عندما وقف "الخادم" والشيخ أمام من يسجّل الأسماء في جمارك المفاليس، وهي النقطة الفاصلة بين يمن الإمام ويمن بريطانيا، كان قاسم صالح يدرك أنّ الوقت لم ينضج بعد، وأنّ الظروف المحيطة به لا تزال تكبل الحياة كلّها بمعانٍ رسختها التربية والجهل، وتخلف فرضه غياب المربي (الدولة)، وقراءة متعسفة للنص يفسرها من يشاء بما يرسخ القيم التي تحفظ الفوارق بين الطبقات.
كان بإمكان "الرُّز" أن يقول: "اسمي قاسم صالح"، خاصة أنّ الشيخ لم يكن ليحتج، فهو يناديه باسمه، حتى اعتمد صاحبه لقبًا جديدًا ترسخ في أذهان الجميع.
كان قاسم صالح والشيخ من ضفتي الوعي الجمعي، قد التقيا عند حاجةٍ جمعتهما فلم تنفك عراها إلّا بالموت، حيث سبق قاسم قاسمًا.
بين "كدرة قدس" و"المُصلى"، حيث نجمة سعيد الشيباني، لا تزال تعمر زاوية السماء معتلية شجرة راجح إلى المفاليس و"خبت" و"الرجاع" و"السبت" إلى "لحج" فـ"دار سعد" حتى "عدن" سرى الليل وا نائم على البحر، ومن عدن إلى "الراهدة" إلى "القاعدة"، حيث يلتقي مطلع بمنزل، ويقف حمود عبدالله يستقبل القادمين، وأولهم "الرُّز" الذي يأتي بخبر وأخبار صاحبه.
تعز كانت مساحة لتجربة القدرة على الحياة، وإليها كان يأتي رجل حاملٌ رسائل الشيخ إلى مقام الإمام، راجلًا على قدميه، عنوان القوة التي تجعله يأتي إلى صالة ويعود منها إلى الكدرة في نفس اليوم، بالجواب.
تقول الحكاية التي كانت الجدات تهمس بها في آذان خيالاتنا الغضّة، إنّ "الرُّز" ظلّ ثلاثة أيام بلياليها "يُضارب" النمر حتى فتك به، وعندما كان أيّ أحد يسأله عن صحة ما حدث، يبتسم ابتسامة ذات مغزى.
بمرور الأيام، كنت تحس أنّ هذا الرجل أمامك، ظلّ يدرك تمامًا أنّ الوقت لم يحن بعد، فالجهل المخيم لا يتيح الفرصة لقفزة إلى الأمام، فظلّ عند النقطة التي فرضها التطور الاجتماعي البطيء، والذي ظلّ يرسّخ قيم الجهل. كانت سمعة "الرُّز" بوفائه ورجولته تسبقه، وفي تلك الليلة وقفت تلك القيم معه.
في صباحات الأعياد، كان مرفعه يُحيى الكون، وتتردّد أصداؤه في جنبات الجبال المحيطة، ويقوم بدوره في العالم المحدّد له من قبل "شيخ مشايخ الجنس الأسود"، يقوم بواجبه في الأعراس خير قيام.
كانت فاطمة "تُشرح" النسوان، فالليلة كانت ليلة الشيخ، ستزف إليه تقوى، وقد ذهبت ياقوت وزعفران "قبّاضات"؛ وهن من يحملن شنطة العروس، وتمسك بيدها الأخرى حتى لا تقع؛ فـ"المردوء" يعني الغطاء الأبيض يغطي عينيها، ولا ترفعه إلّا بعد الجلوس وراء العريس، حيث ترفعه القباضة بعد أن يكون العريس قد داس على قدمها عند باب الغرفة حتى لا تتسيّد عليه، كما كان يقال!
في الساحة الصغيرة، كانت النساء والرجال مجتمعين -لم يكن أحد يستنكر ذلك- تتمايل أجسامهم على صوت و"دَف" فاطمة، التي انبهر حتى الليل بجمالها.
كان "الرُّز" لحظتها في عالم آخر، وشقيق فاطمة يعاند لا يرغب أن يزوجها به. في لحظة النشوة، همس في أذن الشيخ أنّ صهره المستقبلي يرفض، فلم يتردّد الشيخ في أن يشدّ ملامح وجهه تجاه عبدالله، ويفرض ما أراده "الرُّز" وفي تلك الليلة!
حكاية طويلة ظلّت ولا تزال رُبى الكدرة تتحدّث عنها؛ علاقة حبّ قصوى جمعت الرز بفاطمة، ويا ويل من يقترب من أسوارها.
ظلّت فاطمة ملهمةً للرجل الذي كان يهمس في أذني في بيت وادي المدام: "عندما أرى جيبي خاليًا، أغلق بابي ولا أمد يدي لأحد"، كان شهمًا رجلًا حقيقيًّا.
تبدّت رجولته في المخا، حيث كان الناس يحسمون خلافاتهم معظم الوقت بالعراك، تتحدّث المخا القديمة أنّ "الرُّز" ظلّ ليلة يعارك إلى جانب الشيخ حتى نالا ما يبتغيان، وذلك ما رفع أسهم "الخادم" كما كان البحار القديم يتندر به، لكنها صفة لم تتردّد في بيت الشيخ، ولا حتى في أوساط المجتمع القروي الذي طالما أحبّ "الرُّز" لأنّ الشيخ يحبه، وثانيًا لشهامته.
سنحت له الفرصة أكثر من مرة، ليركب البحر إلى العالم الذي لا يفرق بين شيخ ومهمش كما نقول الآن، "الرُّز" لم يعانِ التهميش فقد كان حاضرًا في المشهد بقوة.
لكنّه كان يدري أين ينتهي عالمه:
"في صباحات الأعياد، كان مرفعه يُحيي الكون، وتتردّد أصداؤه في جنبات الجبال المحيطة، ويقوم بدوره في العالم المحدد له من قبل "شيخ مشايخ الجنس الأسود"، يقوم بواجبه في الأعراس خير قيام، وعندما يفد ضيوف الشيخ إلى الديوان كان يدري ما يفعل، لكنّه يحدّد المساحة التي على الآخرين أن يقفوا عند حوافها ولا يتقدموا نحوه!".
كان حسّاسًا لكرامته، أمّا فاطمة فقد حدّد أمامها خطًّا أحمر لا يجوز لأحد تجاوزه.
رزق بولديه "الدباشي" وإسماعيل، فكانا حكاية المواسم؛ لأنّهما حملا قيم والدهما. الدباشي اتّجه إلى العمل كما هو المحيط، حيث يتوجه الشباب إلى من سبقهم للعمل في تلك الورشة، وذلك الدكان.
عندما وصلت السيارة إلى المنطقة هجر قريته الأهجوم، وصعد إلى الكدرة.
صارت لأولاده سيارة يبحثون عن الرزق بها، فكان لا بُدّ له أن يصعد.
(**)
صار إسماعيل حديث الناس لقيمه الرفيعة وحسن تعامله مع الآخرين، وفي لحظة قاسية اختطفه ملك الموت في حادثة مؤلمة، بكاه الناس، وشاخ الرُّز بسبب موته، لتموت فاطمة. هنا انتهت الحياة بالنسبة للرز.
في آخر زيارة له، قلت:
نظر إليّ:
اكتشفنا جميعًا بعد وفاة إسماعيل، أنّه كان عضوًا في الحزب الاشتراكي.
عالم الرز بكلّ قيمه لم يعد له وجود، صباحات العيد غادرت، وصارت القرى مجرد ذكريات "مذرورة" في طرقاتها الضيقة.