في غرفة لا تزيد مساحتها عن 30 مترًا مربعًا، تقع في الطابق الأخير لمبنى في قلب مدينة المكلا (عاصمة محافظة حضرموت)، تحتوي على عدد من حاملات اللوحات وألوان وأوراق بيضاء، يتردد عليها أكثر من (100) فنان محلي، وتقام بين جدرانها المعارض الفنية للصغار والكبار، بالإضافة إلى دورات تعليم الرسم والنحت والتطريز وغيرها من الفعاليات الفنية.
"مرسم ملتقى الفن" يمثل المتنفّس الوحيد للفنانين التشكيليين في محافظة حضرموت، والمكان الذي يحتضن الفنون ويحافظ على استمرارية وجودها في هذه المدينة.
وراء هذا المرسم قصة نجاح لفتاة لم تتوقف يومًا عن الحلم، وعن العمل والسعي لتحقيق هدفها ورسالتها في الحياة، وهي أن تعيد إيمان الناس بالفَنّ، وأن يعود ليحتل مكانه المناسب في المجتمع وفي تفاصيل حياة أفراده.
مشوار الألف ميل
عبير محمد الحضرمي، فنانة تشكيلية حضرمية، تخرّجت من كلية التربية الفنية عام 2014، وكحال الكثيرين، وجدت عبير نفسها في حالة من اليأس والتخبط بعد التخرج؛ بسبب عدم وجود مكان يستوعب الفنانين في المجتمع، وبسبب قلة فرص العمل المتاحة أمامهم في هذا المجال.
تقول عبير لـ"خيوط": "على الرغم من وجود فراغ كبير للفنّ في حياتنا بشكل عام، إلا أن عدم إيمان المجتمع بأهمية تواجده أدّى إلى انعدام فرص العمل أمام خريجي الأقسام الفنية بشكل عام".
تضيف أن هناك تجاهلًا كبيرًا وممنهجًا للفن، يبدأ من تعطيل حصص التربية الفنّية في المدارس بمختلف مستوياتها، واعتبار حصة التربية الفنية "وقتًا إضافيًّا" يمكن أن يأخذه أي معلم آخر ليكمل منهجه مثلًا. هذه الأماكن كان من المفترض أن يتم ملؤها بخريجي التربية الفنية والفنون الجميلة ليقوموا بدورهم المهم في تنمية مواهب الطلاب، وإعطائهم مساحة حرة للتعبير عن أنفسهم.
كانت النظرة السلبية للمجتمع ثاني هذه التحديات وأصعبها، في ظل ما واجهته وتواجهه من أسئلة عن جدوى ما تفعله! وأن الأفضل لها أن تبحث عن فرصة عمل حقيقية تكسب منها ولا تستنزفها بشكل دائم، بحجة أن "الفن لا يؤكل عيش".
كل هذه الأسباب دفعت عبير إلى البحث عن مهن أخرى لا تتناسب مع ما تمتلكه من مهارات وخبرات، ولكنها لم تتخلَّ يومًا عن شغفها في الرسم والفن، وظلت تمارسه بإيمان ومثابرة.
اتجهت في فترات كثيرة للعمل الإداري، لكنها لم تتوقف عن ممارسة هوايتها في الرسم، إذ تعتبره جزءًا منها ومن تكوينها، وتعبر فيه عن نفسها في الحياة.
خلال هذه الفترة، شاركت في العديد من المعارض الفنية المحلية، وافتتحت مشروعًا صغيرًا لبيع اللوحات عبر "الأنستغرام"، وغيرها من الفعاليات والأنشطة التي تربطها -كما تقول- بالأشياء التي تحبها.
مرسم ملتقى الفنّ
تم افتتاح المرسم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، بجهد وتمويل ذاتي وبدون دعم أي جهة خارجية، تقول عبير- مالكة المشروع: "إن الفكرة كانت تلاحقها منذ أكثر من أربع سنوات، وكانت تأمل أن تتمكن من تأسيس مركز فني متكامل يشمل جميع الفنون بأنواعها المختلفة، مثل الرسم والنحت والمسرح والموسيقى، ولكن مثل هذا المشروع كان يحتاج لرأس مال كبير، أكبر من قدرتها الشخصية، بالإضافة إلى عدم وجود داعمين، دفعها للعدول عن هذه الفكرة، والاكتفاء بإنشاء المرسم.
بعد الكثير من الوعود والخيبات، أدركت عبير -وفق حديثها- ضرورة أن تبدأ وتعمل بمفردها. كانت مؤمنة كليًّا بأن هناك حاجة أصيلة لدى كل إنسان للفنون بشكل عام، وهناك فراغ كبير في إشباع هذه الحاجة في البلاد بشكل عام.
بدأت بتشغيل المرسم ونفّذت العديد من الفعاليات والمعارض والدورات الفنية، مثل دورات تعليم الرسم على الجدران، والرسم الزيتي، وتعليم الرسم للصغار، وغيرها.
تتابع عبير حديثها بالقول: "المرسم الآن يقوم بتشغيل نفسه بنفسه؛ فمن رسوم الدورات أقوم بدفع الإيجارات وفواتير الكهرباء وغيرها من التكاليف، والشيء المهم جدًّا بالنسبة لي أن يبقى هذا المكان قائمًا، ولو بأقل التكاليف الممكنة".
ثلاثة تحديات
مرّ مشروع عبير الفنّي النوعي بالعديد من الصعوبات والتحديات، خصوصًا في بداية تكوينه وتدشينه.
تُجمِل عبير ما مرّت به، في ثلاثة تحديات؛ يأتي في طليعتها التمويل الأساسي للمشروع، وخصوصًا الإيجارات، وضرورة الدفع بالريال السعودي وليس بالعملة المحلية، الذي يفرضه المؤجرون حاليًّا، فإيجاد مكان مناسب وسط المدينة حتى يتسنى للجميع الوصول إليه كان يحتاج إلى مبلغ مالي كبير، ورحلة البحث كانت طويلة، لكنها وجدت المكان المناسب في نهاية الأمر.
في حين كانت النظرة السلبية للمجتمع، ثاني هذه التحديات وأصعبها، في ظل ما واجهته وتواجهه من أسئلة عن جدوى ما تفعله! وأن الأفضل لها أن تبحث عن فرصة عمل حقيقية تكسب منها ولا تستنزفها بشكل دائم، بحجة أن "الفن لا يؤكل عيش"، وأن حالة الحرب الدائرة حاليًّا والوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد جعلت من الحديث عن الفن "رفاهية وترف".
أمّا التحدي الثالث، الذي لم تكن تتوقعه أبدًا، فهو عدم تفاعل الفنّانين أنفسهم، وعدم التزامهم تجاه فنّهم؛ فالكثير منهم يبدي الحماس للمشاركة في المعارض والدورات، ولكنهم يفاجئونها بالانسحاب في آخر اللحظات!
ألوان السلام
نظرًا لأهمية الفن في بناء السلام، حيث إن الفن هو انعكاس لما يعيشه الإنسان من أوقات فرح وحزن وصراعات وأفكار، وهو مساحة الإنسان للتعبير عن نفسه وإيصال ما يشعر به؛ لذا يكون للفنان -خصوصًا في البلدان التي تعيش حالة من الصراعات- محورًا مهمًّا من محاور صناعة السلام ونشره في المجتمع، ولكن هذا لا يتحقق إلا حين يكون الفنان نفسه واعيًا بدوره وبأهمية قضيته وحتميتها.
"ألوان السلام" هو آخر البرامج التي قام مرسم الفن بتبنيها وتنفيذها مؤخرًا، بتمويل من معهد جوته الألماني، وضمن مشروع الشبكة الثقافية اليمنية؛ حيث تم تدريب مجموعة من الفنانين على أساسيات صناعة السلام وكيفية خلق فنون تدعم التوجه السلمي وتنبذ العنف والتطرف، ومن خلال المشروع تعرّف الفنانون على الأدوات المناسبة، مثل الألوان والرموز التي تدعم فكرتهم، وأهم اللوحات التي تتحدث عن السلام عبر التاريخ.
في هذا الخصوص، تقول عبير إن الفنّ مثله مثل المهن الأخرى، يهدف إلى توصيل رسالة معينة، ولكن قوة الفنّ تكمن في قدرته الهائلة على الانتشار والتأثير والوصول لأكبر شريحة من الناس؛ فمثلًا قد يرسم الفنان جدارية تنبذ العنف في أحد شوارع المدينة، ويستطيع أن يراها الكبير والصغير، والمعنف والمسؤول والإنسان العادي، فهي رسالة عميقة تؤثر على الناس بشكل سلس وتدريجي وتجعلهم أكثر إنسانية ونبذًا للتطرف والعنف، فالرسم هو جوهر الفنّ وسِحره وتفرّده.