يحتفظ لفظُ "الخالة"، في التداول الشفاهي والذهنية المجتمعية في اليمن، بدلالته الرئيسة على (أخت الأم)، بما فيها من إحالاتٍ على صلة القرابة بين الأختين (الأم/ الخالة)، وعلى عاطفتيهما المشتركة، التي يستمد منها وجدانُ (الخالة) حنانَ الأمومة، وبهذا الحنان تغمر الخالة أبناء أختها كحنان أمومةٍ بديلٍ، لا سيما في الظروف التي تحول بينهم وبين أمهم، سواءٌ أكانت هذه الظروف خارجةً عن الإرادة البشرية كالموت، أم في نطاق القدرة الإنسانية، كانفصال الأبوين أو ما في مستواه.
وإلى نسوةٍ لا تربطهن قرابةُ الأخوة مع الأم، يصل حنانُ الأمومة البديل، وفي مستوى غالبًا ما يكون أقل مما هو عليه في وجدان أخت الأم. هؤلاء النسوة يناديهن الطفل بهذه التسمية: "خالة". والأمر ذاته يأتي من البالغ والراشد، حينما يتحدث مع من يُكِنُّ لهنّ المودة والتقدير، والجارات هن من يغلب أن تشملهن هذه الصفة.
وفي سياقٍ متَّسِمٍ بغلبةٍ لظاهريةِ المعنى في التداولية لحنان الأمومة البديل، يدل هذا اللفظ على زوجة الأب، فقد حلَّتْ فيه محل المعاني المرتبطة بالحنان البديل معانٍ مغايرة، تصف زوجة الأب بصفات سلبية، فهي: خبيثة، لئيمة، محتقنةٌ بضغينتها المبيّتة تجاه أبناء زوجها، متكبرة، أنانية، منزوعة الوفاء والإخلاص، مغرورة، شريرة، قاسية، متسلطة، شديدة الغيرة من حب الأب لأطفاله.
وبهذه الصفات، صارت زوجة الأب نموذجًا للقسوة والظلم وانعدام الرحمة والشفقة، ولهذه القسوة مواقف واقعية، قليلٌ ما يظهر منها على السطح، كحادثة مقتل الطفلة سبأ على يد زوجة أبيها (خالتها)، التي أسرفت في تعذيبها بوحشية مفرطة، وأسدلت الستار على مسرح التعذيب بانتزاعها روح الطفلة خنقًا بكلتا يديها[1].
ولا يعني ذلك تعميم هذا النموذج من القسوة على كل زوجة أب، فهناك كثيرٌ من زوجات الآباء ذوات حنانٍ ورقةٍ توازي حنان الأم، بل هناك من يؤكد أنه وجد من خالته حنانًا وعطفًا وعنايةً بشكل لم يجده من أمه. كثيرون يؤكدون ذلك وهم ممن لهم معايشةٌ لبيئةٍ أسرية، تملك زوجةُ الأب فيها صلاحياتٍ في تسيير شؤونها. ومع ذلك، فهذا النموذج السلبي لشخصية الخالة، هو المكرس في الذهنية المجتمعية، وهو المتردد في المقول الشفاهي، بنمطيةٍ مطردة.
· "دَبْجَة خالة":
لا يحمل اللفظ (دَبَجَ)، في هذه المقولة، المعنى الذي ورد له في المعجم الفصيح: "(دَبَجَ) الشيءَ - دَبْجًا: نقشه وزيَّنه"[2]؛ فقد ورد في اللهجات اليمنية مغايرًا لهذه الدلالة، وحمل دلالةً محكيةً بحتة: "الدَّبْج: الضرب -وليس اللّكم أو اللّكز- باليد مكورة وخاصة على الظهر. دَبَج فلان فلانًا يَدْبجه دَبْجًا ودَبْجَة واحدةً: ضربه على ذلك النحو"[3]. كما أنه الضرب براحة اليد غير مكورة، خاصة على الظهر، في سياقاتٍ مختلفة ومتعددة، من التداول الشفاهي في اللهجات اليمنية.
يتسع مصدرُ الاضطهاد، فلم تعد الخالة مصدره الوحيد، إذ يشترك معها في ذلك أبناؤها، فيساندونها في اقتراف القسوة على إخوانهم غير الأشقاء، فقط لأنهم وقعوا في دائرةِ من كانت (الخالة) هي أمهم البديلة
تتردد هذه المقولة، في موقفٍ يتمتع فيه شخصٌ ما تجاه شخصٍ آخر بظاهرية المودة أو بمسؤوليته عنه، يستغل ذلك في ممارسته ضغينةً مكتومةً تجاه الآخر، الذي سرعان ما يشعر بتجاوز الأمر إلى قصدية الإضرار المغلف بضمنية المودة والنفع؛ فيعبر عن شعوره، بأن هذا الإضرار يشبه إضرار الخالة بأبناء زوجها، مستغلةً مسؤوليتها عنهم كأمٍّ بديلة، في إفراغِ شحنةِ غيظها منهم. غيظها الذي يغلب عليه أن يكون ذا مرجعيةٍ وجدانيةٍ ذاتيةٍ في نفسها، تتلخص في الغيرة منهم، غيرةً لا واعية في ارتباطها بحقيقة أنهم أبناء امرأة أخرى كان -وربما لا يزال- لها مكانها في قلب أبيهم.
· عيال خالة/ ابن خالة:
تأتي هذه المقولة في سياق الاستغراب من قسوةٍ متماديةٍ في الإضرار بِمَنْ تقع عليه، فردًا كان أو جماعة، فتستوعب هذه المقولة قسوة الموقف، وتحيل عليها بمضامين قسوة الخالة على أبناء زوجها.
ويمكن الاستشفاف من لحظات الاستئناس بالمقولة معنى مطمورًا في ثناياها، هو معنى يقترب من التواطؤ الجاثم في اللاوعي من الذهنية الاجتماعية، التواطؤ على وقوع القسوة والضرر المفرط على هذه الفئة التي خص القدر أصحابها بزوجة أب مسؤولة عنهم، أو لديها ما يمنحها سلطةً تُمَرِّرُ من خلالها قسوتها على أبناء زوجها. وفي هذا التواطؤ تلوح أنانيةٌ مواربةٌ، تنتصر للذوات المحظوظة بأمومةٍ مستقرةٍ، أو لم تكتوِ بواقعٍ قاسٍ اعتادت على معاناته فئةُ (عيال الخالة).
وهنا يتسع مصدرُ الاضطهاد، فلم تعد الخالة مصدره الوحيد، إذ يشترك معها في ذلك أبناؤها، فيساندونها في اقتراف القسوة على إخوانهم غير الأشقاء، فقط لأنهم وقعوا في دائرةِ من كانت (الخالة) هي أمهم البديلة.
لذلك، تجد الأخ الشقيق، حينما يشعر بقسوةِ شقيقه عليه حدّ التمادي المبالغ فيه، يرفع في وجهه جوهرَ هذه الفكرة في صياغةٍ تنبيهية: "أنا أخوك مش ابن خالتك"، ينبهه بأنه أخوه وابن أمه، وليس أخًا غير شقيق، يعبر عن تَذَمُّرهِ، وتذَمُّرُهُ هنا ليس تذمرًا من القسوة ذاتها، وإنما من أنها لا تليق بشقيقه عليه، وكأن القسوةَ مستساغةٌ من الأخ في حق أخيه غير الشقيق. وفي ذلك ترسيخٌ في اللاوعي من الذهنية الاجتماعية فكرة أن المعاملة القاسية لابن الخالة تقع في حدود المقبول، أو أن معاملته بقسوةٍ ليس سلوكًا منبوذًا، مثلما سيكون عليه فيما لو كان في حق شقيقٍ من شقيقه. وفي أخف التوصيفات لهذا النسق الذهني، أن معاملة ابن الخالة معاملة قاسية في حدود المستطاع التغاضي عنه.
فمتى ستتجاوز الذهنية الاجتماعية هذا التكريس المتعسف في حق ابن الخالة؟ بل متى سيُعْفى اليمنيون من انسحاقهم بمعاملةٍ قاسيةٍ -فقط- لأنهم يمنيون؟ ومتى سيزول عن حياتهم الحديثة والمعاصرة تأطيرُهم -حيثما حلوا، وأينما ارتحلوا- في دائرةٍ من المعاملةِ المغلقة على (عيال خالة)؟!
· دي ما هُوشْ مُصْلَحْ، لُامهْ ماهوشْ مُصْلَحْ لْخالْتُهْ:
في مساحاتٍ جغرافيةٍ من اليمن -وبشكل أكثر تداولًا في المديريتين المتجاورتين (الحشأ/ ماوية)، وما يحيط بهما من مديريات أخرى- تأتي هذه المقولة وفقًا للخصائص الصوتية واللغوية في جغرافية انتشارها تلك، وأول خاصية صوتية تظهر في اللفظ (دِي) الحامل معنى اسم الإشارة (الذي). كما تظهر خاصية التركيب (ما هُوْش) حاملًا معنى النفي، الذي يؤديه التركيب الفصيح (لم يكن). ومثل ذلك هي خاصيةُ وصل همزة القطع في (أمه) المتصلة بحرف الجر (اللام) الذي حلت حركة (الضمة) فيه محل حركة (الكسرة)، مع تخفيفٍ لتضعيف صوت (الميم) في (أمه) واستقرار السكون عليه.
وتظهر خاصية السكون على أواخر الكلمات، في كل كلمة من كلمات المقولة. كما تظهر خاصية تسكين حرف الجر (اللام) قبل اللفظ (خالته)، الذي فيه حضرت خاصيتان إضافيتان من خصائص المحكية في جغرافية التداول، هما: تسكين صوت (اللام)؛ عوضًا عن حركته الفصيحة، وخاصية ثبات حركة (الضمة) على التاء المربوطة.
وجاء معنى اللفظ (مُصْلَح) من المحكية البحتة، دالًّا على قيمة البِرّ المناقض للعقوق. وبذلك فمعنى المقولة: أن الذي لم يكن بارًّا بأمه، فإنه لن يكون بارًّا بخالته زوجة أبيه.
تحيل المقولة على مواقف يهيمن فيها التَّفَهُّمُ لسلوكٍ غير مقبولٍ من شخصٍ ما تجاه أمرٍ أو شخصٍ آخر، ويستأنس هذا التفهم بالسمات الشخصية للمخطئ، وأبرزها في هذا السياق، عدم اعتياده على أن يكون نافعًا لأقرب الناس إليه، وعليه فمُستبْعَدٌ أن يكون مأمولًا فيه النفعُ للبعيد عنه. وبذلك فمضمون المقولة، هو: أن الشخص المعتاد على عقوق أمه، لن يكون بارًّا بخالته زوجته أبيه.
وهنا يُسْتَشَفُّ تواطؤٌ آخر، التواطؤ على أن العقوق لزوجة الأب من ضمنيات النسق الاجتماعي المستساغ. وقريبٌ من ذلك ما تجده على لسان أمٍّ متذمرةٍ ومستاءةٍ من عقوق ابنتها أو ابنها، فتصب استياءها في استدعاء جوهر المقولة وصياغتها بما يتسق مع الموقف، فتقول للعاق (ابنها/ ابنتها): "أنا أمك، مش خالتك!"، وهو النسق المتواطئ مع استبعاد طاعة الأبناء لزوجة أبيهم، كما أنه تكريسٌ غير واعٍ لتقبُّلِ معاملةِ الخالة زوجة الأب معاملةً غير حسنة، إن لم تكن معاملةً سيئة في كثيرٍ من تجلياتها.
في كثيرٌ من السياقات الاجتماعية والمواقف الواقعية، تحظى الخالةُ فيها بجوهرية معناها، لكن يمكن القول إن للذهنية الشعبية قصديةً مواربةً، في تكريس المعاني المناقضة لجوهرية الحنان التعويضي في دلالة (الخالة).
· خَلِّيْ خَبَرَك لَيُوم العيد:
المعنى الذي تقوم عليه المقولة هو: احتفظ بكلامك إلى يوم العيد. وأصل المقولة هي الحكاية المتداولة، التي تتضمن: أن ولدًا كان كلما جاء أباه مستأذنًا أن يتحدث معه في شيءٍ ما، ينصدم بقوله: "خلي خبرك ليوم العيد". امتلأ الولد بغيظه منتظرًا حلول العيد، وحينما حل اليوم المنتظر، فاجأ أبيه بتذكيره، أن هذا هو اليوم الذي يُرَحِّلُ إليه إعطاءه فرصة الحديث معه، أعطاه الأب الإذن بالحديث، فصعقه بقوله: "زَوِّجني خالتي!!".
يبلغ في هذه المقولة تكريسُ فكرة معاملة الخالة معاملة سيئة ذروتَه. وفي سياق المقولة، لم تعد الخالة في موقع الظالم بل أصبحت في موقع المظلوم بشكل فجّ. وليس من الممكن القولُ إن هذه المقولة لها حيثيات اضطهادية ترسَّبتْ حممًا انتقامية في نفس الولد؛ لأن الذي يستطيع قول ذلك مطمئن إلى سلامته من العقاب على كلامه، ولو كان للخالة سلطتها الاضطهادية لخشي ردة فعلها.
وجوهر المقولة يفضي إلى أن بؤرة الغيظ عند الولد مصدرها الأب لا الخالة، كما تفضي إلى أن الولد في عمرٍ يتسق مع مضمونها وأبعاده الدلالية. فللزواج أبعاده الإحالية كتعبيرٍ عن رغبةٍ انتقامية، تكون الغريزة أقصى مستوياتها التعبيرية، ومَنْ ترد على لسانه هذه الجملة، لا شك أنه في سنِّ مَن لا يجهل معناها. وهذا ما يؤكد تَحَوُّلَ الخالةِ من ظالمٍ إلى مظلوم.
يتسع مضمون المقولة، ليضعنا أمام فكرةٍ تبريريةٍ لورودها على لسان قائلها، فهو راغبٌ في الانتصار لذاته، وفي التعبير عن احتقانه من تسويفات والده بطريقةٍ مهينةٍ لشخصيته، ولتحقيق ذلك اختار خالته محوريةً لمضمونِ المقولة؛ ليصل في استثارته حفيظةَ والده أقصى مدى، وهو اختيارٌ مبنيٌّ على فرضيةِ مكانةٍ عاليةٍ تحظى بها خالته في قلب أبيه.
وفي هذا الاختيار يتمظهرُ تكريسُ اللاوعي في الذهنية المجتمعية مكانةَ (الخالة)، واستمراء معاملتها معاملةً لا تستقيم مع المعنى الذي تَبَلْوَرَ فيه مسماها، معنى الحنان البديل والأمومة التعويضية.
ولا يعني ذلك أن هذا التكريس قد قضى على جوهرية معنى الخالةِ كأمٍّ بديلة، فكثيرٌ من السياقات الاجتماعية والمواقف الواقعية، تحظى الخالةُ فيها بجوهرية معناها، لكن يمكن القول إن للذهنية الشعبية قصديةً مواربةً، في تكريس المعاني المناقضة لجوهرية الحنان التعويضي في دلالة (الخالة).
الهوامش:
[1] تفاصيل الجريمة وتداعياتها ومآلاتها، في هذا الرابط:
https://almawqeapost.net/news/52824
آخر تصفح: الثلاثاء: 5 يناير2021.
[2] مجمع اللغة العربية، "المعجم الوسيط"، مكتبة الشروق الدولية، ط4، القاهرة، 1425هـ/ 2004م. ص:(268).
[3] مطهر علي الإرياني، "المعجم اليمني (أ) في اللغة والتراث، حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية"، دار الفكر، ط1، دمشق، 1417هـ/ 1996م، ص:(256).