة عبر زمن ما قبل ثورة 62، والمكان السردي فيها هو إحدى قرى ريف اليمن، وداخل أحياء صنعاء القديمة (المدينة) كما كانوا يطلقون عليها، حيث تجمع بين الواقع والتخييل، في قالب حكائي ممتد، وغير مركب.
رحلة الداخل
تدور أحداث الرواية في قرية صغيرة في إحدى المناطق النائية في اليمن، وتحديدًا إحدى مناطق محافظة إب، فمن خلال هذه الرحلة استطاع الغابري أن ينقل صورة مصغرة للواقع، ويرسم لوحة حية وواقعية للحياة في قريةِ الشخصيةِ المحورية في النص (سام)، والقرى الأخرى من خلال رحلته من الريف إلى صنعاء مرورًا بمدينة ذمار.
تمكّن الكاتب، باستخدامه تقنيةَ الوصف والتفاصيل ببراعة، من جعل المتلقي كأنه يعيش زمنيًّا في تلك الفترة شديدة الخصوصية.
مقولة (موت المؤلف) التي أطلقها الناقد الفرنسي "رولان بارت"، والتي تعني "تحرير النص من سلطة المؤلف وإخضاعه للقارئ"، يبدو أنها لا تنطبق على هذه الرواية؛ لِمَا للمؤلف من سطوة واضحة على الشخصية المركزية، فقد سكب جزءًا بائنًا من قناعاته الحياتية في بنية النص، وهو ما سيلاحظه القارئ المتابع له ببساطة.
"صَيَاد" التنوير
استخدم الكاتب أسلوبَ السرد المتصل، وعلى نفَسٍ واحد، وبإيقاع حدثي واحد، من خلال بطل الرواية، الطفل "سام"، ذي الأحد عشر عامًا، الذي لم تعجبه طريقة التعليم في القرية. وعندما تناهى إلى سمعه أنّ هناك طرقَ تعليمٍ في المدينة أفضل بكثير ممّا هو موجود في قريته، بدأ رحلة البحث الطويلة (تفكيرًا وتأملًا). في طريق رحلته هذه، قابل "صَيَاد"، التي ستصير في النص، وقبلها في وعي الكاتب، رمزًا للمعرفة والضوء والمنطق والثورة والأمل، وعلى لسانها ينتصر العقل على الخرافة.
دعته (حارسة العسل) إلى "الوادي"، وهناك رأى جنّة مصغّرة لما يريد، ومكانًا مختلفًا عن قريته وما يماثلها من القرى، فقد وجد الوادي يعج بالخيرات، ويحوي حضارة بادت بفعل أسلاف الهلاميين الخمسة الذين تفرغوا لإرساء قواعد الجهل واستغلال الدِّين للسيطرة على المجتمع.
ومن خلال السرد -الذي تداخل في بعض الأماكن "بذات" السارد، مما حول التداخل إلى تقريرية- يصل "سام" إلى قناعة بضرورة السفر إلى صنعاء، مدينة الأحلام والخيال التي راودته كثيرًا في أمنياته، وبتشجيع كبير من "حارسة العسل"، وهناك استقبلته صنعاء بتنفيذ حكم الإعدام بأحد الثوار، وهو المشهد الذي تكرر خلال إقامته، وظلّ عالقًا في ذهنه للأبد، ورغم مشهد الإعدام فإن المدينة أدهشته بتفاصيلها وأسواقها وتعرجاتها، التي أخذتها من إنسانها المسكون بالبساطة.
ومن خلال "صياد" التي أصبحت مرادفًا للتنوير، استطاع الكاتب استثمار الأسطورة وتحويلها من أسطورة سلبية (بوصفها جِنّية شريرة) إلى حالة إيجابية لإيصال رسائله بمدلولاتها الرمزية الكبيرة.
من خلال رحلته على "الحمار"، يعكس الكاتب مهارته في التصوير الفوتوغرافي بتحويل الصورة إلى وصف جميل يعكس ما كانت عليه القرى، ويحيل بطريقه أخرى إلى كيف أصبحت، وقدرته على إحياء المناظر بأسلوبه الفريد، يقابلها عدم قدرته على إحياء شخصيات الرواية ونفخ الروح فيها، رغم مخزونه المعرفي عن اليمن وإنسانها.
علاوة على ذلك، تتناول الرواية قضايا اجتماعية وثقافية هامّة، تسلط الضوء على قيود المجتمع التقليدي من عادات وتقاليد تخص المرأة، وتناولها بطريقة سريعة لسجينات "بيت الزوقبي"، وتعكس الرواية أيضًا التضحية والمسؤولية، عن طريق الثوّار الذين لم يَيْئَسوا رغم حفلات الإعدام التي تقام لهم، ويحاولون الخروج من الجحيم مهما كلفهم الأمر.
تتجلى القضايا الكبيرة التي حملها الكاتب، بينَ ثنايا الرواية. ومن خلال السارد، أظهر ما خفِيَ على الأجيال اللاحقة من حقائق تلك الفترة الزمنية، وهي حقائق يجهل الكثيرون تفاصيلها.
حاول الكاتب أن يتعامل برؤية شمولية، وأن يتوسع في الكتابة في الجوانب الاجتماعية والسياسية التي يمر بها المجتمع، والتحديات التي يواجهها الفرد في بيئة تقليدية محافِظة. ويعرض تفاصيلها بأسلوب واقعي، وهو ما أثَّر على الجانب التقني في الرواية، ومن خلالها حاول الكاتب أن يتعامل، وبشكل مباشر، مع "الثيمة" الأساسية للرواية؛ وهي الصراع بين الجهل وملحقاته وبين التنوير (الهلاميين الخمسة وصَيَاد)، ويسلط الضوء عليها بشكل مكثف، وهو ما جعلها في بعض الأوقات كتابة تقريرية.
تُجسّد الرواية، ضمن سياقها الحكائي، معاناة النساء من خلال فتاة جميلة دخلت السجن بسبب وشاية شخص نافذ لم يستطع الوصول إليها. وتعرض تفاصيل حكائية متعددة لما كان يحصل في البيت من تجاوزات، وفي مقدمتها المعاملة السيئة للسجينات، وتخلي الأهل عنهن بسبب ما يترتب على سجنهن من نبذ المجتمع لهم.
مرور عابر على البيت
استطاع الكاتب أن يُسقط الماضي على الحاضر، من خلال الغوص في رحلته الزمنية؛ لينقل للمتلقي كيف كانت الأوضاع ما قبل ثورة 62، وبيان الدور المصري والعراقي في توعية الطلاب، من خلال الأستاذين وتدريسهم علومًا حديثة، وإعطائهم كتبًا تنويرية لقراءتها، من منطلق أنّ المعرفة هي الخلاص.
ومع أن اسم الرواية شديدُ الدلالة، فإن موضوعه لم يظهر إلا في الفصل التاسع عشر من الرواية، ليتضح أنه عبارة عن السجن الذي اختزله اليمنيون وخصصوه للنساء، فالقارئ يتوقع أن يجد ما يُشبع فضوله في عنوان العمل، إلا أن الكاتب مرّ مرور الكرام.
ويُجسّد في هذا الفصل، معاناة السجينات من خلال فتاة جميلة؛ "مريم" التي دخلت السجن بسبب وشاية شخص نافذ لم يستطع الوصول إليها. يعرض الراوي، في تفاصيل حكائية متعددة، ما كان يحصل في بيت الزوقبي من تجاوزات، وفي مقدمتها المعاملةُ السيئة للسجينات، وتخلي الأهل عنهن بسبب ما يترتب على سجنهن من نبذ المجتمع لهم، فتضطر الأسر إلى التخلي عنهن في سبيل الحفاظ على الصورة الاجتماعية، حتى ولو كان سجنهن بتهم ملفقة، ولولا وعي شقيق مريم الذي تعلم ودرس وأصبح قبطانًا، ووعدُه لها بالعودة والإفراج عنها، والمال الذي كان يرسله لها وتغدق فيه على "السجانة" والأخريات، لضاعت واندثرت وسط السجن، كالكثيرات.
الخلاصة وخلاصتها
بعد أربع سنوات قضاها "سام" في المدينة، وصل إلى قناعة أنه "لا بد من ثورة تجتث كل هذا الظلم". هذه العبارة التي مسّت شغاف قلبه، وجدها ضمن عبارات مشابهة في كتاب أعطاه إياه الأستاذ المصري. ومن خلال الأحداث، استطاع الراوي أن يرمز إلى الأفكار والقِيَم التي يرغب في نشرها وتعزيزها في المجتمع من خلال أحداث وشخصيات الرواية؛ كاغتصاب ابن الشيخ لأخت الراعي منصور، جشع وبخل المشايخ، استغلال السجينات مِن سجّانيهن، وهي الحالات التي ما زالت مستمرة إلى اليوم.
ويتضح من خلال السرد، أنه يمتلك وعيًا اجتماعيًّا عميقًا، فهو يشتبك مع القضايا الاجتماعية، ويعبّر عن قلقه إزاء الموروث الديني والاجتماعي الذي يواجهه المجتمع، ويسعى إلى توجيه الانتباه والتفكير في هذه المسائل.
يظهر الراوي بوصفه أحد الأفراد المتحمسين للتغيير والتحول في المجتمع، فقد حاول أن يعمل على إلهام القراء ودفعهم للنظر في الواقع المحيط بهم، وتحفيزهم للمشاركة في تحقيق التغيير الإيجابي، من خلال حديث "حارسة العسل" عن حضارة اليمن العظيمة، وعدم الاستسلام للمسلَّمات، بل ونقضها، مما يعكس بوضوح خلفية الذات الساردة لا شخصية البطل، فقد حمل الكاتب على لسان بطل الرواية أفكارًا كبيرة وقضايا تتجاوز عمره.
وهنا يتجلى دور الكاتب بصفته شخصية أمامية في رواية "بيت الزوقبي"، من خلال رؤيته الشاملة، وتناوله للمشكلات الاجتماعية، وتوجيهه للرسائل، ووعيه الاجتماعي، ودعمه للتغيير في المجتمع.
(**)
ما يجب التنويه إليه في ختام هذه المقاربة؛ القول: إنّ الكاتب استطاع أن يوظف "بيت الزوقبي" كسُلَّم للوصول إلى غايته من كتابة الرواية في كونها حكاية جميلة لطيفة، قد يرويها آباء وأمهات اليوم لأحفادهم مستقبلًا.